فمن باب البحث في الفلسفة الإسلامية، أصدر الشيخ مصطفى عبد الرازق كتابه «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» (1944م) الذي وقف فيه وقفة العالم المحايد، فهو يختفي وراء نصوصه اختفاء من لا يريد أن يكون له ميل مرجح سوى ما توجبه النصوص، فالكتاب يشتمل على بيان لمنازع الغربيين والإسلاميين ومناهجهم في دراسة الفلسفة، فالباحثون الغربيون في طريقة عرضهم للموضوع تراهم وكأنما يقصدون إلى القول بأن في الفلسفة الإسلامية عناصر أجنبية، ثم يأخذون في رد تلك العناصر إلى مصادرها غير العربية وغير الإسلامية، موضحين أثرها الذي يرونه فعالا في توجيه الفكر الإسلامي، وأما الباحثون الإسلاميون فيغلب عليهم أن يزنوا الفلسفة بميزان الدين، لكن مؤلف «التمهيد» يتخذ لنفسه منهجا آخر في درسه لتاريخ الفلسفة الإسلامية، إذ هو يتوخى الرجوع إلى النظر العقلي الإسلامي في سذاجته الأولى، وتتبع مدارجه في ثنايا العصور، وأسرار تطوره والنتيجة العامة التي ينتهي إليها هذا الكتاب هي أن للمسلمين فلسفة خاصة بهم، مطبوعة بطابعهم، لها بداياتها البسيطة وأدوار نموها وازدهارها - وهي نتيجة كونت مدرسة بأسرها في البحث الفلسفي منذ ظهر هذا الكتاب وإلى يومنا هذا.
وأما التياران المعاصران اللذان أدخلا في حياتنا الثقافية، فهما - كما ذكرنا - الوجودية، والوضعية المنطقية، الأولى لتكون فلسفة حياة، والثانية لتكون فلسفة علم، وكانت حياتنا الفكرية بحاجة إلى الفلسفتين؛ ولذلك أحدث هذان التياران أصداء متفاوتة القوة، فهنا مؤيد وهناك معارض، وكان أهم من قدم لنا الوجودية من زاوية جديدة، هو عبد الرحمن بدوي في كتابه «الزمان الوجودي» (1944م) وأهم من قدم الوضعية المنطقية بتطبيق عربي هو زكي نجيب محمود في كتابه «المنطق الوضعي» (1951م) وكتابه «خرافة الميتافيزيقا» (1953م).
إن العوامل المختلفة التي أخذت تعتمل في الثقافة العربية في مصر، منذ أواخر القرن الماضي، والتي ما انفكت منذ ذلك التاريخ توسع من نطاق فعلها، فكلما امتدت إلى جانب من جوانب الحياة، جاوزته إلى جانب آخر: فمن مطالبة بالحرية السياسية، إلى مطالبة بالحرية الفكرية، وبالحرية الاجتماعية، أقول إن هذه العوامل المختلفة كلها، كانت طوال هذه الفترة تعمل في أنفس الكتاب والمفكرين، باحثة عن شخصية عربية جديدة، تحافظ على تراث الماضي، وتضيف إليه عناصر الحاضر، وكان لهذا البحث عن ذات جديدة تولد من رماد التخلف ومن أغلال المستبدين والمستعمرين، كان لهذا البحث عن ذات جديدة، لحظات مشهودة، حفزتها على سرعة الحركة وحيوية النشاط: الثورة السياسية سنة 1919م، وحرب فلسطين سنة 1948م على أثر إعلان الأمم المتحدة لقيام إسرائيل اغتصابا من الشعب العربي، ودع عنك قيام حربين عالميتين، شبت في ختام الأولى منهما ثورة سياسية تطالب بالاستقلال عن إنجلترا، وتخمرت في ختام الثانية منهما خمائر ثورة اجتماعية - تهمس ألسنتها أول الأمر، ثم تجهر - مطالبة للشعب كله - لا للفئة المحظوظة وحدها - بحق العيش وحق المشاركة الفعلية في الحياة على أرضه، ولم يكن حريق القاهرة في 26 يناير 1952م إلا اندلاعا لروح الغضب الكامن في الصدور، ثم جاءت ثورة 23 يوليو 1952م لتحول غضبة الغاضب إلى سلوك يغير الحياة الفاسدة، ويستبدل بها أوضاعا جديدة، تحقق له الآمال التي ظلت تتراكم على أقلام الكتاب وفي أذهان المفكرين.
كان الهدف الواضح الظاهر لشتى مظاهر الفكر المصري والأدب المصري هو خلق روح مصرية جديدة، تتسم بطابع مميز، فلما أن نشبت الحرب العالمية الثانية، وبلغت ختامها سنة 1945م، أخذ هذا الطابع المميز المنشود يتطلع إلى أفق أوسع، لا يقتصر أمره على أصحاب الحياة العلمية وحدهم - أعني علية المثقفين - بل يتعداهم إلى شيء يصلح أن يتسع ليشمل الشعب كله، ثم لما قامت الحرب الفلسطينية بين البلاد العربية وإسرائيل سنة 1948م، كان ذلك بمثابة أن تتحدد معالم الهدف الجديد للفكر، وللأدب، وللسياسة، ولكل وجه من أوجه النشاط الذهني، وهو أن يعمل العاملون وأن يفكر المفكرون، وأن يتغنى الشعراء بوحدة عربية وقومية عربية، تكون مصر جزءا منها.
أخذت خيوط كثيرة تتجمع، بعد أن هدأت نيران الحرب العالمية الثانية، تشير كلها إلى وجوب تغير الأوضاع من أساسها، طه حسين يكتب عن «المعذبين في الأرض» كما يكتب سواه في نفس الاتجاه، إرهاصا لثورة اجتماعية اقتصادية، وخالد محمد خالد يكتب «من هنا نبدأ» و«مواطنون لا رعايا» فتحدث كتاباته أثرا في رقعة واسعة من القراء؛ لأنه يلجأ إلى طريقة في الكتابة تجمع في يد واحدة ثنائية الثقافة الدينية التي كانت معتزلة وراء جدران الأزهر إلى حد كبير، والثقافة السياسية الاجتماعية الجديدة، هادفا إلى خلق العربي المسلم الحر المعاصر في آن معا، ويحيى حقي يكتب «قنديل أم هاشم» ليؤكد ضرورة العودة إلى تربة الثقافة العربية الإسلامية، حتى وإن أوغل المغترب في العلم الأوروبي، ومحمد فريد أبو حديد - منذ العشرينيات والثلاثينيات - يكتب بروحه السمحة وقلمه الهادئ ليشيع فينا نفحة التجديد الذي يقيم بنيانه على أسس الثقافة العربية الإسلامية الأصيلة ... خيوط أخذت كلها تتجمع لتلتقي في عزيمة واحدة، تنتظر الجذوة التي تشعلها فتحركها إلى عمل ثوري يقلب التربة قلبا، ليبذر بذورا جديدة، لتنبت لنا نباتا جديدا، وكانت هذه الجذوة هي ثورة 23 يوليو 1952م، التي سرعان ما أصبحت هي الثورة الأم، التي تلد ثورات متتابعة رأسية وأفقية، رأسية تتناول أوضاع الحياة في مصر، وأفقية تتسع لتشب في سائر أجزاء الأمة العربية.
لقد مست روح الثورة جوانب الحياة الفكرية والأدبية جميعا، وعلى صور إن تفاوتت قوتها في المجالات المختلفة، فهي روح منبثقة عن توكيدنا للذات العربية في مجتمع اشتراكي يضمن للإنسان كرامته مهما كان العمل الذي يؤديه، ومهما كانت درجته من الفقر أو الغنى، نعم لقد كانت الخيوط الفكرية كلها - كما قلنا - تتجمع نحو هذا الهدف خلال أعوام القرن العشرين كلها، لكن ثورة 1952م جاءت لتبدأ في حياتنا الفكرية طورا ثوريا، يستخدم كل عوامل الماضي ، لينهض بتغيير شامل.
ونستعرض صنوف الفكر والأدب خلال هذه الأعوام الثائرة، فنرى إلى أي حد تغلغلت الثورة في أعماق المفكرين والأدباء، استجابة - ومشاركة في الريادة - للحركة التي شملت الشعب بأسره.
ففي الشعر، بلغت البدايات الجديدة التي كان أبو حديد قد بدأها حين حاول أن يجرب الشعر المرسل، الذي يحتفظ بالوزن ويتخفف من القافية، أقول إن هذه البدايات، قد بلغت الآن أوجها، على أيدي نفر من الشعراء الذين أرادوا أن يفاجئونا بالجديد، في الشكل وفي المضمون معا، فأما الشكل، فقد نفضوا عن أنفسهم التقليد السائد، الذي يحتم أن يجيء الوزن على صورة بعينها، وأن تكون للقافية شروط تجب مراعاتها، ثم لم يكفهم هذا، فثاروا على المضمونات التقليدية التي لبث الشعراء يدورون فيها مئات السنين، منذ العصر الجاهلي وإلى يومنا، حتى لقد اجترأ كاتب مفكر خلال الأربعينيات هو أحمد أمين، مؤلف المجموعة المشهورة التي أرخت للفكر العربي، والتي صدرت بعض أجزائها في الثلاثينيات، وأعني بها «فجر الإسلام» و«ظهر الإسلام» - أقول إن هذا الكاتب المفكر كان قد اجترأ فأعلن في سلسلة مقالات - نشرها في مجلة الثقافة التي كان يشرف على تحريرها، ثم جمعها مع غيرها في مجموعة مقالاته «فيض الخاطر» - أعلن أن الأدب الجاهلي قد جنى على الشعر العربي جناية كبرى، حين حدد له مرة وإلى الأبد - أو ما ظنه أنه باق إلى الأبد - شكلا بعينه للشعر، بل ومعاني بعينها يدور حولها الشعراء، وأن الثورة قد أصبحت واجبة على الشعراء المحدثين، وها هم أولاء الشعراء المحدثون قد سنحت لهم الفرصة فثاروا على الشعر التقليدي شكلا ومضمونا وكان على رأس هؤلاء - في مصر - صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، لكنه مما يلفت النظر أنه إلى جانب الصور الجديدة الثائرة في شكلها وفي مضمونها، بقيت صور أخرى من الشعر، تكتفي بالثورة في المضمون الشعري، لكنها تحافظ على الشكل القديم، وترى أن الوعاء القديم ما زال صالحا ليصب فيه الشراب الجديد.
وإن هذا التوازن ليظهر كذلك في التأليف المسرحي خلال أعوام الثورة، أعني أنك تجد من أدباء المسرح من حطم الصورة الشكلية التقليدية للبناء المسرحي، فجاء جديدا في المضمون والشكل معا، كما تجد إلى جانبهم فئة أخرى، تثور في المضمون لكنها تحافظ على الشكل التقليدي القديم، بل وتجد إلى جانب هؤلاء وأولئك جماعة ما زالت تكتب كما كان يكتب أدباء العشرينيات، أسلوبا ومضمونا، فالشاعر المسرحي عزيز أباظة يتابع إخراج مسرحياته الشعرية على نحو ما كان يؤلف أحمد شوقي مسرحياته: مضمون يغلب عليه أن يكون من التاريخ العربي، وشكل يحافظ على الوزن والقافية التقليديين، والكاتب المسرحي العظيم توفيق الحكيم - الذي امتد إنتاجه الأدبي منذ العشرينيات، لم يفتر - ما زال كأول عهده، يختار البناء الكلاسيكي للمسرحية، وإن يكن قد مال بالمضمون نحو المعاني الاشتراكية الجديدة، هذا إذا استثنينا محاولات جزئية يحاولها آنا بعد آن، ليجرب قلمه وذهنه في الاتجاهات المسرحية الجديدة، فيكتب حينا في الأدب اللامعقول مسرحية يجاري بها أهل هذا المجال، ويكتب حينا آخر شيئا يسميه جمعا بين المسرحية والرواية، وهكذا، أما عبد الرحمن الشرقاوي فيكتب مسرحيات شعرية في موضوعات تساير الثورة السياسية في أهدافها لكنه يتخفف في شعره من قيود القافية، وإن ظل محتفظا بالوزن الشعري كما عرفه التقليد العربي.
لكن الأدب المسرحي لم يلبث أن تفجر عن فئة ثائرة ممعنة في ثورتها، أرادت أن يكون مسرحنا مسرحا عربيا أصيلا، يستوحي طابعنا المحلي الخاص، فاللغة في الحوار هي العامية لا الفصحى، وتتابع المناظر والفصول يجري على نسق مبتكر، بل وخشبة المسرح نفسها تعرضت للتبديل والتغيير، نذكر من هؤلاء «رشاد رشدي» و«نعمان عاشور» و«يوسف إدريس» و«لطفي الخولي» و«ألفريد فرج» و«سعد الدين وهبة»، ولنلاحظ عن معظم هؤلاء أنهم ممن أسهموا في أكثر من مجال أدبي، فمنهم من كتب القصة إلى جانب المسرحية (مثل يوسف إدريس)، ومنهم من أسس في حركة النقد الأدبي كذلك (مثل رشاد رشدي)، وهم فوق هذا وهذا ممن يشتركون بأقلامهم في الصحافة اليومية، بما يغلب عليها من طابع سياسي يتابع الأحداث الجارية.
Неизвестная страница