قلت: الحق أقول لك يا صاحبي إنني أود أن أسمعها صيفا وشتاء كلما انتبهت في هذا الموعد، وقلما تمضي ليلة لا أتنبه فيها، ولكن الشتاء مقفل مستور والصيف مفتح مكشوف، ومنظر رجل يستمع إلى الحاكي في الساعة الثالثة بعد منتصف الليل منظر يرشحني لسمعة الجنون المطبق بعد ليلتين أو ثلاث، ولن تؤمنني من هذه السمعة اللازبة ألف شركة من شركات التأمين، لو نصبت الشركات للتأمين على العقول.
كلا: إنني أسمعها في ذلك الموعد من الصيف، ولكنني أستعيض منها بجلسة في الشرفة ونظرة إلى الطريق، وقد يبلغني الإصغاء إلى السكون أحيانا ما يبلغنيه الإصغاء إلى أنبياء النشيد.
إننا نكبر بالليل جدا يا صاح.
إن الليل هو عالم النفس، وأما النهار فهو عالم العيون والأسماع والأبدان.
إننا بالنهار جزء صغير من العالم الواسع الكبير، ولكن العالم الواسع الكبير كله جزء من مدركاتنا حين ننظر إليه بالليل، وهو في غمرة السبات أو في غمرة الظلام.
ذلك النجم البعيد الذي تلمحه بالليل هو منظور من منظوراتك، ووجود منفرد بك أمام وجودك!
ذلك الصمت السابغ على الكون هو شيء لك أنت وحدك رهين بما تملأه به من خيالك وفكرك، ومن ضميرك وشعورك.
تلك المدينة الصاخبة التي نضيع فيها إذا أضاءتها الشمس هي شبح مسحور يلقيه رصد الليل تحت عينيك، وهي ضائعة كلها إذا لم تأخذها في حوزة نفسك، ومجال بصرك، وكأنما هي من تلك المدن التي تسحرها لنا الأساطير، فكلها مفقود في غيبوبة الأرصاد، إلا السائح الذي ساقه إليها القدر: وهو ساهر الظلام!
أنت عالم النفس بالليل، كأنما توازن وحدك عالم الأنظار والأبدان.
وأنت تشمل الدنيا بالليل، وهي تشملك بالنهار.
Неизвестная страница