وعبادة الله والاستعانة به تقتضيانك علم ما خلق، والسعي في مناكب الأرض، وإدراك أسرار الحياة، وأنت أعظم اتصالا بالله كلما كنت من هذا العلم وهذا السعي وهذا الإدراك أكبر حظا، وإيمانك الحق بهاتين الكلمتين ينقلب إيمانا آليا لا ينفع ولا يضر إذا لم تسع ولم تدرك ولم تتصل بنوره العظيم، إذا علمت هذا وعملت به ودأبت لتدرك عظمة الله في خلقه مما نرى وما لا نرى، وما نحس وما يجاوز إحساسنا؛ إذن فلن يغلبك غالب وأنت فرد، فأما إن علمته أمة وعملت به وآمنت عن إدراك صحيح بأن الله أكبر؛ فقد حق لها أن تتولى هدى العالم إلى الحق في أسمى صوره وأرقى درجاته، هدى يصل بالإنسانية إلى ما تبغي من مجد الإخاء في الله؛ إخاء هو وحده الجدير بالإنسانية حين تبلغ من التقدم درجة حسنى.
ما بال هذه الألوف المؤلفة من المسلمين الذين يصلون الجمعة في الحرم؟! ثم ما بال إخوانهم الملايين من المسلمين المنتشرين في بقاع الأرض جميعا، وهم يؤدون صلاتهم في هذا النظام البالغ ويسمعون هاتين الكلمتين ويكررون في صلاتهم: «الله أكبر» مرات وعشرات المرات؟! ما بالهم فيما هم فيه من ضعف وجمود وخضوع لسلطان الغير وحكمه؟! فكرت في هذا حين أويت إلى الدار واعتكفت في غرفتي، فكرت فيه متألما ثائرا بهؤلاء الذين أوتوا أسباب القوة فضعفوا وهانوا، وأوتوا سبيل العزة فذلوا واستكانوا، وكيف لا تثور النفس حين ترى هذا النظام البالغ ثم ترى ما هم فيه من هوان وفوضى، ومن شأن من ينتظمهم الإيمان السليم به أن يكونوا العزة والقوة؟! ولم ألق عسرا في الوقوف على علتهم، فنظامهم هذا ينقصه الروح؛ ولذلك غاضت حياته، فانقلب آليا، فانقلبت على أهله غايته، وهذا هو السبب فيما هم فيه وما سيظلون فيه، حتى يغيروا ما بأنفسهم ليغير الله ما بهم.
الروح ينقص هذا النظام - لا ريب؛ الروح المستمد من الإيمان الكامل، أليس رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»؟ والكثرة من هؤلاء المصلين لا يفكر أحدهم في أخيه ولا يحب إلا نفسه، هو لم يحضر إلى مكة ولم يفرض الحج ولا يستوي مع الناس في صلاة الجماعة بالحرم؛ ليكون لإخوانه المؤمنين كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، بل جاء إلى مكة حاجا وحضر صلاة الجماعة ابتغاء المغفرة لنفسه والثواب لنفسه دون تفكير في المؤمنين ممن حوله، وليس هذا شأن المسلمين اليوم وفي هذا العصر الأخير وكفى، بل هو شأنهم - مع الشيء الكثير من الأسف - منذ مئات السنين التي خلت، منذ انتقل الأمر بينهم من الشورى إلى الاستبداد، ومن الاجتهاد إلى التقليد، ومن الاستهانة بالموت إلى حب الحياة، ومن عبادة الله وحده إلى عبادة المال وأرباب المال، من ذلك اليوم البعيد عنا، حينما كان تاريخ الأمة الإسلامية ما يزال مزدهرا، بدأت الأثرة تبلغ من المسلمين أن صار أحدهم لا يعرف إلا نفسه ولا يحب إلا نفسه، ويحسب مع ذلك أنه يستطيع الوصول إلى رضا الله باعتزال إخوانه المؤمنين وبالانقطاع عن التفكير في أمرهم إلى التفكير في أمر نفسه.
ومن يومئذ نسي المسلم أنه إذ يقول وهو يصلي لله: «إياك نعبد وإياك نستعين»، أنه يتحدث عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين، وكأنما خيل إليه في غروره أنه بهذه الصيغة يعظم نفسه وهو يخاطب ربه، وحيثما بلغت الأثرة من النفوس هذا المبلغ ضعف إيمانها وتزعزع يقينها وتعلقت بالحياة وأذعنت خاضعة لكل سلطان يملك عليها أسباب المادة في الحياة، هنالك تنزوي الروح ويضمحل سلطانها على النفس، وهنالك تتهلهل أواصر الاتصال بين المؤمنين وتضعف أخوتهم فيضعفوا جميعا، وهنالك تصير حياتهم حياة أفراد تنتهي بالموت، لا حياة أمة تتصل على الزمان ولها في شهدائها وفي موتاها أعلام مجد وعزة تتعلق بها وتضحي للاحتفاظ بما شادوا من هذا المجد ولإكباره والمزيد منه.
وذكرت وأنا أفكر في هذا وفي مثله أولئك المسلمين الأولين الذين كانوا يجيئون للصلاة عند الكعبة - كما نجيء نحن للصلاة عندها اليوم - فيصدهم المشركون ويؤذونهم ويبالغون في تعذيبهم، لم يكن يومئذ حول الكعبة مسجد معمور تحيط به هيبة الإسلام شأن المسجد الحرام اليوم، بل لم يكن حولها مكان مسور، إنما كان حرمها متصلا بالطريق ومتصلا بالمساكن اتصال المسعى بين الصفا والمروة في وقتنا الحاضر، مع ذلك كان المسلمون الأولون يذهبون إلى الصلاة متحدين متضامنين، وهم يعلمون أنهم معرضون للأذى وللموت، وأن تحابهم وتضامنهم يجعلانهم أكثر للموت وللأذى تعرضا.
ولقد كثر عدد المسلمين بمكة قبل الهجرة، واعتز الإسلام بحمزة بن عبد المطلب وبعمر بن الخطاب، وجعل عمر يدفع من أذى المشركين للمسلمين ما يستطيع دفعه، مع ذلك ظل المشركون على عداوتهم للنبي وأصحابه وإيذائهم إياهم، وظل المسلمون على تضامنهم وحبهم بعضهم لبعض في الله، وصبرهم على الأذى في سبيل الحق، وإيمانهم بأن النصر لهم ما صبروا، يذهبون إلى حرم الكعبة للصلاة مستهينين بالأذى وبالموت، مؤمنين بأنهم رجل واحد فلا يموتون ما بقي منهم من ينادي مؤمنا: «لا إله إلا الله الله أكبر»، محبا إخوانه في الله، موقنا أنه لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
ولم يكن هذا الحب الصادق الذي يكمل به الإيمان حب عاطفة هوجاء يرى صاحبها في الإلقاء بيده إلى التهلكة استهانة بالموت، بل كان حب تعقل وروية، وحرص على معرفة الحياة وما فيها إلى غاية ما يبلغ المرء من معرفتها في ذلك العهد، كان المسلمون يجتمعون بالرسول في كل يوم يتشاورون، وكانوا يتنطسون أخبار المشركين ليقفوا على دخائل نفوسهم، وكانوا ينافسونهم في العلم بالأمور ليدفعوا حجتهم بالحجة وقوتهم بما يستطيعون من قوة، لم يكن أحدهم يرى في الإسلام لله والتوكل عليه ما يصرفه عن التفكير ليومه وغده، ولشد أزر وليه ودفع عدوه، بل كانوا يرون في الإيمان بالله والإسلام له سموا على كل إذعان لغير الله واستهانة بكل مجهود وكل مشقة لبلوغ هذا السمو؛ وبذلك كانوا حربا على كل ضعف في أنفسهم، كما كانوا حربا على قوة خصومهم؛ من أجل ذلك استلوا من نفوسهم كل سلطان للأثرة عليها، فقوي اعتداد الفرد منهم بنفسه وحبه لإخوانه، وبذلك كانوا الغالبين.
وكان لهذا الاعتداد بالنفس مع إنكار الذات أثره في أولي المواهب، وأهل الزعامة منهم، لم يكن أحد من هؤلاء يرضى إذا آمن بشيء أن يكتم إيمانه مخافة ما يجره إعلان هذا الإيمان عليه من أذى، ولم يكن أحدهم ينتظر حتى يرى أين تكون منفعته ليكيف بوحيها رأيه أو عقيدته، بل كانوا جميعا يؤمنون بأن العقيدة والرأي معا ملك «مشاع» للجماعة، فيجب أن يطالعها الفرد بما يرى، وأن يحاول إقناعها به في صراحة وشجاعة وإيمان؛ لهذا نجم منهم القادة وأولو الرأي، وتوارى من جماعتهم المراءون والمنافقون الذين يريدون أن يتخذوا من كل شيء - حتى من الرأي والإيمان به - مطية أهوائهم ووسيلة منافعهم؛ ولذلك آمنوا بأن الروح من عند الله، وأن الحياة الإنسانية متصلة بكلمة الله، وأن الله خلق الإنسان على صورته؛ فهو - من ثم - روح قبل أن يكون مادة، وحياته - من ثم - فكرة متصلة بالروح، وليست حركة آلية، ولا حركة فطرية كحركة النبات، ولا حركة سليقية كحركة الحيوان.
Неизвестная страница