Файсал Первый: Путешествия и история
فيصل الأول: رحلات وتاريخ
Жанры
3
حيث تقيم الملكة حزيمة؛ زوجته الوحيدة، وابنه الوحيد الأمير غازي، وكريماته الأميرات الثلاث، ها هنا كان الملك فيصل يقضي مع أهله بضع ساعات من يومه.
وما استنكف أن يكون منزله في صف من البيوت العادية قريبا من منزل معلمه المسيحي اللبناني، أقول «المسيحي اللبناني» لألفت نظر العرب في كل مكان، ونظر أبناء لبنان، إلى مزية خاصة في فيصل، بل في البيت الهاشمي، فما كان الملك حسين - رحمه الله - يفرق بين العربي واللبناني، والمسلم والمسيحي، وأن أنجاله كلهم مثله في هذا الموقف العربي الشامل في عروبته جميع سكان البلاد العربية، إنما الملك فيصل كان أقربهم إلى اللبنانيين، وأكثرهم إعجابا بهم، وأشدهم رغبة في استخدامهم، والانتفاع بعلومهم ومواهبهم.
على أن النزعات السياسية، والنعرات الحزبية في العراق، كانت تحول دون تحقيق رغباته، من ذلك ما أراده مرة لمعلمه إبراهيم دباس؛ فقد كان في نيته أن يعينه كاتب سره، لولا صوت الاحتجاج في البلاط وخارج البلاط. وما السبب في ذا الاحتجاج؟ إني على يقين - وأنا أعرف بعض المحتجين - أن لا أثر للتعصب الديني فيه، إنما هي السياسة والمآرب الشخصية، التي تشين غالبا الأعمال الوطنية في كل البلدان، وخصوصا في هذا الشرق العربي.
وما كانت مشاكل الملك الكبرى تمكن الملك فيصل من الاهتمام بغيرها من المشاكل الحزبية المحلية، بل ما كان يجيز لنفسه تكبير صغائر الأمور، وعنده من كبيرها ما يشغل قلبه وعقله، ومعظم وقته وقواه.
وعنده فوق ذلك، وهو الملك التلميذ، مسائله الإنكليزية والفرنسية يدرسها. ما كان فيصل بالتلميذ الكسول، المتأخر في التحصيل، كما كان في صباه بالأستانة؛ فقد بلغ الشأو في الإنكليزية، على قصر وقته للتعلم، وعندما زار إنكلترا زيارته الأخيرة خطب خطبة بهذه اللغة، وكان مسرورا بل فخورا بحسن وقعها، فقد قال لمعلمه الدباس : «كنت أتمنى يا أستاذ أن تكون معي في لندن لتسمع تلميذك يخطب بالإنكليزية كأبناء الإنكليز أنفسهم، فإنك ولا شك كنت تفتخر بتلميذك ...»
ملك تلميذ، وقد كان بوده أن يكون كذلك معلما؛ فقد خطب مرة في دار المعلمين، في واجبات المعلم الخلقية والروحية، وقال إنه مستعد لأن يعلم في مدرسة ثانوية ولو بضع ساعات في الأسبوع.
ملك يتعلم ويعلم، ويعمل فوق ذلك في وضع أسس الدولة وتوطيدها، فلا عجب إذا كان عمله اليومي يتجاوز في بعض الأحايين اثنتي عشرة ساعة. كان يجيء المقر كل يوم في الساعة السابعة صيفا والثامنة شتاء فيصل، غالبا، قبل رؤساء الدواوين، ويشتغل من خمس إلى سبع ساعات، ثم يذهب في الساعة الواحدة بعد الظهر إلى الحارثية مزرعته، وهي على نحو خمسة أميال من بغداد، للغداء وللقيلولة، إلا أنه كان غالبا يحرم الراحة حتى هناك؛ لأن أشغال الملك كانت تلحق به إلى ذاك البيت الصغير؛ حيث كان يدعو بعض صحبه، فتعقد الجلسات السياسية حول مائدة الشاي.
وليس فيما عددت كل أشغاله؛ فقد كان يقول عندما يجيء الحارثية: إني ها هنا فلاح. وقد قال لي مرة إن كل ما كان يتبقى من ماله، بعد النفقات الخاصة والعامة، دفنه في الأرض، أي في مزرعتيه بالحارثية وخانقين، فقد كان - والحق يقال - شغفا بالأرض؛ بزرعها، بامتحانها، بتحليل عوامل خيرها، بتجربة الآلات والبدع الزراعية فيها. ما كان يباشر هذه الأعمال كلها بنفسه، ولكنه كان يشرف عليها، ويهتم ما استطاع بها. ومع ذلك فما أفلحت مشاريعه الزراعية كلها، وأكثرها لا يزال في طور التجربة.
نسمع الحكومات والمصلحين في أوروبا وأميركا ينادون الناس في الأيام ويحذرونهم قائلين: عودوا إلى الحقول، عودوا إلى المزارع. ولكن الشعب العراقي ليس مثل شعوب أوروبا وأميركا في التهافت على المدينة، والتزاحم على التجارة والصناعة، ليستوجب هذه الدعوة. إلا أن اهتمام الملك فيصل بالزراعة نبه الكثيرين إلى الأساليب العلمية الفنية فيها، ووضع نواة النهضة الزراعية في العراق.
Неизвестная страница