ثم غير دار الأرقم دار أبي سفيان، والمسلمون يذكرونها لقوله - عليه السلام - يوم فتح مكة: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.» وتقع دار أبي سفيان بمكان يقال له: القبان بشارع المدعى، وما بقي منها اليوم لا يمت إلى أصل بنائها بصلة أو نسب، بل دخل في أرض عمرتها الحكومة المصرية على عهد محمد علي، وأقامتها إلى جانب تكية فاطمة التي أنشأتها الحكومة العثمانية إذ ذاك، وأكبر الظن أنها عمرتها لتكون مدرسة يتعلم فيها أهل مكة؛ فتقسيم البناء على ما رأيته يشهد بذلك، لكن الحكومة العثمانية صاحبة الأمر في الحجاز لم تر أن يبقى المكان مدرسة بعد أن جلت عنه قوات مصر، فجعلت منه مستشفى للمجاذيب الذين يخشى خطر هياجهم، أما اليوم فهو مستوصف يزوره الناس ويصرف منه الدواء، ولقد لقينا الموكل به، وهو سوري، فدار معنا في جوانبه، فكان مما رأيناه به مسجد صغير يقال: إنه قائم موضع دار أبي سفيان حيث كانت على عهد الرسول، وبهذا المستوصف حديقة في داخله ترى فيها من الشجر الأخضر ما لا ترى منه بمكة إلا في بيوت ذوي اليسار.
ويذكرون دار أم هانئ، وهي الدار التي كان بها الرسول - عليه السلام - ليلة الإسراء، وليس لهذه الدار اليوم أثر، فقد دخلت في المسجد حين توسيعه، وهي الآن إحدى المدارس المتصلة بالمسجد إلى جوار باب الحميدية، ويطلق عليها اسم مدرسة أم هانئ.
ووقفنا عند دار قال الشيخ عبد الحميد: إنها دار الصديق، ولم أعثر بهذا الاسم في تواريخ مكة، وهي مقفلة اليوم لا يدخلها أحد، وموقعها إلى جوار البازان المجرور من عين زبيدة بالمسفلة، ولست أدري مبلغ ما في نسبة هذه الدار إلى الصديق من صحة.
لم يطم الوهابيون الآبار، ولم ينقضوا الدور كما هدموا قباب قبور المعلاة، ولعلهم لم يروا الناس يعكفون على الآبار ما يعكفون على القباب؛ فكفاهم أن أقفلوا الدور وأن تركوا الآبار لمن شاء أن يغتسل منها، كما تركوا من شاء يتوضأ من ماء زمزم، لكنهم كانوا أشد بطشا بآثار أخرى، حتى لقد عفوا عليها ولم يتركوا لهذا ذكرا، وكانت هذه الآثار أعز على المسلمين من كل ما تركوا، ولا عجب فهي مولد النبي، ومولد فاطمة ابنته، ومولد علي بن أبي طالب ابن عمه وصهره وأخيه حين آخى بين المسلمين في المدينة، وأنت تمر بها اليوم فتحسبها ميادين خالية حينا، معمورة بالخيام حينا آخر، وكثيرا ما تراها مناخا للإبل في زمن الحج، وإن قوما يرونها اليوم وكانوا قد رأوها من قبل أن يطمس الوهابيون على آثارها فيحز الألم في نفوسهم، وتخنق بعضهم العبرة وقد تسيل على خده أسفا لما أصاب هذه المواقع التي كانت من قبل موضع إكبار وتقديس كما يجب أن تكون، بل إن منهم من يهون على نفسه هدم القباب، ومنهم من لا يرى به بأسا؛ لكن هؤلاء وغيرهم يرون في التعفية على معالم هذه الأماكن التي ولد فيها الرسول وابنته وصهره وزرا لا يعدله وزر، وإكبار هؤلاء لما صنع ابن السعود ورجاله من إقرار الأمن والنظام بالحجاز ومن القضاء على المنكرات فيه، لا يثنيهم عن مصارحة وزرائه وعن مصارحته هو، برأيهم وإنكارهم هذا القضاء على آثار للرسول وأهل بيته قضاء لا مسوغ له.
ويشعر أولو الأمر من الوهابيين بما في قول هؤلاء من صحة، ويرون أن رجالهم الذين فتحوا الحجاز ودخلوا مكة غلوا في تطبيق المذهب غلوا كبيرا حين هدموا من الآثار ما هدموا، قال لي أحدهم: لو أن الملك ابن السعود كان على رأسهم لما وقع من ذلك كل ما وقع، لكنا وجدنا أنفسنا أمام الأمر الواقع، ولسنا نستطيع أن نصرح للناس بأن غزاتنا الأولين أخطئوا؛ فهم أصحاب الفضل في الفتح، وهم الذين طوعوا لابن السعود البلوغ بالحجاز في مضمار الإصلاح إلى ما بلغ، على أن شعورنا نحن بخطأ هؤلاء الغزاة يدعونا إلى التفكير في إصلاحه، ولقد فكرنا في أن ننشئ مكان مولد الرسول دارا للكتب تضم كتب التفسير والحديث والسنة جميعا، لكن صعوبة واجهتنا لم نستطع التغلب عليها، فقد وقف علماء نجد يسألوننا: وكيف تضعون في هذه الدار كتبا تنطوي على ما يحكم مذهبنا بخطئه؟! إنكم إن فعلتم تكونوا قد ارتددتم عن المذهب، ونزلتم على حكم أهل الحجاز، وقلبتم فتحنا إياه استعمارا مكان استعمار، ونحن إنما فتحناه لإقرار حكم الإسلام الصحيح فيه.
قال محدثي: هذه صعوبة واجهتنا لم نستطع التغلب عليها؛ فنحن في حاجة إلى إقرار الرأي العام في نجد أعمالنا لأنه سندنا، وما لم نستطع التوفيق بين سياستنا ومعتقداته فلا بد لنا من النزول على حكمه، فللملك ابن السعود خصوم من رؤساء القبائل في نجد يتهمونه بأنه سخر عقيدة أهل نجد الإسلامية لأغراضه ومطامعه السياسية، فلما تم له ما أراد، واستتب له أمر الحجاز، أنس إلى الطمأنينة بترك أهل الحجاز يزاولون من العقائد ما يجاور الشرك ويأباه الإسلام؛ ولذ له الفتك بمن يثور على هذه العقائد من أهل نجد أولي الحفاظ على الدين الصحيح والمذهب السليم، وهذا كلام يلقى آذانا تسمعه وتسيغه، فلا بد لنا من التوفيق بين آراء العصر الحاضر بما لا تأباه العقيدة السليمة عندنا، وبين تصور قومنا لموجب هذه العقيدة، ونحن لا نستطيع أن نقنع أحدا منهم بفكرة حرية الرأي، فحرية الرأي عندهم معناها حرية الباطل في غزو العقول؛ لذلك لم نجد بدا من أن نعرض عن إقامة دار الكتب في موضع مولد النبي، وأن نؤثر عليها إقامة مسجد يذكر فيه اسم الله وتلقى فيه التعاليم الإسلامية الصحيحة.
ولم أجد ما أعترض به على هذا الكلام بعد الذي ذكرته في فصل «مكة الحديثة» من حديث الشيخ حافظ وهبة مع علماء نجد عن التعليم، وراقني أن يبنى مسجد حيث ولد من يذكر اسمه إلى جوار اسم الله في كل مسجد؛ محمد عبد الله ورسوله، ثم إني خشيت أن يكون حظ هذا المسجد كحظ مساجد مكة إذ يذرها الناس ابتغاء مثوبة الصلاة في المسجد الحرام وعند البيت العتيق، لكن محدثي طمأنني إلى أن المسلمين سيجدون لا ريب من المثوبة في الصلاة بالموضع الذي ولد فيه رسول الله ما يدعوهم إلى الإقبال على هذا المسجد إقبالهم على المسجد الحرام أو بعض إقبالهم عليه.
ويقع مولد النبي بشعب بني عامر في أحياء مكة من شرقها، والخلاف يقع على هذا المكان: أولد فيه النبي حقا؟ ولقد أورد صاحب المواهب اللدنية مما روي من ذلك ما قيل من أنه ولد بمكة في الدار التي كانت لمحمد بن يوسف الثقفي، وكانت في هذا المكان المشهور اليوم، ومن أنه ولد بشعب بني هاشم، ومن أنه ولد بالردم، ومن أنه ولد بعسفان، ثم إن المسلمين تواضعوا في عصور متأخرة على أن المكان المشهور اليوم هو مولد الرسول، ومنذ القرنين السادس والسابع الهجريين بدأ ملوك الإسلام في اليمن وفي مصر يفكرون في عمارة هذا المكان، ثم فكر ملوك بني عثمان في عمارته في القرن العاشر الهجري؛ فأقيمت فيه قبة عظيمة ومنارة ورتب له مؤذن وخادم وإمام، وكان الطريق المجاور لهذا المكان يرتفع عنه نحو متر ونصف متر، وكان النازل إليه ينحدر على درج يصل به إلى فناء وصفه البتانوني في رحلته، وذكر أن طوله يبلغ اثني عشر مترا في عرض ستة أمتار، وفي جداره الأيسر باب يدخل الإنسان منه إلى القبة، حيث يجد مقصورة من الخشب، في داخلها رخامة قد تقعر جوفها لتعيين الموضع الذي ولد فيه الرسول، ومن هذه القبة ومن الفناء خارجها تتكون دار مولده - عليه السلام.
نقل صاحب مرآة الحرمين قول العياشي في رحلته تعليقا على موضع المولد: «ويبعد عندي كل البعد تعيين ذلك من طريق صحيح أو ضعيف؛ لما تقدم من الخلاف في كونه بمكة أو غيرها، وعلى القول: بأنه فيها ففي أي شعابها؟ وعلى القول بتعيين هذا الشعب ففي أي الدور؟ وعلى القول بتعيين الدار فيبعد كل البعد تعيين الموضع من الدار بعد مرور الأزمان والأعصار وانقطاع الآثار، والولادة وقعت في زمن الجاهلية، وليس هناك من يعنى بحفظ الأمكنة، لا سيما مع عدم تعلق غرض لهم بذلك، وبعد مجيء الإسلام قد علم من حال الصحابة وتابعيهم ضعف اعتنائهم بتعيين الأمكنة التي لم يتعلق بها عمل شرعي لصرفهم اعتناءهم - رضوان الله عليهم - لما هو أهم من ضبط الشريعة والذب عنها بالسنان واللسان، وكان ذلك هو السبب في خفاء كثير من الآثار الواقعة في الإسلام من مساجده - عليه السلام، ومواضع غزواته، ومدافن كثير من أصحابه، مع وقوع ذلك في المشاعر الجليلة، فما بالك بما وقع في الجاهلية ؟! لا سيما ما لا يكاد يحضره أحد إلا من وقع له كمولد علي، ومولد عمر، ومولد فاطمة - رضوان الله عليهم جميعهم.»
عفى الإخوان الوهابيون كذلك على كل أثر لمولد فاطمة، فهو الآن فضاء كمولد أبيها، وما ذكره المؤرخون عن مولد الرسول، يصدق على مولد ابنته في مبلغ ثبوته، وفاطمة قد ولدت بدار خديجة، كما ولد بها أبناء النبي، وبدار خديجة أقام النبي منذ تزوجها إلى أن هاجر من مكة، أي: من الخامسة والعشرين إلى الخمسين من سنه؛ فهي إذن قد شهدت بعثه، وشهدت ائتمار قريش به وأذاها إياه وتعذيبها أصحابه لعقيدتهم، ولقد نزل عليه الوحي فيها غير مرة، فطبيعي - وذلك شأنها - أن يبقى على التاريخ أثرها، وفي نفوس المؤمنين جميعا ذكرها.
Неизвестная страница