فقال: إنه الجبل القليل الارتفاع، وأن هذا الجبل هو الذي رأى علي منه المشركين وأخبر النبي بهم، وقد دلني ذلك على أن القوم يذكرون السيرة ذكرا حسنا، وإن لم يبلغ غاية الدقة، فقد بعث رسول الله علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه حين نزلوا بدرا إلى ماء بدر يلتمسون له الخبر عليه، وعادت هذه الطليعة ومعها غلامان، عرف الرسول منهما أن قريشا وراء الكثيب الذي بالعدوة القصوى، لكن ذكر القوم للسيرة لم يكفني للاقتناع بصحة ما يعينونه من مواقع الغزوة، فقد رأيت الأماكن التي يذكرونها لا يتفق تحديدها مع ما تصفه الروايات الواردة في كثير من كتب السيرة.
فأما العريش الذي بناه المسلمون لرسول الله ففي مكانه الآن مسجد يسمى مسجد العريش، وهو قد بني على طراز مساجد مكة بساطة وضيق رقعه، مع أن موقف الرسول فيه من أجل مواقف حياته، والمسجد يقع اليوم بين دور بدر، كما يقع مسجد عداس بالطائف بين دور المثناة.
وآن لنا أن نعود إلى زاوية السنوسي لنستقل السيارة إلى ينبع، وفيما نحن في الطريق سألت سادن الزاوية: أيجيء إلى بدر زوار يقفون عندها؟ وأجابني: إن الذين يجيئون إليها قليلون، وإنهم لا يقفون عندها غير ساعات كما فعلنا، وإن منهم من يكتفي بزيارة قبور الشهداء للتبرك بها وقراءة الفاتحة، وقليلون يسألون عما سألت عنه من أمر الغزوة وميدانها ومواقعه فيجيبونهم بما أجاب كثيرون به.
وتبسمت من قوله وذكرت ميدان «واترلو» حيث كانت الموقعة بين نابليون وولنجتون، وكيف صور القوم نموذجا مصغرا للميدان ومواقف الجيوش المتحاربة منه وأطوار الموقعة فيه تصويرا بارزا يسهل معه لمن شاء أن يحيط بدقائق الموقعة خبرا، وليس لموقعة «واترلو» في حياة الإنسانية بعض ما لغزوة بدر من أثر، لكنه العلم وما يكبره من عبرة التاريخ قد أدى بأهل الغرب إلى تصوير هذا النموذج البارز لموقعة «واترلو»، وهو الجهل الذي خيم على العالم الإسلامي منذ عصور الانحلال هو الذي أدى بهم إلى ألا يفعلوا من مثل شيئا يرسمون به لزوار البلاد الإسلامية المقدسة صورة صحيحة لما حدث في عهد الرسول النبي العربي.
ليس لموقعة «واترلو» ولا لأية موقعة غيرها بعض ما لغزوة بدر من أثر في حياة الإنسانية، فغزوة بدر رمز صادق للاستشهاد الصريح في سبيل العقيدة استشهادا مبرأ من كل غاية أو غرض إلا الدفاع عن هذه العقيدة والإيمان بها والدعوة إليها، وهو استشهاد صريح؛ لأنه يتم في ميدان الشرف بين جموع المؤمنين الذين يواجهون خصومهم، ليس يذهب طالبه في غسق الليل ولا في غفلة الناس ليغتال إنسانا أو طائفة من الناس؛ لأنهم خصوم إيمانه وعقيدته، بل يدعو ثم يدعو ويستعذب الأذى، ويضحي بمنافع الحياة في سبيل دعوته، فإذا اجتمع حوله قوم أنسوا في نفوسهم القوة على الدفاع عن عقيدتهم في وجه خصومهم، وهبوا حياتهم في سبيل هذا الدفاع ومشوا إلى الموت حريصين عليه، ومن حرص على الموت وهبت له الحياة، حياة خالدة في نعيم الرضا لمن استشهد، وحياة راضية سعيدة مطمئنة لمن لم تكن الشهادة نصيبه، بدر هي الرمز الخالد السرمدي لهذا المعنى السامي، أبلغ المعاني الإنسانية سموا وأعظمها جلالا، أما وذلك شأنها فليس «لواترلو» ولا لأية موقعة غيرها بعض ما لها في حياة الإنسانية من أثر.
ترددت هذه العبارة الأخيرة في نفسي والسيارات تنهب بنا الأرض إلى ينبع، فقد خرجنا من ملتويات الطرق ومنعرجاتها إلى بيداء منبسطة ذاهبة في انبساطها إلى حدود الأفق، ولم تكن رمال هذه البيداء منحلة يخشى أن تغور فيها العجلات، بل كانت رمالا شاطئية تتسرب إليها مياه البحر إلى أميال بعيدة فتكسبها تماسكا وتجعلها صلبة صلابة الأسفلت، وإن بقيت تحت عجل السيارة أكثر لينا ومرونة، ولم تكن هذه البيداء مطروقة، فلم يخط عجل السيارات فيها دروبا واضحة للسائرين، ولم يقلب بعض الأماكن القليلة التماسك منها ظهرا لبطن، كيف لنا أن نعين اتجاهنا فيها حتى لا نضل الطريق إلى ينبع؟ ما كان هذا الأمر ليعنيني لولا أن «زمزم» تبرح هذا المرفأ بعد غد، لكني ما لبثت أن اطمأننت حين رأيت دليلنا الجندي النجدي يذر مجلسه من البكس ويتخذ لنفسه مجلسا في سيارتنا ليهدي السائق طريقه، وأشهد لقد رأيت من مهارته ما أعاد إلى ذاكرتي صورة ما كنا نحفظه من الأدب العربي القديم عن دقة العرب في قص الأثر، بدأ فصور لنفسه موقع ينبع وجعل يصدر أوامره للسائق بالسير إلى اليمين أو إلى اليسار - كما يفعل ربان السفينة إذ يصدر الأوامر من مجلسه فوقها إلى الذين يديرون المحركات في قاعها - والسائق يسير بأمره منطلقا في هذه البيداء المترامية مطمئنا إلى أنه لم يضل طريقه، وبعد ساعة وبعض الساعة من خروجنا من بدر، بدت على الرمال آثار مبهمة لم أحسبها شيئا، وأيقن دليلنا أنها الدروب إلى ينبع، وأقر «حسن» رأيه فزاد في سرعة السيارة إلى غاية ما تطيقه، ومم نخشى وليس في طريقنا إنس ولا أثر لحياة، وليس فيها شبهة حجر تمر السيارة فوقه؟ واطمأن الدليل إلى أنه أدى واجبه فألقى إلي بنظرات راضية من عيون دعجاء شديدة البريق، وكأنما يسألني العفو عما سلف في طريقنا بين الحمراء وبدر، وشكرته، وأبديت عظيم إعجابي بمهارته، ونسيت له ما قال عن أهل بدر ممن يقيمون اليوم بها.
فقد ذكرت إذ عدنا من ميدان الغزوة الكبرى إلى زاوية السنوسي متخطين مقابر الأشراف والنجديين ممن دنسوا هذا المكان بالقتال فيه، أن هذا البلد يجب أن يكون حراما، ويجب أن يعرف المسلمون لأهله من الحرمة مقامهم عند الشهداء، فنظر النجدي إلى سادن السنوسي وإلى أفراد من القرية جاءوا إلينا وانضموا إلى جمعنا نظرة كلها الازدراء لهم وعدم الاكتراث بهم، وقال: «أهل بدر قوم ضعفاء.» يريد بذلك أن الضعيف غير جدير بحرمة، وإنما الجدير بها من يقدر على الدفاع عنها، ولم أعقب على عبارته هذه، وانتظرت تعقيبا ممن وجهت إليهم فإذا هم سكون لا ينبسون، ومع ما دلني ذلك عليه من أن الرجل على حق حز في نفسي أن تصيب أهل بدر هذه المهانة وقد شهدت أرضهم فوز الإيمان على الشرك في غزوة بدر الكبرى.
أنستني مهارته قالته، وأنسانيها هذا المساء المقبل البديع، فقد بدأت الشمس تتوارى بالسحب ناحية الغرب، وبدأت هذه البيداء تكسوها ظلال رقيقة تزيد بسطتها بهاء وروعة، وتزيدنا بها وبصحبتها متاعا وسعادة، وقال صاحبي مشيرا إلى ناحية اليمين: «هذه جبال رضوى.» لم أر أنا بالعين المجردة إلى ما وراء الأفق جبالا، ولم أفكر في الاستعانة بالمنظار المكبر، فقد كنت سعيدا بأننا على هدى في طريقنا، وكنت أشد حرصا على أن أرى طلائع ينبع مني على أن أرى أشباح رضوى وما يثيره في النفس من ذكريات. «هذه الآن طلائع ينبع.» كذلك قال الدليل مشيرا بيده إلى ناحية اليسار فيما أمامنا، وأسرعت إلى المنظار المكبر فصدق الدليل وكشف لي عن موج البحر، وانطلقت السيارة تنهب الأرض في سرعة كأنما جن جنونها، وفي دقائق تبدى البحر وتبدت طلائع الثغر للعين المجردة، وبعد دقائق أخرى كانت السيارة تدور حول أسوار المدينة تبتغي مدخلها لتبلغ بنا دار مضيفنا.
وتلقاني القوم في هشاشة وترحيب، وأشفقوا مما لقيت طيلة نهاري من وصب حين وصف أصحابي طريقنا من الحمراء إلى بدر، لكنني لم أكن أشعر بمشقة ولا بتعب، لقد كنت سعيدا بما رأيت، وبما أثار في نفسي من المعاني البالغة غاية السمو ، فلما آن لي أن أطمئن إلى مضجعي زدت بما انتشر أمام ذهني من ذلك سعادة ورضا، رضي الله عن أهل بدر وغفر لهم، فهم جديرون حقا بقوله
صلى الله عليه وسلم : «لعل الله قد اطلع إلى أهل بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.»
Неизвестная страница