إليكم يرد الأمر وهو عظيم ... فإني بكم طول الزمان رحيم
إذا لم تكونوا للخطوب وللردى ... فمن أين يأتي للديار نعيم
وإن الفتى إن لم ينازل زمانه ... تأخر عنه صاحب وحميم
إذا لم تكن للعائذين حماية ... فأنت ومخضوب البنان قسيم1
كان النديم يرتجل خطبه ولا يزورها، وإنما هي كلمات ملتهبة تعبر عن عواطف جياشة تتحرك في صدره ، تصور آلامه وآلام أمته، كما تصور آمالهم وأحلامهم، وما مثله يحتاج إلى التحضير والتحبير وقد أوتي اللسان المطواع الذرب، وملك أعنة الكلام؛ ولقد تراه يخطب في المحفل الواحد خمس مرات، فما يكرر كلاما قاله، ولا يتردد أو يتلعثم، وكان يجوب القرى والدساكر فيخلب قلوب الفلاحين بسحر بيانه وعذب لسانه ورائع خطبه، يحرضهم على الإباء والكرامة، والغضبة للوطن المكلوم، حتى عرف بخطيب الشرق، وكان يدعى بالبرق إلى الإسكندرية وغيرها ليخطب فيلبي الدعوة زميعا، "ويرتجل من حر القول البليغ القوي القويم الحجة ما يترك الألباب سكارى من غير مدام"2.
ولعلك لاحظت أنه لم يكن يتكلف السجع في خطبه أو غيره من المحسنات، ومع ذلك تحس لكلامه أسرا وقوة، ورصانة وموسيقية أخاذة، وأنه كان يعمد إلى التهويل والمبالغة والتزيد حتى يقنع ويهيج العواطف، ويلجأ إلى الإيحاء والدفع، ويكثر من الشعر والحديث والاقتباس، من آي الله الحكيم، ويؤيد بها حجته، ويعلي كلماته، وليكون كلامه أعظم تأثيرا وأقوى بيانا.
وكانت كتابته خطبا مكتوبة من حيث الموضوع والأسلوب، ولا سيما تلك التي كتبها في أيام الثورة العرابية، وفي إبان الحرب بين مصر وإنجلترا في جريدة "الطائف"؛ فكان لها فعل السحر في النفوس، ورفع الروح المعنوية، وتثبيت القلوب الواجفة, والأفئدة المضطربة الخائفة.
Страница 316