ونحن إذن في برزخ الأنوار، وراء الجدران نور الشمس في مدينة الشمس الخالدة، وبين الجدران نور القرائح ونور الحكمة ونور البيان!
قلت: مجاز حسن وإن طال به عهد أصحاب المجاز، الكتب علم، والعلم نور، ولكنني لا أحسبه مجازا يجري في النفس كما يجري في لفظ اللسان. فهل من الحق أننا نواجه المكتبة كما نواجه النور؟ وهل خطر لك قط أن تسأل نفسك: كيف تبده الكتب الكثيرة - مجتمعة في مكان واحد - من يدخل عليها لأول مرة؟ كيف يقع ألف كتاب أو عشرة آلاف كتاب موقعها ممن يفجأ بها ويعرف ما هي، وإن لم يعرف معناها؟ إننا في هذه الحضارة قد تعودنا منظر الكتب متجمعات بالمئات والألوف، ولكننا خلقاء أن نتجرد من فعل العادة ولو لحظة عابرة لننظر إلى هذه الظاهرة من جانب غرابتها لا من جانب ألفتها، فكيف تبدهنا رؤية الكتب لمئات من أصحاب القرائح والعقول محشوة في بضعة رفوف؟
إنني لا أسأل عن أولئك القراء والدارسين الذين ألفوا عشرات الكتب بالليل والنهار، إن هؤلاء ينظرون إلى كتبهم كما ينظر الجوهري إلى الثروات المخزونة عنده في صناديق البلور من نوادر الفصوص والأحجار الكريمة، أو كما ينظر البستاني إلى أحواض الزهر، وهي تترعرع أو تذبل بين يديه، أو كما ينظر صاحب القصر إلى أسراب الحسان المقصورات فيه، أو كما ينظر المهندس إلى الأزرار التي في لوحته وقد ينطلق كل زر منها بما يحرك مدينة بأسرها، وكلهم يملكون زمامهم، أو زمام تلك المرئيات وهم يحسون بها، وكلهم يحضرون منها ما ألفوه وتعودوه وكرروه، وقد يغيب عنهم منها جانب المفاجأة والغرابة، ولكنني أحب من حين إلى حين أن أستغرب ما آلف وأن آلف ما أستغرب، ويثير هذا الشوق في خاطري أن أشهد وقع هذه الغرابة مرتجلا في بعض النفوس، ولا سيما النفوس التي تقارب الكتب من بعيد.
قال صاحبي: وماذا وقع من صورتها في نفسك كلما استغربت ما ألفت منها؟
قلت: لا أحدثك بهذا الآن، وإنما أحدثك بما شهدت وعاينت، ثم أحدثك بما استدرجني إليه الخيال كلما ألقيت بمقادتي إليه.
لا أنسى وهلة فتاة ذكية حين دخلت هذه المكتبة عرضا في بعض الأيام.
كانت على شيء من التعليم، وكانت تميل إلى القراءة كلما اتفقت لها قصة سائغة أو قصيدة شائقة، ولكنها فوجئت بهذه الكتب المتجمعة، فصاحت على غير روية منها، يا سلام، كتب، كتب كتب، كل هذا كتب، شيء يدوخ! ومالت برأسها كأنها تهرب من دوار ينذرها بإغماء.
ألا ترى يا صاحبي أن هذه الفتاة قد عرفت الكتب فلم تعرفها جلودا وأوراقا وألوانا تشوق العيون، ولكنها عرفتها كما هي في الحقيقة زحمة من الأفكار والمعارف تشفق منها على رأسها الصغير؟
لقد عجبت يومئذ من هذه الوهلة؛ لأنني أعلم على التحقيق أن الفتاة شاهدت المكتبات في المدرسة وشاهدتها في السوق. فسألتها: أهذه أول مكتبة رأيتها في حياتك؟
تعجبت هي أيضا معي من هذه الوهلة، ولم تزد على أن تقول: رأيت غيرها كثيرا، ولكني لا أدري لماذا «دخت» وأنا أنظر إليها هنا.
Неизвестная страница