أحسب أن لا تناقض، وهذه نقطة تريد التوضيح، إن الإنسان في رحلة الحياة شبيه به في أي رحلة صغيرة يرتحلها، فافرض أن رحلتك هي أن تعبر الصحراء حتى تصل إلى نقطة معينة على شاطئ البحر الأحمر، فالهدف الأخير ثابت أمامك لا يتغير، ولكن أهدافا جزئية فرعية ستنشأ خلال الطريق، فهذه حفرة عميقة أمامك، تريد اجتنابها، فعندئذ تحصر تفكيرك في طريقة اجتنابها قبل أن تستأنف السير، وهنا تكون هذه المشكلة الجزئية هي وحدها التي تتحكم في منهج التفكير، ويكون معيار صلاحية الفكرة هو نفعها في تجنيبك ما تريد اجتنابه، وكلما زاد نفع الفكرة زاد نصيبها من الحق، لكن سواء كانت معالجتك لهذه المشكلة الطارئة سليمة أو معيبة، فهل يؤثر ذلك في هدفك الأخير؟ كلا، فذلك هدف ثابت تضعه نصب عينيك كالبوصلة التي ترسم لك وجهة السير، دون أن تتدخل في طرائق معالجتك لمشكلاتك الصغرى أثناء الطريق ... وهذا ما يعمله قبطان السفينة وما يصنعه قائد الطائرة، وهو ما يصنعه قائد الجيش في المعركة حين يفرق بين «الإستراتيجية» و«التكتيك»، فالأولى هي خطة القتال، والثانية هي معالجات المواقف الجزئية التي تنشأ أثناء تنفيذ تلك الخطة.
هكذا الأمر بالنسبة إلى قيمنا الخالدة الثابتة من جهة، وقيمنا النسبية المتغيرة من جهة أخرى، الأولى هي بوصلة السير، والثانية هي المعالجات الضرورية للمشكلات الطارئة.
ولو أننا فرقنا هذه التفرقة، فربما وجدنا أننا بحاجة إلى النظرات الفلسفية الثلاث في آن معا، ولكن لكل نظرة منها مرحلة ومهمة غير مرحلة النظرتين الأخريين ومهمتيهما: فلكي نسير في تغييرنا للمجتمع على هدى وبصيرة ووعي، لا بد لنا أولا من مرحلة واقعية نرصد بها ملامح الواقع كما هي، دون أن نشوه الصورة بأوهام أو أحلام أو خيال، شريطة ألا نقع في غلطة الفلاسفة الواقعيين حين يظنون أن للواقع طبيعته المحتومة، ويتلو هذه المرحلة مرحلة ثانية نتأمل فيها الأفكار والمبادئ - على نحو شبيه بما يفعله الفلاسفة المثاليون - تلك الأفكار والمبادئ التي توجهنا في طريق السير نحو تغيير الواقع الذي رصدنا ملامحه ولم نرض عنها ونريد تغييرها، شريطة ألا نقع في غلطة المثاليين حين يظنون أن تلك الأفكار والمبادئ مبتورة الصلة بعالم الواقع، وفي هذه المرحلة التأملية أيضا تجيء مهمة القيم الثابتة الخالدة التي ورثناها ونريد الحفاظ عليها، إذ هي التي تشير إلى اتجاه السير، دون أن يكون لها شأن بالمشكلات الفرعية التي نلقاها في الطريق، وثالثا وأخيرا تجيء المرحلة العملية التي نحصر فيها انتباهنا في كل مشكلة فرعية على حدة، نبحث لها عن علاج مرهون بظروفها، دون أن نغير في اتجاه سيرنا الذي رسمته لنا بوصلة القيم الموروثة في ثباتها وتجريدها وإطلاقها.
فلو سألتني بعد ذلك كله: أي مذهب فلسفي تختار؟ أجبتك سائلا بدوري: في أي مرحلة من مراحل السير؟ فأنا واقعي في مرحلة رصد المشكلات، ومثالي في مرحلة تحديد اتجاه السير، وعملي تجريبي في مرحلة معالجة المشكلات.
قيادات الفكر المعاصر
ليس يرى شكل السحابة أو لونها صاعد الجبل وهو يخوضها، فكل ما يدركه عندئذ هو أن رؤية الأشياء من حوله تزداد وضوحا أو تقل، وأنه يتبين مواضع خطوه على الطريق إلى مدى بعيد أو إلى مدى قريب، حتى إذا ما اجتاز السحابة التي تكتنفه ثم نظر، رآها وقد تحدد شكلها وتميز لونها بحيث يستطيع وصفها وهو على ثقة بصدق ما يقوله عنها.
وكذلك قل في مرحلة معينة من التاريخ حين يتحدث عنها أبناؤها الذين يعانون آلامها وينعمون بطيباتها، فهؤلاء إذا تحدثوا عن عصرهم جاء حديثهم أقرب إلى التعبير عن ذوات أنفسهم، منه إلى التقرير الموضوعي الذي يسجل الواقع كما يقع، بل إن أبناء المرحلة المعينة من مراحل التاريخ، لا يكادون يتصورون الأحداث التي تتتابع حولهم صفحة من التاريخ سيكتبها اللاحقون ... ترى ماذا تكون معالم عصرنا البارزة، التي لن يخطئها مؤرخ المستقبل إذا ما نظر وحلل؟
هل نخطئ الحدس لو ظننا أنه سيصف عصرنا هذا - أول ما يصفه - بأنه قد كان مرحلة انتقال هائل من حياة إلى حياة؟ من حياة أقيمت على أساس التفاوت بين البشر من حيث القوة والضعف والغنى والفقر، بياض البشرة وسوادها، الأصول العرقية والأنساب، الذكورة والأنوثة، العقائد والشعائر، وغير ذلك ... إلى حياة تقام على أساس المساواة مع التنوع، بل كانت مرحلة انتقال هائل من حياة تقسم الناس في كل بلد واحد قسمة عمودية، فالأعلون هم من كانت حرفتهم رياضة العقل، والأدنون هم من كانت صنعتهم استخدام البدن، إلى حياة تجعل جميع الناس في البلد الواحد عاملين، سواء أكان العمل منصبا على فكرة نظرية أم كان منصبا على تطبيقها.
ولو رأى مؤرخ المستقبل هذه النقلة الفسيحة في عصرنا من نظرة إلى نظرة ومن حياة إلى حياة، فسيرى كذلك أنها نقلة لم تهبط على الناس هبة من السماء ينعمون بها دون أن يكافحوا هم أنفسهم في سبيل تحقيقها؛ إذ يرون أن عصرنا هذا قد كان عصر ثورات خارقة ثارت لتغير أوضاعا بأوضاع، وأن هذه الثورات لم تكن لتمضي إلى أهدافها بغير مقاومة عنيفة ممن ارتبطت صوالحهم بالأوضاع القديمة المراد تغييرها، وأن هذه الثورات وأضدادها لم تكن لتجري مجراها بغير أن يكون لكل من الجانبين فلسفة نظرية يستند إليها في محاجة الطرف الآخر؛ ومن ثم نشأت صراعات مذهبية بين الفريقين، ولا يكون العيش في جو الصراع الفكري مستقرا هادئا بل لا منجاة له من القلق والتوتر.
فإذا كانت صورة عصرنا شيئا قريبا من هذا، فماذا نتوقع أن نجد في نشاطه الفكري إلا اختلافا في وجهات النظر أشد ما يكون الاختلاف، حين يتناول أصحاب الفكر بأنظارهم مصير الإنسان نتيجة لهذا الصراع؟ فأمام المسألة الواحدة نجد النظريتين المتناقضتين وجها لوجه: فهذا هو العلم الذري قد أطلق صواريخه تدق أبواب الفضاء، فهل يكون من شأن هذا الغزو العلمي لأسرار الكون أن يشيع في أنفسنا الطمأنينة أو القلق؟ هنا تختلف الإجابة بين متشائم ومتفائل: هذا يرى أنه انقلاب علمي لا بد أن ينتج انقلابا في حياة الناس نحو الأفضل، وذلك - على خلاف هذا - من رأيه أن التقدم العلمي الضخم وإن يكن قد غزا الفضاء الفسيح، إلا أنه بقدر ما وسع لنا من آفاق الكون، قد ضيق علينا من آفاق النفس؛ لأنه أبعد الإنسان عن صلته الحميمة بذاته.
Неизвестная страница