وإلى هذا الواقع أشرت في وضوح عند الحديث عن «مصر في تاريخ البلاغة»، وكان مما قلته فيه
8
ما خلاصته: إن مصر في أثناء القرون، الخامس والسادس وشطر من السابع، كانت صاحبة الخلافة الفاطمية، ثم السلطنة الأيوبية، قد انبسط نفوذها شرقا وغربا، وكسف ضوؤها خلافة بغداد التي كانت تتحلل وتنحدر، وترى مصر تقف أخيرا وحدها في وجه الصليبيين، والغرب كله؛ لتذود عن الإسلام والشرق كله، وأنها كانت مع هذا المركز السياسي والاجتماعي الخطير، مركز حياة علمية وفنية في الشرق الأدنى، مزهرة خلال تلك المدة. ونجد مصر تحكم ما حولها من الأقاليم شرقا إلى العراق، وغربا إلى نهاية المغرب. فنجد من كل ذلك أن الطابع المصري في مختلف المرافق، يظهر جليا في تلك الأقاليم شرقا وغربا. ونرى رجال تلك البلاد يعملون لخلفاء مصر وسلاطينها في الأعمال السياسية، والأدبية، والحربية، والعلمية، والإدارية، ومن أجل ذلك يكون من الطبيعي أن يتثقفوا ثقافة مصرية الروح، وهذا ما يسعنا معه - دون تزيد ولا سرف - أن نعد بعض رجال هذا العهد، الشامي الأصل، أو المغربي المحتد، رجالا مصريين فنا، ومصريين فكرا، ومصريين ثقافة. على أني لن ألجأ إلى ذلك اعتباطا وتحكما، بل سأعد من هؤلاء من لزموا الوادي، وآثروا الانتساب إليه، ولقبوا أنفسهم فعلا بالمصريين، وعملوا في بلاد مصر ذاتها.
وعدت إلى هذه الفكرة مكملا لتطبيقها [الأدب المصري - إقليمية الأدب]، فقلت: «ولو قدرنا - ونحن محقون - أن هذه المدرسة الأدبية المصرية إنما كانت مدرسة الشرق الأقرب كله، مركزها مصر - أو أهم مراكزها مصر - لما بيناه سابقا من تصدرها في ذلك العهد سياسيا واجتماعيا؛ لو قدرنا ذلك لعددنا من كتب هذه المدرسة مثل كذا وكذا ... إلخ.»
وهذه الإشارة - فيما أحسب - هي التي وجهت النظر إلى عدم التزام الحدود الجغرافية عند دراسة مصر أدبيا أو علميا، لكن لا على أن ينتهي هذا إلى إهدار الأصول الكبرى لفكرة الإقليمية. •••
ومن طريف اختلاف النظر أن ينظر شابان جامعيان إلى هذه الفكرة حين عرضت هذا النحو من العرض ، فيكتب أحدهما في مجلة أدبية: إن هذا القول بها هدم للشخصية المصرية، ما دامت المدرسة كانت مدرسة الشرق الأقرب كله، إذ لا يكون لمصر خصوصية بها. ويكتب الثاني ما سمعناه آنفا من تحديد فكرة المصرية، وبيانه معالم الشخصية المصرية بهذه الفكرة، دون التزام الحدود الأرضية، والمميزات الإقليمية.
ولا يبدو أن أحدهما قد نظر في دقة إلى هذه الفكرة؛ فالأول قد عد فيضان الشخصية المصرية على ما حولها، وتوجيهها الدرس الأدبي في الشرق الأقرب وجهات تمليها شخصيتها، عد ذلك هدما للشخصية المصرية، وعدم إثبات خصوصية خاصة بها. كأنك إذا ما قلت إن مبادئ الثورة الفرنسية قد فاضت على أوروبا في عهدها، ووجهت الحياة السياسية والاجتماعية، تكون قد أنكرت خصوصية فرنسا في هذه المبادئ وجهادها في سبيلها! وهو قول لا يحتاج إلى طويل تعليق لإبطاله.
وأما هذا الثاني فقد رأيتموه يأخذ من انتشار الطابع المصري على ما حوله، أن هذا الطابع القوي الذي وجه الحياة الأدبية فيما حول مصر من أقطار عرفت النفوذ المصري، في أدوار من التاريخ مختلفة، يكون من أثره أن هذه الشخصية لا تقوم على جنس بعينه، ولا على كيان متميز خاص، ولا تحد ببيئة معروفة لها معاملها الجغرافية، وحدودها الطبيعية! •••
ونحن ننكر هذا الإهدار لمعالم البيئة المصرية، وننكر القول بأن مصر التي تؤرخ أدبها، هي مصر بحدودها الفنية التي تجاوزت البحر الأحمر؛ لأن الإقليمية كما أسلفنا في بيان مطول، إنما هي قضية البيئة الطبيعية حيثما تهيأت البيئة المتميزة المستقلة المنفصلة، التي تكون بهذا التميز والاستقلال أهلا لأن تحتضن شعبا بعينه، وتبرز بهذا التميز خصائصه المادية والمعنوية. فنحن إنما نقدر أن مصر من هذه الناحية قد ظفرت بعوامل التميز المادي الكافي؛ إذ قامت عليها حدود من الفواصل العنيفة ذات التمييز القوي، وهي البحار المائية في شمالها وشرقها، تعاونها بحار الرمال في غربها والشرق، والفواصل الجوية والأرضية في جنوبها؛ وبهذا صح أن يكون لهذه البيئة الطبيعية أو المادية مؤثراتها التي تدفع نازليها إلى التفرد والتبين، حتى يحق ما قلناه من قبل، ورددناه كثيرا من قيام الإقليمية الأدبية على أصل علمي واقعي مادي، يمكن معه القول بأن هذا التميز الفني إنما هو قضية العلم في تاريخ الأدب، فتكون هناك الشخصية المصرية بمعالمها الواضحة، ومقوماتها المميزة، ثم تؤثر تلك الشخصية بعد ذلك فيما حولها شرقا وغربا، ويفيض أثرها على ما حولها.
وأما ما أشار إليه متناسي الحدود الجغرافية من أن الإسلام لم يعرف الوطنية ولا العصبية، ولا عرف التفرقة بين الأقطار التي تضمها الراية الإسلامية ... إلخ، فهذا شيء ما إن ننكره، ثم ما إن نقدر أثره تقديرا خاطئا.
Неизвестная страница