ارتدت إلى هذه السياسة طوعا أو كرها وهي تعلم أنها سياسة كاذبة خاطئة، فلماذا؟ لأن فكرة السلام ليست قائمة في أنفس بنيها وساستها على أساس من الإيمان بالسلام، وليست تصل السلام بمبدأ أسمى يكون من أمر الله وسنته في الكون، ويجعل السلام غرض الإنسانية في توجهها إلى الكمال، إنما تحركت النفوس في أوروبا إلى السلام رهبا من أهوال الحرب، وفزعا مما تجني الحرب على المصالح المادية، اقتصادية ومالية، وأهوال الحرب تنسيها متع السلم، وكما تجني الحرب على المنافع المادية فالحرب تحقق هذه المنافع وتشحذ النفوس إلى طلب المزيد منها، طبيعي إذن أن تخفق سياسة السلام إذا قامت على هذا الأساس، وإنما تنجح هذه السياسة وتستقر يوم تجمع الإنسانية على التوحيد ويكمل إيمانها به، ثم يكون الأساس لكمال هذا الإيمان أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يذكر الناس جميعا أن سعادتهم في إيمانهم الحق بالله، وأن يكون ذكرهم هذه الحقيقة عن علم ويقين، لا عن ترويج ودعاية غايتهما تحكم طائفة في طائفة أو استعلاء قوم على آخرين.
يوم تجمع الإنسانية على هذا مؤمنة بأنه من أمر الله، ويوم تئوب به إلى الله من خطاياها، يومئذ تتم كلمة الله ويكون الدين كله لله، ويومئذ تكون مكة رمز التوحيد ومقام هيكله، مثابة الناس قاطبة من أمم الأرض جميعا، فتكون بذلك مقر السلام المطمئن طمأنينة الإيمان، ومقر عصبة الأمم الإنسانية كلها.
تاقت نفسي حين بلغت من تفكيري هذا المبلغ أن أقوم فأطوف بالبيت كرة أخرى شكرا لله وحمدا، واستعانة إياه على مزيد من الهدى وعلى معرفة الحقيقة من كل جوانبها لعلها أن تنكشف لي كاملة، فأستطيع بعونه أن أحدق في نورها وأن أبلغ الرضا بالنهل من باهر ضيائها، وطوقت ثغري ابتسامة سعيدة حين هممت أن أفعل، فقد كنت أسأل نفسي عن الطواف ما حكمته؟ فأقف عند قول بعضهم: إنما الحج ومناسكه أمور تعبدية تغيب عنا حكمتها ولا سبيل للعقل إلى فهمها، لشد ما يخطئ أصحاب هذا القول! فنحن إنما نطوف بهيكل التوحيد لنرى حقيقة التوحيد من كل جوانبها، صحيح أن هذا الهيكل رمز وأن جوانبه كلها تتشابه، لكننا لا نستطيع أن نواجه الحقيقة لذاتها قبل أن نرى رمزها، ولا نستطيع أن نحيط بها كاملة دون أن نطوف بها من كل جوانبها، فإذا فعلنا أتيح لنا أن نبلغ لبابها وصميمها، كما أن الحاج لا يدخل الكعبة قبل أن يطوف بها، فالطواف إذن طريق الإحاطة بالحقيقة العليا التي يقوم البيت العتيق رمزا لها وعلما عليها.
على هذا النحو فكرت في أمر الطواف وحكمته، وإن لم أر شيئا من مثله فيما قرأت من الكتب، ولعلي لا أجد فيها شيئا يشبهه إلا أن يكون ذلك في كتب الفلاسفة والمتصوفة ومن إليهم ممن يرون الفكرة حقيقة ملموسة، بل يرونها وحدها الحقيقة الملموسة دون سواها، فأما المادة وأطوارها ومظاهرها فإلى مور دائم واستحالات متصلة لا يقر لها معها قرار، ونحن نعيش في بيئة من المادة، فنحن متأثرون بها وبأطوارها، وتفكيرنا متصل بما حولنا منها اتصالا يحول بين الأكثرين والتجرد للسمو إلى ما فوق هذه البيئة التي تجعلنا نرى الأشياء في ضوئها وبالنسبة لها، ولا نرى الحقائق الخالدة مما وراءها.
ولئن كشف العلم اليوم عن حقيقة قررها القرآن وكررها، وهي أن سنن الكون ثابتة، وأنك لن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنته تحويلا، لقد بقي التفكير الإنساني متأثرا بنسبية البيئة المادية تأثرا لا يسهل التخلص منه والسمو عليه، والأقلون الذي يستطيعون هذا السمو ممن عالجوه في الماضي لم يعالجوه على طريقتنا العلمية الحديثة التي تقرب الحقيقة إلى العقل - وإن دقت واستعصت - بل على طريقة ذاتية فيها التجرد وفيها بلوغ مراتب الإشراق الروحي مما لا يتيسر للمجموع دركه، ولو أن طرائقنا العلمية استطاعت أن تقرب الحقائق التجريدية إلى الأذهان على نحو من الثبوت يصور الأمور المجردة للحس، كما قرب الأثير إلى الذهن وحدة المكان عن طريق الإذاعة، إذن لهان أن يبلغ مجموع الإنسانية من إدراك الحقيقة العليا والحقائق المتصلة بها ما لم يصل إلى إدراكه في الماضي، وما كان وقفا على طوائف قليلة من المثقفين، بل على أفراد معدودين من هذه الطوائف.
أما والطواف رمز للإحاطة بالتوحيد ابتغاء الوصول إلى لبه، أما وللتوحيد بوصفه عقيدة ما رأيت من أثر في حياة الإنسانية وسعادتها وسلامها، فللطواف - وهو ركن من أركان الحج - حكمة بالغة.
والطواف الواجب طواف العمرة، وهو طواف القدوم، وطواف الحج وطواف الإفاضة، ويجمع بعضهم بين طواف الإفاضة وطواف الوداع؛ ذلك بأن طواف الإفاضة لا موعد له بعد عرفة ومنى، فمن الناس من يقوم به يوم النحر - كما فعلت - ومنهم من يرجئه إلى ما بعد أيام النحر، ولقد طاف النبي طواف العمرة وطواف الإفاضة وطواف الوداع في حجة الوداع، فكانت هذه أسوة ثابتة يجري عليها المسلمون يؤدون بها الركن والواجب والسنة، بل إنهم ليطوفون بالبيت طول مقامهم بمكة ما استطاعوا الطواف؛ فهم يطوفون قبل كل صلاة من الصلوات الخمس، وهم يطوفون كلما دخلوا المسجد، ويطوفون وهم في المسجد مرات عدة قبل الصلاة وبعدها، ولا عجب أن يفعلوا وقد رأى ابن بطوطة حين وجوده بمكة وزير غرناطة وكبيرها أبا القاسم محمدا الأزدي يطوف كل يوم سبعين مرة.
خرجت من المسجد بعد طواف الوداع وبعد أن دعوت الله أثناءه أن يكتب لي العودة إلى بلده الحرام والطواف ببيته العتيق، أعد العدة للخروج من مكة إلى المدينة، وأودع بعد البيت أصدقاء كانوا أثناء مقامي عندهم خير ما أرجو كرم ضيافة وحسن لقيا ودوام تأهيل وترحيب، كما كان الكثيرون منهم نعم العون لي في بحوثي، بما أسدى بعضهم من معلومات، وما أهدى بعضهم من كتب، وما أرشد إليه بعضهم من مصادر.
وقد ودعتهم وودعت مكة راجيا أن يكتب الله لي العودة إليها راضي النفس مطمئن القلب سعيدا أن فتح الله لي أثناء المقام بها آفاقا من الشعور والتفكير ما كان أحوجني إلى أن تنفتح أمامي! لأرى من خلالها هذا العالم العظيم الجليل؛ عالم الحقيقة والرضا.
طريق المدينة
Неизвестная страница