قلت: بل يسخر بعض الغربيين بهذه الموسيقى وأمثالها، كما نسخر نحن منها، ولهم في التندر عليها قفشات تذكرنا بقفشات أولاد البلد؛ لأنها تجري على أسلوبها. هذا يزعم أن القرن النحاسي اعتدل من النفخ فيه بأمثال هذه الأنغام، وذاك يزعم أن طبيبا أخذ مريضه الأصم إلى فرقة من هذه الفرق ليشفيه بضجيجها، فسمع المريض وصم الطبيب!
فليست كل موسيقى مفهومة عند كل سامع، ولو كان الموسيقيون والسامعون من بلد واحد. وليس من اللازم أن يستطيب محب الغناء كل غناء، ولا أن يستطيب محب الشعر كل قصيد، ولو كان من نظم أجود الشعراء.
قال: ولماذا لا نلغيه من عداد الموسيقيين كما ألغينا أولئك المبتدعين المحدثين من عداد المصورين؟
قلت: أولئك فهمنا أنهم سخفاء، أما هذا فنحن لا نفهمه ولا ندينه بما لا نفهم، ولو كنا نحيط بكل سر من أسرار الموسيقى، ونتلبس بكل مزاج من أمزجتها لصح أن نقضي عليه وعلى المعجبين به وبفنه، فقصارانا أن نقضي فيه بأنه عندنا نحن «غير مفهوم!»
وامتدت السياحة خطوة فإذا نحن في حجرة النوم.
وحجرة النوم في بيت الرجل الأعزب كحجرة الاستقبال وحجرة المائدة وحجرة المكتب، ليس عليها حجاب.
غير أنني قلت لصاحبي: إن هذه الحجرة تعنيني ولا تعني أحدا غيري من الناس، اللهم إلا بعض الصور الفنية التي فيها، وكلها منسوخة من أصولها المحفوظة في متاحفها، فليس فيها من صورة أصيلة أو تحفة غالية، ما عدا واحدة بمفردها هي بينها آية الاستثناء في كل قاعدة من قواعد التعميم.
هذه شالومة أو سلامة، صاحبة هيرود، من تصوير الفرنسي بروسيير؛ كان ثمن رقصتها في زمانها رأس نبي من أنبياء بني إسرائيل. ولا تزال رقصات الفاتنات من خليقاتها تكلف الناس كثيرا من الرءوس، وإن لم تكن رءوس أنبياء: فإن هذا الصنف قد انقطع عن الدنيا منذ زمن بعيد!
وهذه صورة الزهرة من تصوير الإسباني فيلاسكيه، جسد بديع وقوام ساحر ومعاطف منسوقة، لولا أمانة فيلاسكيه المشهورة لحسبناها من تنسيق الخيال، شغل بها المصور فمثلها على تمامها، ولم يمثل لنا الوجه إلا في مرآة رفعها رب الحب أمام ربة الجمال.
وهذه صورة تاييس وهي تهدم إيمان الناسك المسكين، وقف أمامها وقد تبادلا الفتنة، فأخذها بوعظة وأخذته بغواية جسدها، ولبس هو طيلسان الأثرياء وخلعت هي كل طيلسان، وكأنما شاء المصور أن يعقد المقارنة بين هذه الفاكهة الشهية وبين ثمرات البساتين، فجود ما شاء في العنب والموز والبرتقال، ولكنه تركها إلى جانب هذا البستان الحافل كأنها الماء الذي لا طعم له ولا لون، ولا يروي الظمآن إلا شراب ذلك البستان.
Неизвестная страница