وكان لوثر ينظر إلى الموسيقى على أنها لغة إيقاعية لها قدرة تفوق قدرة النثر على تعليم الناس، وتقريب فكرة الله إلى أفهامهم. وعلى الرغم من أن لوثر ذاته كان موسيقيا «أصيلا» فإن نظرياته الجمالية كانت تحفل بآراء لاهوتية تذكرنا تماما بالقديس أوغسطين. صحيح أن التفكير الموسيقي البروتستانتي، في مرحلته المتقدمة، كانت له عقيدته الفنية، غير أن هذه العقيدة، كانت مبنية على حاجات دينية وتنظيمية قريبة الشبه من أساليب الكنيسة الكاثوليكية إلى حد كبير؛ فقد كان على قادة حركة الإصلاح، شأنهم شأن أسلافهم الكاثوليك، أن يستغلوا كل وسيلة ممكنة للانتفاع بالقوى الانفعالية والنفسية في الإنسان من أجل تحقيق أغراضهم، وكان لوثر يرى في الصلات الكامنة للموسيقى وسيلة هامة لمساعدة الحركة البروتستانتية على النجاح في ألمانيا.
أما المسألة الثالثة فهي علاقة اللحن بالنص الكلامي في موسيقى القدماء والعصور الوسطى. وقد ظل أفلاطون متمسكا على الدوام بالرأي اليوناني التقليدي القائل إن الشعر والنغم ينبغي ألا ينفصل أحدهما عن الآخر، وأكد القيمة الأخلاقية للنص عن طريق إخضاع القالب الموسيقي للشعر.
كذلك كان الفلاسفة في عمومهم يعدون اللحن خاضعا لمقتضيات النص؛ ففي الموسيقى اليهودية كانت الأهمية الأولى للنص، وكان الاستخدام الرئيسي لموسيقى الآلات هو مصاحبة الغناء وتجميله، بل إن الحاخامات كانوا ينظرون إلى الآلات الموسيقية بعين الارتياب؛ لأن هذه الآلات تتيح للمغنين والراقصين اليهود محاكاة أشكال العبادة الوثنية في المعبد. كما رأى الحاخامات أن الكتب الدينية أهم في العبادة من البدع اللحنية الزائفة والموسيقى المصاحبة لهذه النصوص.
وقد أكد القديس أوغسطين أنه يفضل الاقتصار على استخدام نصوص التوراة والإنجيل في الموسيقى الدينية، وبرغم أنه لم يحرم رسميا استخدام نصوص التوراة والإنجيل بعد تعديلها وفقا للألحان الشعبية السائدة في أيامه، فقد كان يدرك بوضوح أن اللحن الذي يسهل تداوله يمكن أن يرى بين الجماهير بسرعة. وعلى ذلك فالفضيلة الوحيدة التي يمكن أن تشفع للألحان الشعبية أو الأغنيات المتداولة في الطرقات هي ارتباطها جماليا بفقرة من النصوص الدينية على نحو يتيح للمسيحي العادي أن يزداد معرفة بالنص الروحي أو الديني. وإذن فقد كان آباء الكنيسة يرون أن للنص الأفضلية على اللحن، وقد ظل المدرسون في القرون التالية متمسكين بهذا الرأي.
ولقد كانت التعاليم الموسيقية التي فرضها كالفان على البروتستانتية الفرنسية بما فيها من تزمت وإنكار للذات، مثلا من أبرز أمثلة التزييف في التاريخ الحضاري لفرنسا؛ فقد كانت فرنسا هي أول بلد تطور فيه فن «الأورجانوم
Organum » حتى أصبح نوعا من الكتابة البوليفونية الراقية. وكان «الموتيت» على الأرجح هو أشهر شكل من أشكال الأسلوب الكنترابنطي استحدثته مدرسة كاتدرائية نوتردام بباريس في أواخر القرن الثاني عشر وفي القرن الثالث عشر. ومع ذلك كله فبعد حوالي ثلاثمائة عام من اعتلاء فرنسا عرش الموسيقى في أوروبا، نرى موسيقى الهوجنوت (البروتستانت الفرنسيين) تنحط إلى مرتبة الدعابة التبشيرية التي تهدف إلى نشر العقيدة البروتستانتية الجديدة؛ فقد طلب كالفان من الموسيقيين البروتستانت أن يقصروا جهودهم الخلاقة على وضع تآلفات هارمونية للمزامير، ولم يسمح إلا بأبسط أنواع الغناء لجمهور المصلين بقصد أداء الشعائر فحسب. وقد أباح على مضض، بعض التوزيعات البوليفونية للنصوص الدينية، وإن يكن قد اشترط أن يغنى هذا النوع المعقد من الموسيقى داخل البيوت وبين الأصدقاء، وحتى في هذه الحالة الأخيرة حذر كالفان الناس قائلا إن عليهم أن يتذكروا أنهم إنما ينشدون الكلم الديني.
أما آخر المفاهيم الأربعة فيتعلق بعنصر التغير في موسيقى العصور القديمة والوسطى. ولقد كانت حملة طاليس القديمة المشهورة على أساطير هوميروس من حيث هي تشويه للحقيقة أقدم مثال نددت فيه الفلسفة السابقة على سقراط بالتحرر والجديد الفني؛ فقد رأى أبو الفلسفة القديمة أن الفيلسوف أقدر من الفنان على تمييز الطبيعة الأصلية للحقيقة من البطلان، ولكن الذي حدث، على العكس من ذلك، هو أن الفيلسوف والكاهن كانا في معظم الأحيان حائلا يقف في وجه تطور التيارات الفنية على مر القرون. وأثبت الزمن أنهما نبيان زائفان، على حين أن الفنان الذي نددا به ب «حكمتهما» لم تقتصر مقدرته على التبصر بحقيقة عصره، بل لقد استطاع أن يستبق حاجات المستقبل ويتكهن بها.
ولقد كان كبار رجال الدين اليهود يرتابون بالمثل في المؤثرات المارقة التي يمكن أن تؤثر في الشريعة والطقوس اليهودية، وسرعان ما فرضوا رقابتهم على الأفكار الجديدة في ميادين الفن والفلسفة واللاهوت، ولكن القادة الروحيين لليهود لم ينجحوا تماما في وأد الاتجاهات الجديدة، سواء في الفترة السابقة على المسيحية أم بعد أن أجبر اليهود على أن يتشردوا في البلاد الأخرى. ولقد كان للحضارات الأجنبية تأثيرها القوي في هؤلاء اليهود المشردين، كما أثر اليهود بدورهم في البلاد التي آوتهم. ومع ذلك فقد ظل حاخامات اليهود يحضون أبناء طائفتهم على ألا يحاكوا أساليب البلاد التي وجدوا أنفسهم فيها، فانطلقت أصوات هؤلاء الحاخامات محذرة من أن ابتعاد الموسيقى الغربية الأجنبية عن الحياة اليهودية ليس أقل من ابتعاد اللاهوت المسيحي عن «العهد القديم» (التوراة). ولقد كان أشد ما استاء منه الحاخامات، خلال سنوات التشرد الطويل هذه، هو تلك الاتجاهات الدنيوية المتحررة التي كانت تتسلل من آن لآخر إلى الشعائر اليهودية. وكان إدخال أناشيد جديدة إلى الكنيس يثير في كل الأحوال موجة من السخط على التجديد وتحدي التقاليد، بل إننا نجد الحاخامات في ألمانيا يشكون مر الشكوى، في عهد متأخر هو القرن السادس عشر، من أولئك المنشدين الذين أخذوا يتخلون عن الألحان الدينية القديمة الموروثة عن آبائهم.
وقد أعرب أوغسطين عن قلقه الشديد من أن تؤدي التغيرات الشعبية في الموسيقى الشعائرية بمضي الوقت إلى التأثير في قداسة الشعائر ذاتها. وكان يعتقد أنه لما كانت الأنغام والألحان الشعبية والاتجاهات التجديدية في الموسيقى ترجع في أصلها إلى مصادر وثنية، وإلى الجماهير الجاهلة، فلا بد أن يؤدي إدخال هذه الألحان الدنيوية في الطقوس الدينية إلى رفع شأن الفن الوثني بدلا من الفضيلة المسيحية. وهكذا انتهى أوغسطين إلى أن من واجب مؤلفي الموسيقى الدينية أن يقصروا مواهبهم الخلاقة على القوالب الكنسية الخالصة إذا شاءوا أن يخدموا أغراض المسيحية. وقد بلغ من إعجاب البابا جريجوري الأول بهذه الحجة الأوغسطينية أنه استهل حملة للمحافظة على الموسيقى الكنسية التقليدية بحمايتها من جميع المؤثرات الخارجية التي قد تتسم بطابع جسدي أو لا ديني.
أما لوثر فلم يكن معارضا للتغيير في الموسيقى، ولكنه كان يؤكد ضرورة تمشي هذا التغيير مع حاجات المذهب البروتستانتي. ولقد كانت لديه فكرة واضحة عن نوع الموسيقى الذي تحتاج إليه الكنيسة البروتستانتية لكي تتحرر تماما من المؤثرات البابوية، فإذا شاء أن يلقى استجابة مباشرة من الشعب الألماني، فعندئذ لن تعود اللغة اللاتينية ولا الأناشيد الجريجورية هي أفضل الوسائل للوصول إلى قلب الإنسان العادي. ولتحقيق هذا الهدف أحل لوثر اللغة الألمانية محل اللغة اللاتينية المستخدمة في الشعائر الكاثوليكية، واختار بدلا من الأناشيد الجريجورية المعقدة موسيقى أبسط وأقل تبهرجا وأقرب إلى الأغاني الشعبية الألمانية.
Неизвестная страница