وفي بيان مخالفته لفكرة الإقليمية، يقول موضحا وجه احتراسه من الفكرة ما عبارته: «فقد كان العالم الإسلامي حتى هذا القرن - الرابع - لا يزال متشابكا بالرغم من ظهور الأوطان السياسية، ولم تظهر بعد الصفات التي تميز وطنا عن وطن في العلم أو في الشعر. وقد اعتبر المقدسي مملكة الإسلام تمتد من كاشغر في أقصى المشرق، إلى السوس الأقصى في المغرب. وقد حددها ابن حوقل في الشرق بأرض الهند وبحر فارس، وفي الغرب بمملكة السودان الذين يسكنون على المحيط الأطلسي، وفي الشمال ببلاد الروم وما يتصل بها من الأرمن واللان، والران والخزر والبلغار والصقالبة والترك والصين، وفي الجنوب ببحر فارس. ويلاحظ الأستاذ «آدم ميتز» أن المسلم كان يستطيع أن يسافر في هذه المملكة فلا يشعر بوحشة؛ إذ يجد شريعة واحدة، وعرفا وعادات واحدة. ويلاحظ أيضا أن ناصر خسرو طوف في هذه المملكة أثناء القرن الخامس الهجري، دون أن يلاقي من المضايقات ما كان يلاقيه الألماني الذي كان يسافر في ألمانيا أثناء القرن الثامن عشر الميلادي.» •••
وإذ ما طرحنا نحن هذه الإطالة الجغرافية في بيان حدود تلك المملكة الفسيحة، بقي اتساع رقعتها شاهدا على عدم الوحدة لا على الوحدة؛ لأنه اتساع شمل ألوانا من البشر وأجناسا، ولغات، وثقافات متفاوتة، مختلفة متغايرة، شديدة التفاوت، عظيمة الاختلاف، عنيفة التغاير. ولا نبين هذا التفاوت والاختلاف والتغاير؛ فهو أبين من ذلك وأوضح، ولكن ننظر في مظاهر الوحدة التي يحتج بها القائل، فأول ذلك قوله: «لم تظهر بعد الصفات التي تميز وطنا عن وطن، في العلم أو الشعر.» والجمع بين العلم والشعر في هذا خطأ بين؛ لأن العلم بطبعه لا وطن له، وستتطاول القرون دون أن تظهر الصفات المميزة للوطن العلمي؛ لأن العلم ليس إلا حقائق ذاتية، لا تتغير بالزمان ولا بالمكان، ولا بالمتناول، ولا بالمتذوق، ولا بالعارض، ولا بالدارس، ولا بغير ذلك من مؤثرات تغير الأدب وتلونه، وتخالف بينه، وتعدد صنوفه وفنونه. ولعل هذا الجمع بين العلم والشعر رأس الخطأ في تفكير من ينظرون في تاريخ الأدب، فيجرون الفن على منوال العلم وأساليبه.
ومظهر هذه الوحدة عند مدعيها هو: «استطاعة المسلم السفر في هذه المملكة ...» إلخ، ما ينقل عن آدم متز، فهل صحيح أن هذا المسافر كان يجد شريعة واحدة؟ هل صحيح أنه لا يجد الفقه الشيعي في فارس، والتشريع الخارجي حينا في جنوب بلاد العرب، والأصول الباطنية - أيام القرن الرابع - في فاطمية مصر، ويجد المذهب الحنفي في البيئات التركية، غير المذهب المالكي في المناطق المغربية، وبين هذه الألوان من الفقه الإسلامي، بل بين هاتيك المذاهب المختلفة من الفقه السني نفسه، ما لا يعد معه القول بشريعة واحدة إلا قولا خطابيا استهوائيا لا حظ له من الدقة. •••
ولا يقف الأمر عند الشريعة، وهي ظاهرة عملية في الحياة الإسلامية، بل يمتد إلى العقيدة نفسها، وهي مظهر نفسي داخلي يكاد يختلف به الإسلام عن غيره من الأديان، حين يضيق شقة الخلاف فيه بين المسلمين. ولكن الباحث المؤمن بالأساليب العلمية الصحيحة في فهم الحياة، لا يرى أن هذه الفروق في العقيدة الإسلامية نفسها يسيرة الشأن، فلقد كانت العقيدة الإسلامية في نفوس الأتراك، وما والوا من الشعوب الصفراء، موئلا لألوان من التفسير والتكييف والاقتباس، والتقبل لأنواع من الأوهام والآراء، تمتاز بها هذه المناطق. كما كانت تلك العقيدة ذاتها في أنفس الفرس الآريين، أصحاب المثنوية المعروفة والوثنية الخاصة، تتجه نواحي من الاتجاه، تخالف هذا الذي في نفوس الأتراك وما تكيف به اعتقادها وتفسره، كما تختلف عن مثلها في نفوس العرب البداة أو البربر البداة مثلا.
وليس يعنينا هنا أن تكون شقة الخلاف التصوري والتفسيري للعقيدة الإسلامية واسعة أو ضيقة، فنثبت ذلك أو نبينه؛ لأنا إنما نهيئ بالإشارة إليه، لرد القول بأن الشريعة الإسلامية كانت واحدة في هذه المملكة الفسيحة الرقعة، المنبسطة الأرجاء. فنقول إن هذه الوحدة لم تتحقق حتى في العقيدة نفسها، لا في الشريعة فحسب، وإلا ففيم هذه الملل والنحل المختلفة الكثيرة التي وصلت في عد الحديث ذاته إلى كذا وسبعين فرقة، وهي في عد العلم والتحقيق هكذا أو أكثر؟
وهل صحيح أن المسافر كان يجد عادات واحدة وعرفا واحدا؟ وأن آية ذلك وحجته أن ناصر خسرو طوف في هذه المملكة أثناء القرن الخامس الهجري دون أن يلاقي من المضايقات ... إلخ؟! كانت العادات واحدة والعرف واحدا في مراكش وخراسان، وقد اختلف الجنس وتغاير الدم، وتنوعت الحياة، وتفاوت الحظ من الحضارة وميراثها. ومن ذلك كله تكون العرف ورسخت عروق العوائد، في أرض من الماضي المختلف، بل المتباين، وهذا الحاضر المتفاوت المتخالف؛ فبكت الشيعة يوم عاشوراء، حين ابتهج غيرهم يوسعون فيه على عيالهم، وشرب التتر في آسيا ألبان الخيول، حين عافها غيرهم في إفريقية وسواها، وجال علماء الأندلس عراة الرءوس، وشهدوا مجالس القضاء بغير عمائم، حين أرخيت العذبات وكورت العمائم في المشرق، وعدت تعرية الرأس ضربا من الإخلال بالأدب، وبيضت المغاربة بالأندلس حزنا، وسودت المشارقة حدادا، فكادت العادات أحيانا تمثل في خلافها، أو تمثلها في هذا الخلاف قصة الحجازي الذي قال له القيل الحميري: ثب، فرمى بنفسه من أعلى الدار، والقيل إنما يريد منه - فيما حكوا - أن يجلس. تلك هي العادات والعرف.
والمقدسي الذي وردت الإشارة إليه في عبارة الكاتب السابقة، قد بسط في كتابه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» ألوانا مما تفاوتت فيه هذه الأقاليم في حياتها، فذكر نقودا مختلفة، وموازين ومكاييل متغايرة، كما أشار إلى طرائق تعليم، وعلوم، وآداب، وثقافات متعددة؛ وذكر أحيانا أزياء لا تتشابه في تلك الأقاليم، وألم بمختلف العادات في تناول الحياة، وعرض لاختلاف أخلاق الناس في تلك الأنحاء. وللقدماء أنفسهم في اختلاف الأخلاق باختلاف البلاد فكرة واسعة متأصلة، نلمسها دائما في كتاباتهم عن البلدان، فنجدها عند «ياقوت» في معجمه، كما نجدها عند «المقدسي» وعند غير هذين أيضا، حتى صار من كلماتهم المشهورة: «للبقاع تأثير في الطباع».
3
وقضية تكون العادات والأعراف نفسها واستقرارها في بحث النفس البشرية، تشهد باختلافها الشديد وتفاوتها العنيف، بل قضية الفقهاء المسلمين أنفسهم تقضي بهذا الاختلاف، إذ يعللون به اختلاف رجال المذهب الفقهي الواحد في الآراء، بعد ما يتأصل بينهم من وحدة الأصول، واستقرار وجهات النظر الأساسية.
وهكذا جعل هؤلاء الفقهاء العرف من مناشئ اختلاف الحكم الشرعي، وعدوا هذا أصلا مقررا، وإذا ذكر العرف والفقه، تذكرنا أن الشافعي في نحو خمس سنوات وشهور - بين شوال 198ه، ورجب 204ه - أقامها بمصر، قد خلف مذهبه الفقهي الجديد، بعد مذهبه القديم في المشرق - العراق والحجاز - فما بال هؤلاء الباحثين ينسون مثل تلك الحادثة المشتهرة حين يتحدثون في الأدب والفن؟ ومثل أولئك أخلق بالاختلاف والتفاوت - بل التباين - من التشريع العملي والفقه التنظيمي، الذي يسوس علاقة ما بين الناس في أمور مادية منضبطة، أصلها كلها واحد، ومصدرها بيان واحد، أو عمل واحد. •••
Неизвестная страница