ولسنا ندري تماما ما هي النتائج التي وصل إليها الكرادلة، ولكنا نعلم أنهم ذهبوا إلى أن كل موسيقى لا تتفق مع جلال الصلاة وتقاليدها ينبغي أن تحرم. وهكذا فإن الفواصل والاسترسالات «التروبس» و«السكوينسات»
torpes and sequences
قد حذفت من مجال الموسيقى الشعائرية، باستثناء القليل من مقطوعاتها المحببة إلى النفوس. ولم تكن البوليفونية في عمومها مرضيا عنها؛ إذ إنها كانت منذ بداياتها الأولى عاملا من عوامل فقدان وقار موسيقى الكنيسة وبساطتها، وصبغها بصبغة دنيوية. وقد بحث الكرادلة الفكرة القائلة إن مصلحة العقيدة المسيحية تستدعي استبعاد كل موسيقى من شعائر الصلاة فيما عدا التراتيل الدينية، ولكنهم لحسن الحظ لم يأخذوا بهذه الفكرة.
وفي الوقت الذي كانت الكنيسة فيه تحارب المؤثرات الدنيوية التي كان يعتقد أنها تؤدي إلى إفساد شعائر العبادة، كانت الرغبة في التعبير العقلي والفني تزداد انتشارا، وتتجاوز الباحثين النظريين والفنانين الممارسين إلى عامة الناس. وقد كتب الفيلسوف «مونتني» (1533-1592م) عن أسفاره في إيطاليا يقول إنه دهش إذ رأى الفلاحين في توسكانيا «يمسكون العود في أيديهم، وإلى جانبهم الرعاة ينشدون أشعار أريوستو
Ariosto ،
23
التي يحفظونها عن ظهر قلب، وهذا أمر يمكن أن يراه المرء في جميع أنحاء إيطاليا.» وقد ازدهرت فرق العازفين والمغنين في كل أرجاء أوروبا في القرن السادس عشر. وأصبحت الآلات الموسيقية من الكماليات البهيجة التي يحرص الناس العاديون على اقتنائها في بيوتهم، وانتشرت الاجتماعات الموسيقية الارتجالية، وكان ذلك عصرا ألم فيه العامة أنفسهم بأسرار الموسيقى، وفي جو التنوير والثقافة الذي ساد عصر النهضة هذا، ظهر فن «المدريجال
madrigal »، وتطور بوصفه شكلا متقدما من أشكال البوليفونية الغنائية.
ولم يكن الباحثون النظريون في عصر النهضة يعرفون الكثير عن الموسيقى اليونانية ذاتها، ولقد أرادوا بعث الروح اليونانية الكلاسيكية من جديد، ولكنهم لم يكن لديهم من الموسيقى اليونانية الفعلية ما يسترشدون به؛ فقد بنوا نظرياتهم الجمالية على كتابات الفلاسفة اليونانيين وفلاسفة العصر اليوناني الروماني. وقد أكدت الأبحاث الفلسفية من العصور القديمة أهمية الجوانب الرياضية والأخلاقية للموسيقى، ورددت المذهب الميتافيزيقي في انسجام الأفلاك، وهو المذهب الذي ربط فيه الفيثاغوريون بين الموسيقى وبين الانسجام الكوني.
وقد أراد الموسيقي في عصر النهضة أن يحاكي الشاعر والمغني اليوناني، وكان أفلاطون قد ذكر أن هذا الشاعر المغني اليوناني كان في العصر الذهبي لليونان يؤلف ألحانه على إيقاع النص الشعري ووزنه. وهذا عين ما فعله موسيقي عصر النهضة في فورة تحمسه لإيجاد توازن مثالي بين النص الكلامي وبين الموسيقى. وهكذا أعلن «هيرمان فنك
Неизвестная страница