ارتسم أمامي هذا المشهد الذي يملأ النفس رهبة والقلب إيمانا، ورأيت نفسي مقبلا على مثله في ألوف اجتمعوا من أقاصي الأرض، لا من جزيرة العرب وحدها، للفريضة التي اجتمع إليها الأولون الذين اتبعوا محمدا من نيف وأربعين وثلاثمائة وألف سنة خلت، فازدادت نفسي لليوم القريب الذي أقف فيه هذا الموقف مهابة وإكبارا، قلت لنفسي: «ها أنا ذا بعد أيام سأركب البحر قاصدا بيت الله حاجا، فإذا بلغت رابغا، ميقات الإحرام، أحرمت، وأحرم المسافرون للحج كما أحرم النبي وأصحابه، ونادى ركب الباخرة جميعا: لبيك اللهم لبيك، وامتلأت النفوس جميعا هيبة والقلوب إيمانا، رب أية شعلة من نورك الذي أضاءت له السموات والأرض ستشتمل هذه الباخرة في اندفاعها تمخر العباب إلى بيتك المحرم يلبي ركبها كلهم دعاءك، وتتجه قلوبهم كلها إليك صادقة القصد عامرة بالإيمان.
لن تكون هذه الباخرة في تلك الساعات القدسية مطية أجسام تجري فوق الماء، بل قبسا من ضياء الهدى ونور الحق أفضته على عبادك فعادوا به إليك مهللين مكبرين مستجيبين إلى ندائك القدسي الأطهر، باعك كل منهم نفسه مجاهدا في سبيلك، ونسي كل منهم هذه الحياة الدنيا فانيا في جلال جنابك، لك الجلال جل شأنك، وبك العون على الجهاد في سبيلك، وسأكون أنا واحدا من هؤلاء الفانين فيك، الصادقين في توجههم إليك، كلنا عبادك، وكلنا نلتمس غفرانك وعفوك، فاعف عنا واغفر لنا وارحمنا، اغفر لنا ولوالدينا ولمن دخل بيتنا مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات، واهدنا اللهم صراطك المستقيم، «صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين».»
امتلأت نفسي بهذا المشهد، كله الجلال والرهبة، وبلغت منها مهابته أن لم يبق فيها موضع لشيء سواه، وأجبت الذين سألوني عن شعوري نحو رحلتي - وبينهم جماعة من غير المسلمين - عما يخالج نفسي مما أرى أمامي، فرأيتهم تمتلئ قلوبهم منه هيبة وله إكبارا وإجلالا، وأي مشهد أدعى إلى المهابة الصادقة من هذه الصيحة المؤمنة المنبعثة من أعماق القلوب، تنفرج عنها شفاه عشرات الألوف من الواقفين بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة، يلبون داعي الله، متجردين من كل زخرف الحياة، عراة الرءوس، متشحين بمآزر الإحرام، معلنين التوبة عما مضى من هنات الحياة وخطاياها، منيبين إلى الله ليطهر نفوسهم كي تعود إلى الحياة في مثل براءة الطفولة؛ لتكون من بعد مثال النزاهة والفضيلة والجهاد الحق في سبيل الله جهادا يهون من كل صعب، ويهون الموت بل يحلو في سبيله.
وتعاقبت الأيام؛ ينسخ الليل النهار، ويمحو النهار آية الليل، فلما كنا من موعد السفر على يومين جاء أهلي من الريف يهدون إلينا تحية الوداع، وكلهم مطمئنو النفوس، كبيرو الرجاء في الله، وكلهم يطلبون إلي ما طلبه قبلهم كثيرون غيرهم، أن أقرأ لهم الفاتحة عند بيت الله وعند قبر رسوله
صلى الله عليه وسلم ، وأن أدعو لهم الدعوات الصالحات، فلما كان الصباح الباكر من يوم الثلاثاء 25 فبراير 1936 ذهبنا إلى محطة «كوبري الليمون» لنستقل قطار «الديزل» الذي يشق الصحراء إلى السويس، ولقينا المودعون بالمحطة يرجون لنا حجا مبرورا وذنبا مغفورا وسفرا موفقا وعودا حميدا، وانطلق القطار يشق الصحراء براكبيه الذين اختاروا آخر باخرة من بواخر الحج، وبلغنا السويس، وأخذنا أوراق سفرنا، وأقلتنا السيارات إلى بور توفيق وإلى مرسى الباخرة «كوثر»، وعلونا الباخرة ولما يكن الزوال قد آذن، وجعلت أطوف في أرجائها ألتمس من أعرف من المسافرين معي عليها، وألقيت نظري على مياه البحر الأحمر في خليج السويس، فذهب خيالي مع الأمواج يتقلب بعضها فوق بعض، فخلتها آتية من جدة تحيينا وتعلن إلينا أنها في انتظار تحركنا إلى مرفأ البيت الحرام، وبقي خيالي مع موج البحر حتى ناداني من أصحابي جماعة جلست وإياهم، وجعلنا نتحدث في انتظار طعام الغداء، وفي انتظار سير الباخرة إلى الأرض الإسلامية المقدسة.
يا عجبا! أي خاطر هذا الذي يجول الساعة بنفسي وأنا أسطر مشاهدي؟! إن هذه البواخر تقوم بحجاج المسلمين من السويس إلى جدة لتصل بين مرفأ سيناء حيث كلم الله موسى، وبين مرفأ مكة حيث نزل الوحي على محمد، والذين يؤمنون برسالة محمد يؤمنون بإبراهيم وموسى وعيسى والنبيين من قبل، لا يفرقون بين أحد منهم، وهم لله مسلمون ، تبارك الله ذو الجلال! إن كل ما في الحياة ليوحي اتصال الوجود كله في الزمان والمكان في وحدة هي الحجة البالغة على وحدة بارئ الوجود - جل شأنه، وسنرى من مظاهر الوحدة الروحية في سفرنا هذا، وفي مهبط الوحي على محمد ما يزيد المسلمين إيمانا وتثبيتا.
فلأنتظر مطمئنا، فعما قليل تجري بنا الباخرة باسم الله مجريها ومرسيها، إن ربي على كل شيء قدير.
بين المرفأين
كانت الأميرة خديجة حليم قد فرضت الحج عامنا هذا، واختارت السفر على «كوثر» آخر باخرة تدركه، وكان برنامجها أن تغادر مكة طائرة إلى المدينة في اليوم التالي للوقوف بعرفة، مكتفية بالفداء عن فرائض الحج ومناسكه جميعا.
ولقد أحدث صعودها وصعود حاشيتها إلى الباخرة هرجا بين الذين سبقوهم إليها، ولم أجد لهذا الهرج مسوغا إلا في كثرة المودعين الذين كانوا أضعاف المسافرين إلى الحج عددا؟ هؤلاء أقاموا على ما طبعته الحياة الحاضرة في نفوسهم من تقديس ذوي الجاه والإمارة، أما الذين فرضوا الوقوف بين يدي الله بالأماكن المقدسة، فقد وجب أن تبرأ نفوسهم من كل تقديس لغير الله ما دامت قد فرضت أن تبرأ من الحوبات والأوزار جميعا.
Неизвестная страница