1
أرأيتم إلى الإنسان، كيف نشأ أول ما نشأ على ظهر الأرض إنسانا، كهؤلاء الأناسي الذين تألفهم، ونؤلف نحن جماعة منهم؟ لقد كانت لحظة فريدة في مجرى الزمن؛ تلك التي انفرجت شفتاه فيها عن أول لفظة؛ عن أول صوت نطق به ليرمز - عن طريقه - إلى شيء! لقد كان الإنسان قبل ذلك حيوانا صامتا، ثم أصبح بلفظته الرامزة حيوانا ناطقا، هنالك كانت النقلة البعيدة البعيدة، العميقة العميقة، من كائن يخرج منه الصوت همهمة لا تفصح ولا تبين، إلى كائن يصوغ الصوت لفظا يحمل على موجه المعنى. «في البدء كان الكلمة» - كما ورد في الإنجيل - والكلمة فكرة، والفكرة دالة حتما على شيء. كان يقال عن الإنسان إنه الكائن الناطق، فأصبحنا نقول عنه اليوم إنه الكائن الرامز، بعد أن أجرينا على فاعلية الفكر تحليلا تبين لنا منه أن الفكر في صميمه هو عملية من الرمز، نشير بشيء إلى شيء آخر، فإذا هذه الإشارة الدالة هي التفكير، والأغلب أن تكون الأدوات التي نستخدمها للإشارة ألفاظا ننطق بها، أو كلمات نرقمها على الورق، والأغلب كذلك أن تكون الأشياء التي نشير إليها بتلك الألفاظ المنطوقة أو الكلمات المرقومة، كائنات في دنيا الواقع الذي نعيش فيه.
بهذه الفاعلية الرامزة حدثت النقلة من عجمة الحيوان إلى إنسانية الإنسان، ثم توالت الألفاظ ما اتسعت الخبرة، حتى كانت اللغة، منطوقة أول الأمر، ومكتوبة بعد حين. ألم تروا إلى الطفل بأي نشوة يهتز كيانه وتلمع عيناه، بأي فرحة يمرح ويزيط، عندما يدرك أنه لفظ لفظته الأولى التي تحمل إلى من حوله معنى مفهوما؟ كأنما شيء في فطرته يصيح به، هنيئا يا بني، لقد أصبحت بهذه اللفظة الدالة إنسانا بالفعل، بعد أن كنت إنسانا بالقوة، كما يقال: لقد علم الله - سبحانه - آدم - عليه السلام - «الأسماء» كلها، فدس بهذا في الفطرة الآدمية العلم كله بالأشياء كلها، وبقي على خلفائه أن ينقلوا هذا العلم المجبول إلى حالة العلن والبيان، وذلك هو ما صنعوه، ويصنعونه، وسوف يصنعونه أجيالا بعد أجيال، كل جيل منها يسلم جيلا؛ ليتم اللاحق ما قد بدأه السابق، ولم يكن هذا ليتحقق لهم لولا الكتابة والكتاب.
2
ن والقلم وما يسطرون ، هكذا أقسم - سبحانه - بالقلم وبما يسطر بالقلم؛ وما يسطر بالقلم هو الكتاب. لقد وردت لفظة «الكتاب» في كتاب الله الكريم مائتين وثلاثين مرة، فإذا أضفنا إليها فروعها: كتابا، كتابك، بكتابكم، كتابنا، كتابه، كتابها، كتابهم، كتابي، كتابيه، كتب، كتبه، مكتوبا ، كتبت، كتبت، كتبنا، كتبناها، فاكتبها، تكتبونها، نكتب، يكتب، يكتبون، اكتب، فاكتبنا، فاكتبوه، كتب، ستكتب، اكتبها، فكاتبوهم، كاتب، كاتبا، كاتبون، كاتبين، أقول إننا إذا أضفنا هذه الفروع إلى لفظة «الكتاب» كان العدد ثلاثمائة واثنتي عشرة مرة، ولا عجب؛ فسر الحضارة البشرية هو في أن تنتظم حلقات التاريخ في سلسلة واحدة، تجيء كل حلقة منها وثيقة الصلة بما قبلها وما بعدها، فتأخذ عما سبق لتضيف إليه، ثم لتسلم الحصيلة لما هو آت، بل إن هذا نفسه هو سر الحياة والنمو؛ فلو كنا نجتث النبتة كلما اخضر لها نجم على التراب، لاستحال أن يكون من النبتة شجرة وارفة، ولو وقف نمو الطفل عند طفولته لما شهدت الدنيا إنسانا في نضجه، بل لما شهدت الدنيا طفلا آخر. سر الحياة والنمو هو في أن يتحول الكائن الحي من مرحلة إلى مرحلة تليها، فإذا كانت المرحلة الأولى لتفنى فينبغي أن يكون فناؤها تحولا إلى شكل جديد، لا انتقالا إلى عدم؛ بهذا التحول النامي تصبح الإنسانية كلها إنسانا واحدا ممتدا على طول الزمن، كما يمتد بقاء الفرد الواحد عبر الطفولة والشباب والنضج، ثم يتابع امتداده في أبنائه وأحفاده إلى يوم الدين، وهذا هو المعنى الذي يقصد إليه الفلاسفة حين يقولون عن الحياة إن جوهرها «زمان» لا «مكان»، فأنت هو أنت، مهما تغير موضعك من المكان، شريطة أن يظل خط الزمن موصولا معك منذ ولادتك إلى أن يشاء الله، وما تقول عن شخصك الواحد قل مثله عن الأسرة البشرية كلها؛ فهي أسرة واحدة متلاحمة الفروع مهما يكن مكان أفرادها وشعوبها، شريطة أن يسري في أوصالها تيار واحد من الزمن.
وتيار الزمن الواحد هذا، هو تعبير يراد به عملية تطورية واحدة؛ بمعنى أن التاريخ إذا كان قد شهد حضارات كثيرة متنوعة، فلا بد أن نلتمس بينها حلقات الوصل التي تربط حضارة سبقت بحضارة لحقت؛ فما من حضارة عرفها التاريخ لم تستمد أصولها من سابقتها لتواصل السير بتلك الأصول ما أسعفتها قواها؛ لتجيء من بعدها التالية، فتجعل من نهايات الأولى بدايات لها، وكيف كان هذا التكامل ليحدث لولا الكتاب؟
3
الكتاب هو الذاكرة التي تحفظ ما مضي ليكون نقطة البدء لما قد حضر. ماذا كان يحدث لك، أنت الفرد الواحد، إذا كان ليلك يمحو حصيلة نهارك؛ لتصبح مع الصباح وصحيفة ذهنك بيضاء فارغة؟ ليس أمامك عندئذ إلا أن تبدأ من نقطة الصفر مرة أخرى، وهكذا دواليك ليلا بعد ليل، ونهارا يعقبه نهار! لكنها هي الذاكرة؛ ذلك السر العجيب، هي الذاكرة التي تجعل أمسك مع يومك ومن بعده غدك، حياة واحدة تربطها هوية واحدة؟ وليس الأمر في هذا مقصورا على الإنسان، بل يمتد حتى يشمل كل حي، بل إنه ليشمل كل شيء في الوجود كائنا ما كان.
إنه لولا قدرة الكائن على حفظ ماضيه، لاستحال أن يكون لأي كائن تاريخ. تاريخ المجموعة الشمسية هو أن تتعقب أحداثها على مر الزمن منذ كانت وإلى يومها هذا، وهكذا قل في تاريخ الأرض وتاريخ البحر والنهر والجبل، وأولى من هذا أن تقول القول نفسه عن الكائنات الحية نباتا وحيوانا، ثم هو أولى أن يقال عن الإنسان أفرادا وشعوبا وإنسانية واحدة موحدة.
وإذا كانت الجوامد تحفظ ماضيها في أصلابها آثارا يراها العلماء الخبراء ويفهمونها، فللإنسان فوق هذه الآثار البدنية التي تدل على ماضيه العضوي، آثار من نوع آخر تنطق بماضيه الفكري، وأهمها الكتاب؛ فماذا كنت تعرف عن عقيدتك الدينية وما يتصل بها من شريعة وطرائق عبادة، لولا أن وجدت ذلك مسطورا في كتب تركها الآباء عن الآباء؟ ماذا كنت تعرف عن أهلك ووطنك؟ بل ماذا كنت تعرف عن يوم مولدك لولا أن شهادة سطرت لتثبت لك ذلك التاريخ؟
Неизвестная страница