ونحن نرى في مصر وسوريا الآن طائفة من الشبان المتعلمين تركونا وتعلقوا باللغات الأوروبية لأنهم لم يجدوا في ثقافتنا ما يغذو نفوسهم ولأنهم وجدوا أن أدباءنا مازالوا يبهرجون لهم في اللفظ ويذكرون لهم أبطال الأدب في بغداد والبصرة قبل ألف عام دون عناية بما يجري حولهم.
ولنا شبان آخرون تعلقوا بالثقافة العربية القديمة التي أصبحت لا تتفق والعصر الحاضر فصاروا ينظرون إلى كل نزعة جديدة بعين المرتاب الذي يخشى منها كفرا جديدا أو تفرنجا سخيفا.
فلهؤلاء ولهؤلاء نحتاج إلى موسوعة جديدة للمعارف ومعجم يكونان دستورا للأديب يجذبان إلينا أولئك الذين هجرونا إلى الآداب الأوروبية، ويفتحان أعين أولئك الذين يتعلقون بالقديم للثقافة الحديثة.
وكلنا يرغب في أن يتوحد العالم العربي في اللغة العربية، ولكننا لا نحب أن نضحي في ذلك بشخصيتنا، ولا نحب أن تكون الرابطة بيننا وبين سائر الأقطار العربية رابطة لغوية فقط، وإنما نرتبط بهذه الأقطار بثقافة حديثة قائمة على العلم والصناعة تربطنا جميعا برباط الحضارة لا برباط البداوة، فسبيل التعارف والتآلف بيننا يجب أن يكون قائما على الآراء الحديثة في الحكومة والزواج والإصلاح الاجتماعي والمخترعات والمكتشفات العلمية، وبعبارة أخرى يجب أن نرتبط برباط المدنية الحديثة والثقافة الحديثة حتى تتحد عواطفنا الاجتماعية وغاياتنا الإصلاحية.
وهذه الغاية نبلغها إذا كانت مصر مركزا للثقافة الحديثة تخرج منها المؤلفات وتجمع للعالم العربي معجما للألفاظ المفيدة في العلوم والآداب يكون دستورا للأدباء، كما أن الموسوعة تكون أساسا جديدا لنهضة جديدة تقوم على الابتكار والاختراع.
الفصل الخامس والثلاثون
هزيمة الأدب السخيف
«نهضتنا نهضة أدبية بينما المدينة الحديثة علمية خالصة، فنحن نعيش في واد والغربيون في واد آخر، لا نأبه إلا للآداب، ونهمل العلوم إهمالا فاضحا فأدى ذلك إلى تقهقرنا وانحطاطنا، فإن كل شيء يقوم الآن على قواعد العلم، حتى الأدب لا يمكنه أن يستقيم إلا إذا كان له أساس من العلم وذلك علة تقهقرنا في الآداب التي قصرنا عليها اهتمامنا، فإن أدباءنا إلى الآن لا يطرقون الموضوعات الاجتماعية العلمية فيدرسون حالة فلاحنا دراسة علمية ويطلبون إصلاح حاله مثلا، بل هم يؤلفون عن عصور الخلفاء وإعجاز القرآن بينما نحن نجهل حقيقة الحركة العرابية مع أن التاريخ أصبح الآن علما بكل ما في كلمة علم من معان، والأدب أصبح علما يقوم على أساس من العلوم الكونية والطبيعية وعلى المشاهدات المحسوسة لا على الأوهام والخرافات.
وها هم الأوروبيون يريدون أن يجعلوا من كل شيء علما، فهذه الفلسفة ما تقدمت حديثا إلا حين انسلخت عن الآداب وأدخلت في دائرة العلم لها ما لغيرها من العلوم من معامل وتجارب ومقارنات وبراهين، وهذا علم النفس صار من زمن بعيد علما له معامل كسائر العلوم وبلغ من التقدم أنه صار أساس الأدب الحديث، فكل الروائيين والشعراء الآن علماء نفس بلا مبالغة، بينما أدبنا ليس له أساس إلا علم الخرافات. صارت الفلسفة علما والأدب علما. كذلك قل في السياسة والصحافة والتاريخ ولا نزال نحن هنا نعيش في القرن الثاني للهجرة نفسر الألفاظ وننشد المرائي والمدائح بينما الأوروبيون يقلبون ظهر الأرض باختراعاتهم واكتشافاتهم فهم يحاربون الأمراض ويعملون على تقريب اليوم الذي يصبح المرء فيه في مأمن منها كلها، وهم يخترعون الغازات السامة بينما دأبنا الكلام الأجوف في كل شيء نطالب به.» •••
ولا تظن أيها القارئ أن ما قرأته هنا هو من قلمي وإن كنت قد اعتدت مني على مثل هذه اللهجة حتى السأم، ولكنها منقولة من كاتب يجب أن تحبه هو «حسن عارف» ويجب أن تشجعه على المضي في هذه النزعة الشريفة التي يراد منها الخير لبلادنا، فنحن منكوبون حقا بالأدب السخيف. أدب الألفاظ واللعب واللهو ودرس السلف، كأننا أمة بدوية تعيش في وسط الصحراء ولا تتصل بالحضارة الحديثة ولا يهمها إلا قصة رويت قبل ألف سنة أو بيت شعر هو نكتة من نكات المغفلين.
Неизвестная страница