لما عرفت الشعوب حقوقها المدنية، وتغيرت قواعد الحكم في هذه الدنيا، وأصبحت الشعوب مصدر السلطات، وقضي على سلطة المستبدين بأمرهم، وتقررت مبادئ الحرية السياسية والفكرية؛ قضى هذا التطور الكبير على تسلط الصفات القديمة التي كان يجب أن يمتاز بها السياسيون. أما اليوم، فالسلطة لأشد السياسيين ليونة وأكثرهم أخذا بالواقع المحسوس، وأشدهم سيرا مع ما تتجه فيه الجماهير.
وأما في الغد، فإن العلم سوف يتسلط على العالم كله، وحتى على السياسة، ولست أدري كيف أن سياسيا أو زعيما يجهل مبادئ علم البيولوجيا والاجتماع، يكون في مستطاعه الحكم على حقائق الأشياء أو على ظواهرها حكما بعيدا عن مواقع الزلل.
معنى الحرية
جاهد الناس في سبيل الحرية، والحقيقة أن جهادهم واستماتتهم في سبيلها لم يكن عن اقتناع بأنها مفيدة أو أنها ضرورية أو أنها ستبلغ بهم - إذا ما استحوذوا عليها - إلى أقصى قمة من المجد أو السعادة في الحياة، لم تكن استماتة الناس في القتال من أجل الحرية لشيء من هذا، بل كان قتالهم في سبيلها آتيا عن طريق الوهم والتخيل، أكثر من أي شيء آخر.
خيل إلى الناس أن الحرية هي الإباحة، وتحت هذا العنوان عملوا، وانقيادا لهذه الأخيلة، قاتلوا واستماتوا في سبيل الحرية. لم يدرك معنى الحرية إلا نفر قليل عديدهم من زعماء الشعوب، بل أدركوا الحرية محدودة بحدود ضيقة، مقيدة بقيود ثقيلة. ولعمري كيف يمكن أن تقاتل الجماهير في سبيل الحرية إذا هم أدركوها على ما أدركها «ميل» أو «بنتام» أو غيرهما من رجالات الأمم؟
خيل إلى الناس في عصر من العصور، أن الحرية هي إطلاق الشهوات والانفعالات وكل النزعات والصفات الإنسانية التي هي أدنى إلى أفق الحيوان من بقية الصفات؛ لهذا قاتلوا واستماتوا في سبيلها؛ لأنها كانت إليهم محببة مرغوبا فيها، على هذا التصور الغريب.
أما اليوم، فإن العلامة جوليان هكسلي، وهو من أكبر الباحثين في التناسليات، يقول على ملأ من العالم: «متى يقلع الناس عن خرافة الاستمساك بما يسمونه الحرية الشخصية؟» وما من فرد واحد يرفع في وجهه عقيرة أو يجابهه بقول. أليس في هذه الظاهرة دليل واضح على أن الإنسانية ارتقت أدبيا من طريق الوهم أكثر من ارتقائها من طريق الحقائق الواقعة؟ أوليس في هذا دليل على أن المستحيلات الثلاثة: الحرية والإخاء والمساواة، كانت على استحالتها دافعا للإنسانية على التقدم والارتقاء؟
قد يتساءل البعض: كيف أن الحرية والإخاء والمساواة مستحيلات ثلاثة دفعت الإنسانية على التقدم والارتقاء، وكيف يمكن أن يكون المستحيل عاملا مؤثرا في الحياة الاجتماعية يبعث الناس على الضرب في سبيل التقدم.
أما السؤال الأول فجوابه بين سهل: لأن الحرية تنافي المساواة، بدليل أن ليس من شيء هو أقتل للحرية من العمل على التسوية بين غير المساويين. والناس لا يتساوون، اللهم إلا في المجاز، وهو ولله الحمد ليس بذي أثر في الحياة العملية. كذلك تتنافى فكرة الإخاء مع الحرية؛ لأن الحرية تعطي لكل فرد الحق في أن ينافس غيره وأن يجاهده الحياة ويناحره فيها من أجل البقاء، فإذا منعت على الناس حق المنافسة والتناحر، جردتهم من أول ما تتطلب الحرية من صفات.
أما كيف تؤثر هذه المستحيلات في الجماعات بما يبعثها على الرقي، فسبيل سهل؛ لأن الناس لم يفهموا هذه المستحيلات على حقيقتها، بل بموحياتها النفسية لا غير، فهموها على مقتضى ما أوحت إليهم نفسياتهم من مدلولات؛ لهذا سعوا إليها، وعملوا تحت رايتها، فبلغوا شأوا من الرقي مهما قيل فيه، فإنه شأو لا يغبطون عليه.
Неизвестная страница