ولست أزعم أنني عثرت في أثر قديم أو مخطوط غير معروف على صورة تصف ما كان يجري بعكاظ على النحو الذي أريد أن أسطره هنا، لكنني انتزعت نفسي جهد الطاقة من بيئتنا الحاضرة وحملتها على تصور البيئة العربية قبيل الإسلام وفي فجره كما تصفها لنا أنباء التاريخ، وحاولت بذلك - وفي حدود الطبيعة الإنسانية - أن أرى ما كانت عليه عكاظ بالفعل وما كان يقع فيها، وأول ما وقفت عنده أن عكاظا تختلف بموقعها عن مجنة وذي المجاز، فهي تقع في الآفاق من مكة في حين تقع مجنة وذو المجاز منها في حدود مواقيت الإحرام؛ من ثم كان يباح بعكاظ ما لم يكن يباح بمجنة وذي المجاز من ألوان اللهو والمجون ومن ضروب التجارة والتبادل.
هذا إلى أن ذا القعدة الذي كانت عكاظ تعقد فيه لم يكن له من الحرمة ما كان لذي الحجة شهر المناسك، وكانت قبائل العرب تجتمع في عكاظ عشرين يوما من كل سنة لتبادل التجارة، وليس لها من الاجتماع غرض آخر؛ ولذلك يقول الأزرقي في «تاريخ مكة»: «وإنما كان يحضر هذه المواسم بعكاظ ومجنة وذي المجاز التجار ومن كان يريد التجارة، ومن لم يكن له تجارة ولا بيع فإنه يخرج من أهله متى أراد، ومن كان من أهل مكة ممن لا يريد التجارة خرج من مكة يوم التروية.» وهذا صريح في أن هذه الأسواق التجارية التي كانت تجمع قبائل العرب جميعا في مجيئهم لمناسكهم قد كانت أشبه بالمعارض العامة لتجارة شبه الجزيرة، والتطلع في طبيعة الناس من أهل الأمم كلها والعصور جميعا؛ وهم لذلك يقصدون هذه المعارض العامة ليروا فيها الجديد الذي لم يروه من قبل؛ وليقتنوا منها خير ما يريدون اقتناءه بأثمان تنزل بها المنافسة الشديدة في المعارض العامة إلى ما يفوق مثله في غيرها، وحيثما اجتمع الناس وتنافسوا اختلفوا وتخاصموا.
أما وبلاد العرب كانت إلى أن ألف الإسلام بينها وجمعها في سلطان واحد قبائل وحواضر، تستقل كل واحدة منها عن الأخرى، وتعتز لكل واحدة منها باستقلالها وتدافع عن كرامتها وكرامة أبنائها، فقد كان هذا مثار الجدل والفخر ومثار النزاع والحرب في كثير من الأحيان، فإذا آن للحرب أن تضع أوزارها، وللخصومات أن تهدأ ثائرتها، قام الحكماء يعظون المتخاصمين ويصلحون بين المختلفين، لا متباهين ببلاغتهم ولا مقيمين سوقا لها، بل عاملين لتهدئة الخواطر وإعادة السكينة والسلم حتى تتصل التجارة ويعم الرخاء شبه الجزيرة.
الطريق بين مكة والطائف وبين مكة والمدينة.
هذه صورة بسيطة لعكاظ وما كان يجري فيها، وهي عندي الصورة الطبيعية لهذه السوق التجارية العربية الجامعة، فأما ما يضاف إليها من صور محافل الشعر ومباريات الشعراء وتنافس الخطباء فخيال لا يصف الواقع، أبدعه الأدباء والكتاب بعد أن عفى الزمن على عكاظ، وهو خيال لا يتفق مع ما يروى عن عكاظ، وما كان يجري فيها من التجارة وما يتصل بالتجارة من لهو وعبث، وما يجر ذلك إليه من خصومات وحروب متصلة.
ذكروا أن شبابا من قريش وبني كنانة كانوا ذوي عرام، فرأوا امرأة من بني عامر جميلة وسيمة جالسة بسوق عكاظ، وقد ضمت عليها أطراف ثوبها وتبرقعت، وقد اكتنفها شباب من العرب وهي تحدثهم، فجاء الشباب من بني كنانة وقريش فأطافوا بها وسألوها أن تسفر فأبت، فقام أحدهم فجلس خلفها وحل طرف ردائها وشده بشوكة إلى ما فوق خصرها وهي لا تعلم، فلما قامت انكشفت، فضحكوا وقالوا: منعتنا النظر إلى وجهك وجدت لنا بالنظر إلى ما وراءك، فنادت: يا لعامر! فثاروا وحملوا السلاح، وحملته كنانة، واقتتلوا قتالا شديدا، ووقعت بينهم دماء، فتوسط حرب بن أمية واحتمل دماء القوم وأرضى بني عامر من مثلة صاحبتهم.
وكان لرجل من بني جشم بن بكر دين على آخر من بني كنانة طال اقتضاؤه على غير جدوى، فلما أعياه وافاه الجشمي في سوق عكاظ بقرد ثم جعل ينادي: «من يعطيني مثل هذا بما لي على فلان الكناني؟» رافعا بذلك صوته، فلما طال نداؤه وتعييره بني كنانة مر به رجل منهم فضرب القرد بسيفه فقتله، فهتف الجشمي: يا لهوازن! وهتف الكناني: يا لكنانة! فتجمع الحيان للقتال، ثم كفوا أن حمل ابن جدعان ما له بين الفريقين.
وكان بدر بن معشر الغفاري رجلا منيعا، مستطيلا بمنعته على من ورد عكاظا، فاتخذ مجلسا بها وقعد فيه باسطا رجليه وجعل يقول: «أنا أعز العرب، فمن زعم أنه أعز مني فليضرب هذه بالسيف فهو أعز مني.» فوثب رجل من بني نصر بن معاوية يقال له: الأحمر بن مازن فضربه بالسيف على ركبته، وقام رجل من هوازن فضربه كذلك، وفي هذه الضربة أشعار كثيرة روتها كتب الأدب.
هذه وأمثالها حوادث تقع في كل سوق عامة تعقد للتجارة أيا كانت المناسبة التي تدعو إلى عقدها، والأسواق التي تعقد على مقربة من المناسك التي يقصد الناس إليها للعبادة أو التبرك بعض ما يجده الإنسان في بلاد العالم كله، يجده في الموالد في مصر وفي فرنسا وفي إنجلترا وفي غيرها، وهذا طبيعي، فخير مكان تعقد فيه سوق التجارة إنما هو حيث يجتمع الناس في عدد عظيم، وحيثما اجتمع الناس في عدد عظيم وتبادلوا المنافع تجاذبتهم دوافع الهوى، وفاخر بعضهم بعضا، واختصموا وتحاربوا.
أما وهذه الأسواق تنعقد في موعد معين من السنة فالخصومات تتصل في كثير من الأحيان على السنين، والدعاية سلاح من أمضى أسلحة الخصومة، وأسباب الدعاية اليوم كثيرة، منها الصحف والإذاعة الجوية وألوان الأدب المختلفة، أما عند العرب فكان الشعر أقوى سلاح للدعاية، وكان يقوم مقام أسباب الإذاعة جميعا، وكانت الذاكرة العربية بالغة من القوة حدا فاخر به العرب، حتى لقد أعرض الكثيرون منهم عن الكتابة مخافة أن تجني على هذه الملكة فيهم، وكانت هذه الذاكرة تعي الشعر الجيد وتترنم به وتذيعه في كل مكان، فإذا اختلف قوم في عكاظ وكان مثار هذا الخلاف حسناء، اندفع الخيال العربي المتوثب الفسيح فسحة البادية يصور من ذلك ما يشاء، وقال الشعراء فيه، وتغنوا بما قالوا، فإذا كانت عكاظ ذاع فيها هذا الشعر وتناقله الناس كما يتناقلون اليوم في الأسواق أنباء الصحف وما تطيره الإذاعة، فلم يكن شعراء العرب إذن يعرضون شعرهم في عكاظ ولا في غيرها للنقد ولا للحكم، وهي إذن لم تكن سوقا للشعر والخطابة والتنافس فيهما كما يصور بعضهم، وإنما كان يجري فيها من ذلك ما يجري في الأسواق كلها من تناقل الحوادث، خاصة إذا اتصلت هذه الحوادث بالسوق وما وقع أو يقع فيها.
Неизвестная страница