هكذا تتسلسل النتائج عند هؤلاء وأولئك، ونحن نسأل - مخلصين - أيهما يمين وأيهما يسار؟ أنجعل الفلسفة المثالية - بكل تفريعاتها - يمينا، والفلسفة التجريبية - بكل تفريعاتها كذلك - يسارا؟ إننا إذا تحدثنا بلغة السياسة فنظرنا إلى غربي أوروبا وأمريكا على أنه هو اليمين، وإلى الروسيا والصين وما يتبعهما على أنه هو اليسار، أخذتنا الحيرة؛ لأن الفلسفة عند الفريق الأول ليست كلها مثالية موحدة (بكسر الحاء) ولأنها عند الفريق الثاني ليست كلها تجريبية معددة (بكسر الدال الأولى)، فعند الأولين: براجماتية، وواقعية، وتجريبية علمية (الوضعية المنطقية)، ووجودية، وكانتية جديدة، وظاهراتية ... وليست هذه كلها فلسفات مثالية، ولا هي كلها توحد الحقيقة الكونية في بناء واحد متسق مترابط الأجزاء، وعند الفريق الثاني مادية جدلية، فهي مع التجريبيين من حيث هي فلسفة «مادية»، وهي مع المثاليين في توحيدهم للحقيقة، من حيث هي فلسفة «جدلية» (لأن هذه الصفة فيها تربط المراحل بعضها ببعض ربطا يجعل الحقيقة تيارا واحدا متصلا آخره بأوله).
أم نعكس الموقف فنعد الفلسفة المثالية يسارا، والتجريبية يمينا؟ إننا لو فعلنا لما نجونا من الحيرة نفسها وهي أننا سنجد في اليمين السياسي بعض اليسار الفكري، وفي اليسار السياسي بعض اليمين.
وأخلص من هذا كله إلى نتيجة أراها محتومة حتما، وهي أن ليس هنالك فواصل فارقة - في ميدان الفلسفة - بين يمين ويسار.
أما أن يكون في «العلم» يمين ويسار، فذلك ما لست أعتقد أن يطوف لأحد ببال، وإلا لكانت لفظة «العلم» هذه لعبة يلعب بها اللاعبون كيفما أرادوا دون أن يكون لها شيء من التحديد الرادع، وهل يطوف ببالك - حين أتقدم إليك بقانون علمي يحدد مسار الضوء أو الصوت، أو يبين لك تركيب الماء أو الهواء - أن تسأل: ترى هل هو من قوانين اليمين أو من قوانين اليسار؟ ... لا إن ذلك ليمتنع على العقل أن يسأله، بل إنه ليمتنع على العقل كذلك أن يسأل سؤالا كهذا، حتى لو كان القانون العلمي المعروض خاصا بالإنسان (كقوانين علم النفس مثلا) لأنه إذا ثبت بالتجربة في أي جزء من أجزاء الأرض أن ذكاء الإنسان يمكن قياسه على النحو الفلاني، أو أن العادات السلوكية يمكن أن تتكون بالطريقة الفلانية، فذلك إنما يثبت على الإنسان في كل جزء آخر من أجزاء الأرض يسكنه إنسان.
أحسب ألا خلاف على ذلك، ولكن الخلاف قد يبدأ حين نترك «العلم» إلى «فلسفة العلم»، وهنا قد يسأل القارئ: وما العلم وما فلسفته؟ فأجيبه جوابا شديد الاختصار، بقولي إن فلسفة العلم محاولة «لتفسير» العلم - لا لتغييره ولا لإضافة شيء إليه أو حذف شيء منه - بل «لتفسيره» برد قوانينه إلى الأصول الجذرية التي عنها انبثقت، فقد يقول قائل - مثلا - إن قوانين العلم تصف العالم كما هو واقع، وقد يرد عليه آخر بقوله: كلا؛ لأن ما هو واقع فيه خشونة وتغير، على حين أن القوانين العلمية مصقولة في صيغ رياضية ثابتة، وإذن فالقانون العلمي على هذا الاعتبار يكون بمثابة الصورة الذهنية الكاملة، التي تصور ما «يمكن» لحالات الواقع أن تصل إليه - افتراضا لا حدوثا فعليا، وقد يقول قائل وهو يفحص قوانين العلم وما تدل عليه: إنني أستنتج منها أن يكون العالم الطبيعي مكونا من أجزاء كثيرة، ويسير نحو غاية مرسومة مدبرة، وهكذا، وهكذا ... كل ذلك دون أن يتأثر صرح العلم نفسه بتغير أو بزيادة ونقصان؟ إن العلماء في معاملهم لا ينتظرون حتى يتقرر لهم إذا كانوا يصفون الواقع الفعلي كما يقع، أو يصوغون صياغات فيها اكتمال يبلغ بالواقع الحادث حد الكمال الصوري، بل هم ماضون في علمهم على ما يقتضيه منهج البحث العلمي، بغض النظر عما يقوله عنهم «المتفرجون» من فلاسفة العلم.
هذه حقيقة هامة أنبه إليها الأذهان، ليتضح للقراء ما نحن بصدد توضيحه لهم، وهو أن العلم نفسه لا يتغير بتغير الآراء في فلسفته، ففلسفته - كما قلنا - «تفسير»، والتفسير لا يغير من «النص» شيئا، إذا جاز هذا التشبيه؛ وعلى ذلك فافرض أن فيلسوفين قد اختلفا في تفسير العلم، وافرض أيضا أننا قلنا على أحد التفسيرين إنه تفسير «يميني» وعن الآخر أنه تفسير «يساري» فما جدوى ذلك، وماذا عسى أن يحدثه من أثر في خبز الجماهير؟ هل يزيد هذا الخبز رغيفا أو ينقص رغيفا إذا نحن فسرنا العلم بما يفسره به المثاليون أو بما يفسره به التجريبيون من الفلاسفة؟ كلا، وإنما الذي يزيد من أرغفة الخبز أو ينقص منها، هو «العلم» نفسه، لا الطريقة التي نفسره بها، إن فلاسفة العلم الطبيعي في اليمين الأمريكي قد يفسرونه على نحو، وفلاسفته في اليسار الروسي قد يفسرونه على نحو آخر، لكن لا أولئك ولا هؤلاء، يقدمون شيئا من صواريخ الفضاء في اليمين تارة وفي اليسار أخرى.
أتسألني: وماذا تكون الغاية من «فلسفة العلم» إذن؟ إنني أجيبك بأن الغاية هنا هي نفسها الغاية عند كل محاولة للفهم والتوضيح، فهي تزيد الإنسان تمكنا مما يعرفه، وليس الفرق كبيرا بين أن أختلف مع زميلي في «التفسير» الفلسفي لقوانين العلم، وأن يختلف ناقد أدبي مع زميله في «تفسير» مسرحية للحكيم، أهي ترتكز على أزلية الزمن وأبديته أم لا ترتكز على شيء من ذلك؟ ... اختلاف ينشب بين النقاد في مستواهم الفكري، دون أن يزيد العمل الأدبي بذلك الاختلاف سطرا أو ينقص سطرا.
إن سؤالنا الأساسي المطروح للبحث هو: إذا كان التمايز الاصطلاحي بين ما هو يمين وما هو يسار واضحا في مجال الاقتصاد والاجتماع، فهل لهذا التمايز نفسه امتداد في الفلسفة والعلم والأدب والفن؟ ولقد بحثنا في مجال الفلسفة فلم نجد حدا فاصلا، وبحثنا في مجال العلم، فقضينا بادئ ذي بدء باستحالة أن يكون هنالك حد فاصل بين علم يميني وعلم يساري، ورجحنا أن تكون التفرقة في هذا المجال منصبة على ما يسمونه بفلسفة العلم، لكننا رأينا أنه حتى على هذا الفرض، فليس هو بالاختلاف الذي يقيم مع الحياة العلمية نفسها شيئا قاعدا، أو يقعد منها شيئا قائما.
هنالك أساس آخر يتخذه بعض الكاتبين للتفرقة بين يمين الفكر ويساره، لكنه في الحقيقة أوهى من أن نقف حياله موقفا جادا، وذلك هو «علمية» التفكير، فلئن كان «العلم» نفسه مشتركا بين اليمين واليسار، فإن استخدام «النظرة العلمية» عند التفكير في ميادين الإصلاح الاجتماعي وغيرها من جوانب الحياة العملية، أمر يختص به - عند هؤلاء الكاتبين - أصحاب اليسار دون أصحاب اليمين، وهو قول - في رأينا - عجب من العجب، فما هي أهم الصفات التي تجعل من نظرة الإنسان إلى شئون الحياة نظرة علمية، لا نظرة تقوم على محض العاطفة والوجدان؟ في ظني أنها صفات كثيرة ينبغي أن تتوافر في الفكرة لكي تكون «علمية» إلا أن أهمها - فيما له صلة بالحديث الراهن - هو «إمكان التطبيق»، فالفكرة علمية إذا كانت تحمل في صلبها طريقة تطبيقها وتحقيقها على أرض الواقع، وهي حلم من الأحلام إذا لم يكن ذلك التطبيق والتحقيق ممكنا؛ ولهذا كانت هذه «العلمية» هي محك التفرقة بين يسار ويسار، لا بين يسار ويمين، وذلك لأن الحلم الاشتراكي طالما راود قادة الفكر الإنساني منذ أقدم القدم، لكنه كان طوال القرون السالفة أقرب إلى «الحلم» يحلم به صاحبه حين يتمنى لبني الإنسان حياة عادلة شريفة، وقد اصطلح على تسمية هذه الأحلام بالطوباويات (يوتوبيا) التي معناها الحرفي «بلاد لا وجود لها على أرض الواقع»، فلما جاء اشتراكيو عصرنا الحاضر، نفضوا أيديهم من أمثال هذه الأحلام التي إن جاءت تسلية لقارئها، فهي لا تنفع الضعفاء والمعوزين كثيرا ولا قليلا ، وراح هؤلاء الاشتراكيون يفكرون على أساس «علمي» يجعل خطتهم المرسومة للمجتمع خطة قابلة للتحقيق والتطبيق، وبهذه «العلمية» تميز اشتراكيو اليوم عن اشتراكيي الأمس، لكنهم بهذه «العلمية» وحدها لم يتميزوا عن أعتى النظم الرأسمالية التي كانت قائمة مطبقة، ومعنى قيامها فعلا وتطبيقها فعلا هو أنها كانت منبنية على أسس قابلة للتنفيذ، أي أنها أسس «علمية» بهذا المعنى الذي نبسطه.
وألخص الفائت في جملة واحدة قبل أن أستأنف المسير، إننا حين نفرق بين يمين ويسار، فإننا قد نصطلح على أن تكون هذه التفرقة قائمة على أساس الحياة الاقتصادية والاجتماعية من حيث مضمونها، ولكننا ما زلنا نطرح السؤال: هل لهذه التفرقة امتداد في نواحي الفكر الأخرى من فلسفة وعلم وأدب وفن؟ وإذا كان ذلك كذلك فماذا يكون أساس التفرقة؟
Неизвестная страница