وأجمل فأقول: (1)
استخدمنا كلمة «الذوق» للإدراك الفني - دون الحواس الأخرى - لما يتصف به ذوق الطعام باللسان من اتصال مباشر بالشيء المتذوق، ومن فاعلية يقوم بها اللسان إزاء الشيء المتذوق ليبت في أمره بتا سريعا ولا يحتاج إلى تدبر وتفكير ، فإما أن يقبل الشيء المتذوق فيسمح له بالدخول، وإما أن يرفض فيلفظ؛ لأن دخول الطعام أمر حيوي بالنسبة للكائن الحي. (2)
والذوق الفني كالذوق باللسان فيه القبول المباشر أو الرفض المباشر، وفيه عدم التجريد؛ أي إنه لا يختار من العمل الفني جانبا دون جانب، ولا يكفيه أن ينوب عن العمل الفني رمز يدل عليه، كما هي الحال بالنسبة إلى سائر المجالات الإدراكية؛ إذ لا بد من اللقاء المباشر للعمل كله دفعة واحدة، وإما أن يقابل بالنشوة أو بالنفور. (3)
وليس التذوق الفني هو نفسه النقد الفني؛ لأن هذا مترتب على ذلك يأتي بعده يعلله، فبينما الأول قد يستغني عن الثاني، يستحيل على الثاني أن يستغني عن الأول. (4)
وللنقد الفني مدارس مختلفة، منها ما ينفذ خلال العمل الفني إلى ما وراءه، وهذا الذي وراءه إما أن يكون داخل نفس الفنان أو خارجها؛ أي إنه عندئذ يكون في الوجود الخارجي ماضيه أو حاضره؛ كما أن من مدارس النقد ما يقف عند العمل الفني نفسه - لا لينفذ خلاله إلى سواه - بل ليحلل أجزاءه هو، ويرى كيف ركبت بحيث أحدثت الأثر الذي أحدثته. (5)
وتكوين الذوق الفني الذي يؤهل صاحبه للنقد الفني السليم يتم على خطوتين أساسيتين؛ الأولى: أن يدرك وجها للشبه بين العمل الفني وبين خبرات الحياة الجارية، مطلقا على هذا الشبه لفظة جمالية مما تعود استعماله في حياته العادية، كأن يصف لوحة بالمرح، أو بالكآبة، أو بسرعة الحركة، أو ببطئها، وهكذا. والثانية: هي أن يشير على وجه التحديد إلى الأشياء الحسية في العمل الفني، التي سوغت له أن يطلق عليها تلك اللفظة الجمالية.
أما بعد، فهل أصبت شيئا من التحديد المنشود لعناصر الذوق الفني؟ ألا إنه لموضوع رواغ سرعان ما يفلت من بين أصابعنا، وقلما يصيب فيه المفكر شيئا مما أراد.
رسالة الفنان
ماذا يوحي إلى الناس قولك عن فلان إنه فنان؟ إنه يوحي إليهم أول ما يوحي أنه مختلف عن سائر القطيع، فله معاييره التي يخرج بها على مألوف المعايير ، وليست قيم الناس في تقدير الأشياء هي قيمه، فكأنما هو يعيش في عالم غير عالمهم، ويكابد من الخبرات النفسية غير الذي يكابدون، بل إنه، حتى في غرابته تلك، لا يستقر على حال واحدة من الشذوذ؛ فهو في كل يوم شاذ على صورة من الصور، وعنده تلتقي المتناقضات؛ فالخير والشر يلتقيان على قلمه إن كان كاتبا، أو على فرجونه أو على إزميله إن كان مصورا أو مثالا. فهل يفرق الفنان في تصويره بين الملائكة والشياطين؟ هل يفرق بين الحكيم والأبله؟ فالله والشيطان قد يجتمعان في قصيدة واحدة، كما نرى في «الفردوس المفقود» لملتون، وفي «ترجمة شيطان» للعقاد. ولا عجب أن ترى الفنان - في كثير من الأحيان - عصي الانقياد للقانون السائد والأوضاع القائمة، حتى أبسطها، فلا ثياب الناس تعجبه، فيلبس على هواه، ولا المجاملات المعروفة تستهويه. فإما أن يغفر له الناس شذوذه ويقولون إنه «فنان» فاتركوه، وإما أن يحاسبوه الحساب العسير فيطردوه من مجتمعهم كما فعل شيخ الفلاسفة أفلاطون في «جمهوريته» التي أقامها بخياله العاقل الوثاب.
رسم أفلاطون للدولة مثلا أعلى من وجهة نظره، فجعل الناس طبقات على أساس قدراتهم، ثم جعل لكل إنسان عمله الذي يتفق وطبيعته التي فطر عليها، وأم الشرور كلها - عنده - أن يحاول رجل من فئة أن يؤدي مهمة رجل من فئة أخرى؛ فالفضيلة الكبرى التي لا فضيلة بعدها هي أن يرضى الإنسان بموضعه الذي حددته له طبيعته، وهو بهذا الرضا يحقق وجوده باعتباره إنسانا، ويحقق وجوده باعتباره مواطنا يعيش مع الناس في مجتمع واحد، وهما وجودان قلما يجتمعان إلا في ظل السياسة التي رسمها أفلاطون؛ لأنك - في الأنظمة السياسية الأخرى - إذا أصررت على فرديتك الإنسانية، وأردت التعبير عن طبيعتك الخاصة تعبيرا حرا، خرجت بذلك حتما على التجانس الذي أرادته القوانين الاجتماعية بما فيها من عرف وتقليد، وإذا انضويت مع الناس في طرائق عيشهم، ضحيت حتما بفرديتك المستقلة، لكن الوجودين يلتئمان في الجمهورية الأفلاطونية على زعم صاحبها، فأين يوضع الفنان في مجتمع كهذا يجعل تجانس أبناء الطبقة الواحدة مبدأه الأول، والفنان - كما رأينا - شرود بطبعه جموح، لا ينساق في قالب يقد له، ولا يطمئن لقيد يحدد له خطاه؟
Неизвестная страница