1
الحرم النبوي
ليست السكة الحديدية وسيرها وانقطاعها كل السبب إذن فيما أصاب المدينة من تفاوت الحظ، أفأصاب هذا التفاوت غيرها من مدن الشرق جميعا، أم أنها خصت منه بنصيب تفردت به؟ وإن يكن ذلك حقا فما سببه؟ أمسيت أفكر في هذا أحاول رده إلى موقع المدينة حينا وإلى تأثير هذا الموقع في طباع أهلها حينا آخر، ولقد بدا لي أثناء تفكيري ما زادني حرصا عليه وإمعانا فيه، فقد كانت يثرب حتى هجرة النبي إليها مقام الأوس والخزرج من أهلها، واليهود الذين سبقوهم إليها وأقاموا بها، وكان الأوس والخزرج إلى يومئذ ما يفتئون يقتتلون فيزيد قتالهم وتناحرهم ما لليهود بالمدينة من سلطان بقدر ما يصيبهم هم من ضعف وانحلال، فلما جمع الدين الجديد الأوس والخزرج بعد أن هاجر إليهم الرسول وأصحابه من مكة وصاروا معهم بفضل الله إخوانا متحابين متضافرين انحل سلطان اليهود وضعفت شوكتهم، ثم انتهوا إلى الجلاء عن المدينة بقضهم وقضيضهم.
لكن الأمر في المدينة لم يعد إلى الأوس والخزرج من أبناء الأنصار منذ الهجرة، وما كان هذا الأمر ليعود إليهم ورسول الله بينهم وقد آمنوا به واتبعوه ونصروه، ثم إنه لم يعد إليهم بعد أن اختار الرسول الرفيق الأعلى، على ما كان لهم فيه من مطمع، فقد انحاز حي من الأنصار عقب وفاة الرسول إلى سقيفة بني ساعدة يتمالئون على الأمر يريدونه لأنفسهم؛ فلما ذهب أبو بكر وعمر على رأس المهاجرين قام خطيب الأنصار فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد؛ فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا، قد دفت دافة من قومكم، وإذا هم يريدون أن يحتازونا من أصلنا ويغصبونا الأمر.» لكن أبا بكر لم يرض هذا القول فتحدث وختم حديثه بهذه العبارة القوية: «فأما العرب فلن تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، فمنا الأمراء ومنكم الوزراء.» ولم يغن عن الأنصار ما طلبوا من أن يكون منهم أمير ومن المهاجرين أمير بل انتهى اجتماع السقيفة ببيعة أبي بكر بالخلافة، وقبيل وفاته عهد بالخلافة إلى عمر بن الخطاب، فبايعه الناس بها ولم ينازعه أحد من الأنصار فيها، وتولى عثمان الخلافة بعد عمر وقد اطمأن الأنصار إلى أن العرب لن تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، فلما قتل عثمان وبدأ النزاع على الخلافة بين القرشيين من بني أمية وبني هاشم لم يكن لأحد من أهل المدينة فيه مطمع.
وقتل علي بن أبي طالب بالكوفة، فجعلها أبناؤه موضع نشاطهم على بني أمية، وجعل بنو أمية عاصمتهم دمشق، ثم جعل عبد الله بن الزبير مكة عاصمة ثورته، وانحلت بذلك عن المدينة صفة العاصمة، مع ذلك لم يقم من يطالب بأن تظل المدينة عاصمة المملكة الإسلامية كما كانت في عهد النبي؛ وكان لمن يطالب بذلك الحجة البالغة ، فقد تخوف آباؤهم بعد فتح مكة أن يعود النبي إلى أهله وبلده، فكان جوابه إذ بلغته قالتهم: «معاذ الله! المحيا محياكم والممات مماتكم.» وقد نزل بالمدينة من وحي الله إلى رسوله أكثر مما نزل بمكة وبأي بلد آخر، ولئن يكن بمكة بيت الله لقد مات رسول الله بالمدينة ودفن بها، لكن الأنصار آثروا العافية من يوم سقيفة بني ساعدة، وتركوا الأمر لتصريف غيرهم؛ لذلك جعلت مدينتهم تزدهر حينا وتبتئس حينا، فأين ترى موضع السر في ذلك؟!
لعل هذا السرد الوجيز السريع قد كشف عن شيء من هذا السر، فليس موقع المدينة وما له من أثر في أخلاق بنيها هو الذي أدى إلى ما أصابها من تفاوت الحظ، ولو أن الموقع كان أعظم أثرا من أحداث التاريخ لكانت المدينة - طيبة الحجاز - أسعد على الزمان حظا؛ فهي ترتفع على سطح البحر أكثر من ستمائة متر، وجوها لذلك أدنى إلى الاعتدال - على رغم وقوعها على خط العرض الذي تقع عليه الأقصر طيبة مصر الفراعنة - ثم لا ترتفع الحرارة فيها صيفا إلى ما ترتفع إليه في القاهرة أو في الإسكندرية، وتصل برودة الشتاء إلى القدر الذي يتجمد فيه الماء في الآنية ساعة الصباح، وسلسلة الجبال التي تنحدر من الشام إلى اليمن تمر شرقيها ويخرج منها جبل أحد فيكاد يجاور ضواحيها، لكن الشمال والغرب والجنوب منبسطة، كلها تنبع فيها مياه الآبار وتجري إليها مياه العيون فتخصبها وتحيطها بحدائق ونخيل وخضرة يانعة منورة في ابتسامها للحياة.
وفي هذه الجبال الواقعة حول المدينة وفي الحرار المحيطة بها يتوسم الكثيرون وجود أحجار نفيسة ومعادن مختلفة، ومهد الذهب الذي استغل إلى عهد العباسيين والذي يستغل اليوم يقع على مقربة منها، أما وذلك خصب الأرض وثراؤها، فالطبيعي أن تكون المدينة متطلع الناس لسكناها، فإذا تفاوت حظها في هذا الأمر على ما قدمنا فيجب أن نبحث عن السر في غير الموقع الطبيعي من الأسباب.
وتاريخ يثرب قبل الإسلام وبعد العصور الأولى يؤيد هذا الرأي، فهي قد كانت في الجاهلية الأولى وحين هجرة النبي إليها مقصودة لحسن موقعها، وكانت ذات أسواق وأيام، والسابقون إلى الإقامة بها هم اليهود، ولعلهم هبطوا إليها كما هبطوا إلى مدن الحجاز الواقعة في شمالها فرارا من حكم رومية وبزنطية في فلسطين، فلما حطم سيل العرم سد مأرب باليمن وهاجر أزد اليمن إلى الشمال، مالت قبيلتا الأوس والخزرج منها إلى يثرب وأقامتا بها، ورضيت القبيلتان حكم اليهود أول الأمر، ثم خرجتا عليهم وأوقعتا بهم بمعونة ملوك غسان، وظل الأوس والخزرج يتنازعان السلطان على يثرب بعد ذلك وتقع بينهما حروب ما يزال التاريخ يحدث عنها، حتى كانت هجرة النبي إليها بعد بيعتي العقبة، من يومئذ بقيت يثرب عاصمة إلى خلافة علي بن أبي طالب، هنالك اعتصم معاوية بالشام، واتخذ علي الكوفة عاصمته حتى قتل بها، عند ذلك أتيحت للمدينة فرصة تسترد بها مكانتها، فكما أدى مقتل عثمان إلى انتقاض كثيرين على علي لعدم إسراعه إلى القصاص من قتلة عثمان، فقد أدى مقتل علي ثم مقتل الحسين ابنه إلى انتقاض كثيرين على بني أمية، ولقد كان عبد الله بن الزبير من أشد أعوان الحسين إلى يوم قتله بكربلاء، فلما وقعت هذه المأساة الفاجعة ترك ابن الزبير الكوفة ولحق بمكة ودعا الناس لينضموا إليه، فخرجت مكة وخرجت المدينة على الأمويين وانضمتا إلى داعية بني هاشم، وقد جرد يزيد جيشا إلى المدينة وآخر إلى مكة، أما جيش المدينة فغزاها في وقعة الحرة وانتهك حرماتها، وأخضع أهلها، وحطم أملها في أن تعود عاصمة الإسلام كما كانت في عهد النبي، وأما جيش مكة فظل يحصر أهلها حتى مات يزيد، ثم فتحها الأمويون وقتل ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين للهجرة.
من يومئذ أذعنت المدينة لحكم بني أمية ومن قام بعدهم مقامهم، وكفى أهلها أن يكونوا موضع عناية الخلفاء وأمراء المؤمنين، وزادهم قناعة بهذه العناية أن أفنت الحروب والثورات أكثر أبنائها العرب وأحلت غيرهم من شتى الأقطار الإسلامية محلهم فيها، فلم يكن من هؤلاء من يهتز لمجدها القديم أو يثور لإعادته، وبلغت هذه العناية بالمدينة في القرون الثلاثة الأولى من الهجرة مبلغا سما بها أثناءها إلى مقام محسود من الرقي المادي والرقي الأدبي، ومن يومئذ بقيت تعتمد في حياتها على حسن توجه الملوك والأمراء والمسلمين جميعا إليها بسبب مكانتها الدينية، وفقد أهلها الاعتماد على أنفسهم.
رأيت في الفصل الأخير صورة واضحة من ذلك الاعتماد على الغير في عمارة المسجد النبوي من بعد بناء عثمان، فلما بدأت عصور الاضطراب وتداعت أركان الدولة الإسلامية، كان أهل المدينة قد فقدوا ملكة الاعتداد بالذات وأصبحوا يعيشون كلا على غيرهم من المسلمين؛ ولهذا السبب بدأ حظ بلدهم يتفاوت من اليسار أيام الاستقرار في البلاد الإسلامية، وكثرة زوار المدينة تبعا لذلك، إلى الشدة والإعسار أيام الاضطراب وانصراف المسلمين عن أداء فرض الحج وسنة الزيارة، وما حدث من انكماش سكان المدينة بعد تعطيل السكة الحديدية منذ الحرب الكبرى في سنة 1914 للميلاد يرجع إلى انقطاع سبيل الزوار أكثر مما يرجع إلى قلة التجارة، فقد انقطع الحج أو كاد أيام الحرب من خوف مفاجآت البحر؛ إذ كان يصيب «الطوربيد» السفن، ولما كان من شغل العالم بالمجزرة المروعة المنتشرة فيه عن كل شيء سواها، فلما انقطعت السكة الحديدية لم يكن عود الناس من أهل مصر والشام إلى الزيارة الرجبية ميسورا، ولما كانت الثروات التي حصلها أهل المدينة في السنوات القليلة التي سبقت الحرب وحين سارت إليها السكة الحديدية لم تستقر، فقد أصابتها الحرب والأزمة التي أعقبت الحرب بصدمة عنيفة أحدثت هذا الانكماش الذي رد سكان المدينة من ثمانين ألفا إلى ثلاثة عشر ألفا، ولو أن أهلها ألفوا الاعتماد على أنفسهم ولم يجعلوا من موسم الزيارة ومن صدقات المسلمين مورد حياتهم، لما أصابهم من الجهد ما أصابهم، بل لاحتملوا الشدة بالصبر والتمسوا الخروج منها بالحيلة، لكن الذين جاءوا إليها بعد سير السكة الحديدية إنما جاءوا يبتغون تجارة هينة ورزقا ميسورا، فلما تعذرت أسباب الرزق فروا منصرفين إلى بلادهم آملين فيها رزقا أكثر بسطة وتجارة أوفر ربحا.
Неизвестная страница