وهذه القطعة الأخيرة تدل على أن ماري قد احتقرت أشياء لم تكن دون ما تحب من حيث لذة الاختبار وبلوغ السعادة ، وربما كان احتقارها هذا علة كبرى للأسى العظيم الذي كان يتملكها ويملأ أحيانا فؤادها غضبا وحنقا.
وقد كان يقال إن الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، وكذلك يمكننا أن نقول من مثال ماري هذه ومن مثال باربيون الذي سبق فذكرناه إن الدنيا جميلة لا يرى جمالها إلا من أوشكوا أن يغادروها، ففي كلتا الحالتين نرى أن باربيون وماري يتعلقان أشد التعلق بالحياة، يريدان أن يستوعبا كل ما فيها من لذة أو متعة، كما يريدان أن يختبرا خيرها وشرها ويقفا على كل ما يمكن علمه من علومها وآدابها وفنونها، وما ذلك إلا لأنهما عرفا أن المرض يوشك أن يقطع بينهما وبين هذه الدنيا، فانكبا عليها وانغمسا في درسها وفهمها.
وما أحرانا ونحن بعد في صحتنا أن نعرف لهذه الدنيا قيمتها فنقبل عليها ونتمتع بها، فندرس علومها ونسيح في أرجائها ونستكشف أسرارها قبل أن يحملنا هذا التيار الجارف الذي يحمل جميع الأحياء إلى محيط الأبدية، وإنما يكون إقبالنا عليها ونحن بعد في شبابنا، قبل أن تستولي الشيخوخة علينا وقبل أن تتكون لنا عادات تمنعنا من هذا الدرس والتمتع، ولكن يجب ألا ننسي أن التمتع ضروب عالية وسافلة، فمن الناس من يتمتعون بالنهم للطعام أو النوم بعد الظهر أو نحو ذلك من الملاذ التي كان باربيون وماري يترفعان عنها ويجدان أن الحياة أقصر من أن تنفق ساعاتها في مثل هذه الملاذ الخسيسة، فإن النوم يضعنا في صف النبات من حيث الوعي بهذا العالم، ويغيب أذهاننا التي هي أقوى أدوات تمنعنا، فيجب لذلك أن نأخذ منه بأقل مقدار يكفي لصحتنا. أما النهم فأليق بالحيوان منه للإنسان.
وخلاصة القول إننا ما دمنا نعيش في هذا العالم فإننا يجب أن نتمتع به وأن نتأنق في تمتعنا حتى لا نخرج منه إلا وقد شبعنا مما فيه من اللذات السامية ووقفنا على ما يمكننا من أسراره، وبعبارة أخرى يجب أن نحيا على الأرض لكي نعيش ونختبر ونتعلم لا لنقضي عليها حياتنا في سبات الغفلة كأننا نوع من الأشجار.
وكذلك يجب أن نحذر تلك الحياة الضنينة التي يقصر المجهود فيها على تحصيل العيش والمبالغة في الإثراء، حتى يصبح صاحبها كأنه فرس العربة، بينه وبين العالم غمامة تغم على عينيه فلا يرى إلا ما أمامه، فإنما الحياة الوفيرة، تلك الحياة التي يقول بها السيد المسيح، تقتضي أن نتمتع بالنواحي العديدة التي تعرض لنا من هذه الدنيا، وهذه الناحية لا تنحصر في تحصيل العيش.
الفصل الرابع والعشرون
أعجوبة الطفولة
إذا قوبل الطفل بعجائب العالم كان أعجبها وأدعاها إلى التأمل والاعتبار، فقد كان ابن سينا يعجب بالإنسان ويقول إن العالم الأكبر قد انطوى فيه، وكان شكسبير يقول إن الطفل أبو الإنسان، فإذا ضممنا القولين قلنا إن العالم أو الكون كله قد انطوى في الطفل.
وإذا نظرنا إلى الطفل من حيث إنه اختراع للطبيعة ألفيناه من أغرب المخترعات، فنحن إذا اخترعنا آلات جديدة صنعناها كلها على غرار واحد كأنها أتومبيلات تخرج من مصانع فورد، ولكن الطبيعة تخترع الأطفال وكل منها على مثال نفسه لا نظير له، فأنت إذا نظرت إلى مائة طفل فكأنك تنظر إلى مائة اختراع جديد ليس واحد منها يشبه الآخر.
وفي كل واحد من هؤلاء الأطفال قد انطوى تاريخ الإنسان - لا بل الأحياء كلها - في الماضي، وأنت لو أدمنت الملاحظة وألححت في استقراء حركاته وتتبع أصواته وبدواته لرأيته يتكشف عن أطوار الإنسان الماضية طورا بعد طور، ولكنه ليس صحيفة مطوية للماضي فقط، إذ لو كان كذلك لما استحق أن يسمى اختراعا جديدا. كلا، فإنما هو اختراع جديد من حيث إنه صحيفة جديدة للمستقبل.
Неизвестная страница