فهؤلاء الشعراء هم الرسل الذين يعيشون على الأرض، وينقلون الرغبات الإلهية إلى الإنسان. وبالموسيقى يستطيع الإنسان بدوره أن يبتهل إلى الآلهة لتخلصه من المرض والوباء. وقد وصف هوميروس كما روى «بلوتارك» بعده بقرون عديدة
4
كيف أوقف الإغريق نقمة أحد الأوبئة بقوة الموسيقى، وسحرها الذي بدد غضب الآلهة «بالأناشيد والأغاني المقدسة هدأت الآلهة راضية.»
ولقد ظلت علاقة الشاعر المنشد بربته، وهي العلاقة التي رأيناها من قبل عند هوميروس قائمة عند هزيود، الذي عاش في حوالي القرن الثامن ق.م. فقد أنبأنا بأن الربات ظهرت له بينما كان يطعم قطعان أبيه، وعهدن إليه بأن يكون رسولهن وشاعرهن، وأعطينه «عصا الشاعر؛ لتكون آية على رسالته كمنشد»، وقبل أن يفارقنه قلن له: «إننا نعرف كيف نقول كثيرا من الأكاذيب التي تقع من الآذان موقع الحقيقة، ولكننا نعرف أيضا كيف نصرح بالحقيقة عندما نشاء.» فلا عجب إذن أن حمل طاليس في القرن التالي على الأسطورة الهومرية؛ لأنها تشويه للواقع يحرص على الابتعاد عن الحقيقة. وقد اتهم هوميروس بأنه لا يقصر على خلق آلهة أسطورية، وربات ملهمات، بل يضفي على هؤلاء أيضا صفات إلهية. والأدهى من ذلك في نظر طاليس أن هوميروس كان يؤمن بأن البشر جميعا خاضعون لأهواء الآلهة ونزواتهم، واستغل مواهبه الفنية لينصح الإنسان بأن يسلم مصيره إلى أيدي الآلهة. أما هزيود فقد اتخذ موقفا أكثر إنسانية من مؤلهي البشر، ولكن ليس إلى الحد الذي يكفي لإرضاء طاليس، الذي أطلق عليه أرسطو اسم «أبي الفلسفة القديمة». لقد كان ما يريده طاليس من الشاعر المنشد اليوناني، هو أن يركز مواهبه لتلبية حاجات الإنسان فحسب، بدلا من أن يخلق أناشيد لآلهة غير موجودة.
وفي القرن ذاته حمل أكسنوفان (حوالي سنة 570ق.م.) الذي ينتمي إلى المدرسة الإيلية في الفلسفة، على آلهة هوميروس وهزيود، كما فعل طاليس، ولقد استغل أكسنوفان سلاح التهكم ببراعة، فألف شعرا كان لاذعا وثوريا فيما ينطوي عليه من مطالبة بالإصلاح الاجتماعي. وقد أنحى باللائمة على هوميروس وهزيود في كل ما يلحق البشر من الشرور؛ إذ إنهما «قد نسبا إلى الآلهة كل الأمور التي تعد عارا بين البشر، كالسرقة والزنا وخداع بعضهم البعض.» ومرد ذلك كله إلى أن الشعراء الأولين كانوا يصورون الآلهة بصورة بشرية «فالناس يصنعون الآلهة على شاكلتهم، ولو كان للخيل أو الثيران أو الأسود أياد تمكنهم من خلق أعمال فنية، لجعلوا الآلهة على شاكلتهم أيضا.» لذلك رأى أكسنوفان أن من الضروري القضاء على هذه الأوهام الشعرية «إن شئنا إصلاح الحياة الاجتماعية». وقد ألف السياسي «سولون» (638-588ق.م.) مقطوعات شعرية يتحسر فيها على انعدام المساواة بين الإنسان وآلهته. وقد طبق فلسفته الإنسانية على الموسيقى الأثينية بدورها، فرأى أن من الممكن تقوية الروح الأخلاقية والوطنية عن طريق الموسيقى، التي تؤدي بدورها إلى تقوية الدولة، وتقلل من اعتماد الناس على الآلهة المتقلبة. كذلك عبر ألكيوس
Alcaeus (600ق.م.) عن روح عصره في الأناشيد والأشعار السياسية التي ألفها، وحمل فيها على الطغاة وعلى أعدائه السياسيين. وقد كتب مع معاصرته المشهورة «سافو
Sappho »
5 (حوالي 600ق.م.) أغنيات حب وخمريات لبلاط لسبوس
Lesbos
الفخم. كذلك شهد القرن السابع ظهور شخصية موسيقية فذة، هي شخصية «أرخيلوخوس
Неизвестная страница