وقد بدأ النقد بالتنديد بهذه الأوبرا على أساس أنها غير سليمة في موسيقاها وموضوعها، وأنها على وجه الإجمال عمل غير فني. غير أن بضعة الأسطر التالية لم تترك مجالا للشك في أن اللجنة المركزية قد اغتنمت فرصة الحكم على هذه الأوبرا الخاصة لكي توجه حديثها إلى كل الموسيقيين والنقاد السوفييت.
على أن العقيدة الحالية التي وضعها السوفييت ليست بالجديدة، وإنما هي فلسفة في الفن كانت تظهر في أعقاب عدد من الثورات الدينية والاجتماعية في تاريخ العالم الغربي؛ فلو تتبعنا هذه التعاليم الجمالية إلى أصلها، لوجدنا أن هذه النظريات ذاتها إنما هي جزء من أنموذج متكرر يعود بنا إلى الوراء من الشيوعية الحديثة إلى عهد الإصلاح الديني الأوروبي، إلى الكنيسة في العصور الوسطى، وأخيرا إلى أفلاطون ذاته.
وأهم عنصر في فلسفة أفلاطون في الموسيقى - وهو أيضا من النقاط الرئيسية التي كانت تدعو إليها الكنيسة والدولة - هو أن الموسيقى، بوصفها مبحثا تعليميا ثقافيا، ينبغي أن تستغل لتحقيق روح أخلاقية سليمة. ولقد كان أفلاطون ينظر إلى الموسيقى على أنها أرفع من الفنون الأخرى. وعلى أساس أن للإيقاع واللحن تأثيرا أقوى في أعماق النفس البشرية، وفي حياة الإنسان الانفعالية. وقد انتهى أفلاطون من ذلك إلى أن تعود الإنسان الاستماع إلى الأساليب الموسيقية الصحيحة يساعده دون وعي منه على تنمية العادات السليمة التي تتيح له تمييز الخير من الشر.
وقد أعرب أفلاطون في محاورة «الجمهورية» عن اعتقاده بأن المقامين الأيوني والليدي ينبغي أن يستبعدا من الدولة؛ لأن لهما طابعا مخنثا ناعما رخوا. أما المقامان الدوري والفريجي، اللذان يتسمان بالروح العسكرية، فمن الواجب استبقاؤهما.
16
وبعد أن ربط أفلاطون بين تعاليمه الموسيقية وبين المبادئ الأخلاقية برباط وثيق، طبق هذه التعاليم بطريقة عملية صارمة، لكي يحمل بشدة على الشعراء المغنين الذين كانوا ينشرون نوعا بدائيا من البوليفونية كان يلقى رواجا في أيامه، فوصف هذه البوليفونية بأنها نشاز لا ينجم عنه إلا اضطراب الذهن، ودعا الشاعر اليوناني إلى تأليف أنشودته الموسيقية على نحو من شأنه أن يتيح غناءها «نغمة نغمة»، لا عن طريق «أنغام معقدة متنوعة» كما يحدث «عندما تصدر الأوتار صوتا، ويغني الشاعر أو مؤلف اللحن صوتا آخر». ويوجه أفلاطون تحذيره قائلا: «إن التوافقات والهارمونيات التي تجمع بين مسافات أكبر وأقل، وبين أنغام بطيئة وسريعة، أو عالية ومنخفضة» وكذلك التنويعات المعقدة عندما تكيف تبعا لأنغام الليرا
Lyre ، تؤدي قطعا إلى إثارة صعوبات «إذ إن المبادئ المتعارضة تولد الاضطراب.»
17
والنتيجة التي يتوصل إليها من ذلك هي أن التنوع والتعقد في الإيقاع واللحن أمر ينبغي تجنبه؛ إذ إنه خليق بأن يبعث كآبة وحيرة ذهنية قد تبتعد بالناس عن النظام الطبيعي للأشياء إلى عالم الخيال واللامعقول.
وهناك مفكر آخر قريب العهد بنا، هو تولستوي (1828-1910م) الذي نادى بمذهب أخلاقي في الفن، يرتكز على إدانة المجتمع وفنونه من جهة النظر الاجتماعية والدينية. وقد أدرجت روسيا السوفييتية ضمن تعاليمها الموسيقية كثيرا من آرائه الأفلاطونية، حتى إن الكثير مما كان مجرد نظرية جمالية في كتابات تولستوي، قد أصبح واقعا سياسيا في نقطة الاعتراض الأولى التي ذكرت فيها اللجنة المركزية أن الأوبرا «مضطربة غير متوافقة، تتألف كلها من تنافرات ومن مجموعات صوتية تمجها الأذن»، كذلك تذكرنا اللجنة المركزية بأفلاطون إلى حد بعيد عندما تواصل كلامها في نفس هذا الاتجاه، فتقول: «فيما بين السطور والمناظر الفردية التي تتخذ ظاهريا شكل ألحان تنفذ على حين غرة أصوات متنافرة غريبة تماما عن الأذن البشرية، تبعث في نفس السامع إحساسا بالضيق.»
Неизвестная страница