ونسوق مثلا آخر من الفكر العربي القديم، فقد اعترضت رجال الفكر عندئذ المشكلة نفسها التي تعترضنا اليوم - وهي كذلك من صميم «مشكلات الحياة» - وهي: هل نأخذ عن ثقافة اليونان أو لا نأخذ اكتفاء بثقافتنا المنبثقة من ظروفنا الخاصة؟ كان السؤال عندئذ - كما هو اليوم - حادا يتطلب الجواب الحاسم؛ لأنهم كانوا يجتازون عصرا - كعصرنا - تتدفق فيه التيارات الثقافية من كل صوب، وبخاصة في ميدان التفكير الفلسفي، فعلى أية صورة تشكلت المشكلة عند المفكرين؟
إنها ما لبثت أن اتخذت صورا موسومة بالطابع النظري العقلي الذي ربما أنساك كيف بدأت؛ لأنك ستحصر النظر في موضوع البحث النظري وكأنه هو الموضوع، فها هما ذان رجلان يجتمعان في حضرة الوزير ابن الفرات (في منتصف القرن العاشر الميلادي) وهما أبو سعيد السيرافي الذي لم يكن يؤمن بضرورة النقل عن ثقافة اليونان، وأبو بشر متى الذي كان يرى ألا مندوحة عن ذلك، فبدأت بينهما مناقشة حول المنطق الأرسطي الذي كان أبو بشر متى من علمائه: هل ينفع المتكلم باللغة العربية في شيء؟ ولم يكد أبو بشر يقول عن ضرورة هذا المنطق اليوناني للإنسان بغض النظر عن لسانه؛ «لأنه آلة من آلات الكلام يعرف بها صحيح الكلام من سقيمه، وفاسد المعنى من صالحه، كالميزان، فإني أعرف به الرجحان من النقصان» حتى طفق السيرافي يتدفق حججا يقيمها على أن للغة العربية خصائصها المميزة، وصحة الكلام مرهونة بالإعراب من حيث اللغة، وبالعقل من حيث المعنى، ودراسة المنطق الصوري لا تغني أحدا عن التجربة الواقعية الفعلية بحقائق الأشياء المرتبط بعضها ببعض بتلك الصور التي يدرسها المنطق، وتشبيه المنطق بالميزان ناقص؛ لأن من الأشياء ما لا يوزن بميزان، فإذا كان المنطق الأرسطي ملزما لأحد فهو ملزم للمتكلم باللغة اليونانية التي على أساس تراكيبها قام ذلك المنطق، واختلاف اللغات بعضها عن بعض يقتضي حتما أن تكون هنالك صور مختلفة في تركيب اللفظ الذي يعبر عن معنى معين، والمعاني لا تكون يونانية ولا عربية إنما هي إنسانية عامة.
سهكذا تمضي المناقشة بين الرجلين، على نحو لو كان قد سمعه واحد من شبابنا الكاتب لغضب متسائلا: ما هذا النقاش النظري الذي لا يطفئ ظمأ الظمآن ولا يشبع جوع الجوعان، لماذا لا تصبان اهتمامكما على «مشكلات الحياة»؟ إلى أن ينبهه صديق هادئ بأن الجذور التي انبثق منها مثل هذا النقاش النظري، هي من صميم مشكلات الحياة؛ لأنها تمس المصادر التي يجوز أو لا يجوز للناس أن يغترفوا منها الفكر والثقافة. •••
واختر ما تشاء من أمثلة لرجال الفكر في عصرنا، اختر مثالك من فلاسفة الوجودية في فرنسا، أو من فلاسفة التحليل في إنجلترا، أو من فلاسفة البرجماتية في أمريكا، أو من فلاسفة المادية الجدلية في روسيا، تجدك أمام نقاش نظري مجرد، لا يذكر لك شيئا عن زيد في حقله وما يلاقيه هناك من مشكلات في ري الأرض وحرثها، ولا يذكر لك شيئا عن عمرو في مصنعه وما يعانيه هناك من طرق الحديد وتشكيل القضبان، لكنه نقاش إما يغوص بك في أغوار عميقة من النفس الإنسانية ليظهر ما كمن فيها من عوامل القلق والحيرة، لا نفس زيد ولا عمرو، لكنها «النفس» بمعناها المجرد المطلق، وإما يدخلك في دقائق جملة لغوية يحلو لرجل الفكر أن يحللها ليضع تحت المجهر طرائق الناس في لفتات تفكيرهم كيف تكون، وإما يرد لك كل شيء في حياتك إلى واقع مادي يتسلسل سيره في حلقات متتابعة من التطور النامي، ولن تجد في أية حالة من هذه الحالات أن «مشكلات الحياة» من أخذ وعطاء وبيع وشراء وطعام وشراب وثياب ومسكن قد حلت صعابها لا كثيرا ولا قليلا؛ لأن الذي يحل هذه الصعاب هم أصحاب التخصصات العلمية في الزراعة والصناعة وتبادل السلع ونسج الأقمشة وبناء البيوت، لكنها - برغم ذلك - مناقشات ينفذ أصحابها من خلال المشكلات الراهنة إلى الأسس والمبادئ التي اندست في طواياها، لنعود هابطين مرة أخرى من تلك الأسس والمبادئ إلى أرض الواقع فإذا هو مفهوم واضح، فنزداد بحياتنا وعيا ونزداد لمشكلاتها إدراكا.
وبعد هذا كله فإني أقرر أن رجل الفكر ملتزم أمام نفسه وأمام الناس، ملتزم بماذا؟ إنه ملتزم بالخوض مع الناس في مشكلاتهم، ولكن ذلك يتم له بطريقة «المفكر» لا بطريقة «الأديب» ولا بطريقة «العالم المتخصص» ولا بطريقة الصحفي الذي ينقل الخبر عن الشيء كما وقع، فلكل من هؤلاء طريقته إزاء المشكلة الواحدة، ومن الخير أن يلتزم كل منهم الطريقة التي يحسن أداءها، وقد يجتمع أكثر من طريقة واحدة في شخص واحد موهوب، فتراه يتعرض للمشكلة على صورة معينة هنا وعلى صورة معينة هناك، كما يحدث لسارتر - مثلا - أن يعالج مشكلة ما بالفكر المجرد حينا، وبالقالب المسرحي حينا آخر.
كل هؤلاء يلتزمون «الحق»، لكن معيار الحق متعدد الصور بتعدد طرائق القول، فلئن كان الحق عند الصحفي - وهو ينقل للناس خبرا عن مشكلة من مشكلات الحياة الجارية - هو أن يرسم صورة كلامية دقيقة التطابق مع تفصيلات الحادث كما وقع، فإن الحق عند الأديب - وهو يعرض للمشكلة عينها في قصة أو مسرحية - هو أن يجيد تصوير أشخاصه في تفاعلهم حتى ولو لم يلتزم، بل لا ينبغي له أن يلتزم تفصيلات الواقع كما وقع، والحق عند العالم المتخصص وهو يخطط للمشكلة حلا، هو نجاح التطبيق، وأما صاحبنا المفكر فصورة الحق عنده هي دقة التحليل والتعليل الذي يستطيع بهما أن يجاوز حدود الواقع إلى حيث المبادئ التي كانت كامنة وتجسدت في المشكلة الجزئية التي وقعت، أو إلى حيث النتائج القريبة والبعيدة التي عساها أن تترتب على تلك المشكلة.
خذ مثلا هذه المشكلة التي أعدها من أعقد مشكلات حياتنا الاشتراكية الجديدة، وأعني مشكلة التوازن بين احتفاظ الفرد بكيانه المستقل المسئول وبين ضرورة أن يكون هذا الفرد على صلات وثيقة بينه وبين سائر المواطنين بحيث ينصهر معهم في مجموع واحد متصل، وسل نفسك: كيف يمكن لرجل الفكر أن يتناول هذه المشكلة إذا هو قصر نفسه على ظواهرها البادية في حياة الناس اليومية، دون أن يتعمقها إلى أصولها وجذورها التي ربما ارتدت إلى الحياة القبلية الأولى؛ ذلك أننا إذ نلاحظ سهولة أن ينصهر الفرد منا في أسرته، نلاحظ أيضا إلى جانب ذلك صعوبة أن ينصهر ذلك الفرد نفسه في مجموعة المواطنين: من عرفهم منهم ومن لم يعرفهم على حد سواء.
أفإن فلسفنا الموضوع وشرحنا كيف تتحقق ذاتية الشيء - أي شيء - بوجوه وبصفاته وبعلاقاته مع سائر الأشياء، وأخذنا نوغل في الجانب الصوري الخالص، الذي يبين أن الكائن الواحد محال تعريفه إلا بربط الصلة بينه وبين سواه، أقول أفإن فعلنا شيئا كهذا قيل لنا: على رسلكم، واحصروا أنظاركم في مشكلات الحياة - ذلك هو ما يطالبنا به نفر من الشباب الكاتب!
طراز من الفردية جديد
لو أن كل تغير يطرأ على الحياة الإنسانية، يستتبع في ذيله فورا نمطا جديدا من الفكر، يساير ذلك التغير الظاهر على وجه الحياة، لما وقع الإنسان فيما يقع فيه دائما إبان مراحل الانتقال الكبرى، من تعارض بين حياته الخارجية البادية أمام أعين الناس، وحياته الداخلية التي يعيشها مع نفسه كلما فكر أو شعر، لكن أنماط الفكر الجديد قلما تساير تغيرات الحياة المادية الظاهرة، برغم العلاقة الوثيقة بين الفكر من ناحية وعالم الأفعال في دنيا السلوك من ناحية أخرى، إذ إن أنماط الفكر كثيرا ما تتلكأ خلف تغيرات الحياة الفعلية، جيلا أو جيلين على أحسن الفروض، وقرنا أو عدة قرون إذا ما ساءت الحال بالناس، أو لعلنا نكون أقرب إلى الدقة إذا نحن فرقنا في الأنماط الفكرية بين نوعين: القوانين العلمية في جهة، والقيم والمفاهيم التي تكون عند الإنسان نظرته العامة إلى نفسه وإلى الدنيا من حوله في جهة أخرى، فعندئذ نقول إن ما يطرأ على حياة الناس الظاهرة من تغيرات - كانتقالهم من الزراعة إلى الصناعة مثلا - لا بد أن تسبقه وتصاحبه بحوث علمية هي التي يستعان بنتائجها على ذلك التحول، لكن مثل هذا الانتقال من مرحلة حضارية إلى مرحلة حضارية أخرى، يستلزم بالضرورة انتقالا آخر في الأسس والمبادئ، التي من خلالها ينظر الإنسان إلى العالم، والتحول في هذا المجال هو الذي نقول عنه إنه كثيرا ما يبطئ، إلى الحد الذي يترك الناس وكأنهم يعيشون في عالمين أو في زمانين: أحدهما هو الذي ينشطون فيه بأعمالهم المختلفة، والآخر هو الذي يقومون فيه الأشياء والمواقف بقيم ومبادئ تنتمي إلى عصر ذهب وانقضى.
Неизвестная страница