ورأيته يعرف من الأشغال اليدوية والرسم والتلوين ما لا أعرفه إلى اليوم. ورأيته ورأيته، ورأيتني ورأيتني. •••
أخشى أنا نكون في كلا الحالين مفرطين ومفرطين، وأن نكون في (كتابنا) قد غلونا، وفي رياض أطفالنا قد غلونا.
أخشى أن يكون الكتاب قسا وأسرف في القسوة، ورياض الأطفال ماعت وأسرفت في الميوعة. أخشى أن نكون في كتابنا قد وضعنا أمام الطفل كل العقبات فلم يستطع أن يجتازها إلا القليل، ونحينا في «رياض الأطفال» كل العقبات فاجتازوها جميعا؛ ولكنهم خرجوا لا يعرفون كيف يجتازون عقبة عرضت، ولا يصبرون على شدة ألمت، ولا يتحملون مشقات العلم ومعاناة الدرس، ولا يعالجون ما يعن من مصاعب الحياة؛ وآية ذلك أن الجيل السابق - مع كثرة من تخلف - كانوا أصبر على الدرس وأحمل للمكاره والمشاق، وأن الجيل الحاضر أنعم وأظرف وألبق، ولكنهم لا يصبرون على مكروه حتى العلم.
نعمة الألم
لندع الآن جانبا وصف ما كان من الخلاف بين علماء النفس في الألم، والفرق بينه وبين اللذة؛ ولندع كذلك بحوثهم الطويلة في تقسيم الألم إلى أنواع: فنوع منه كالذي نشعر به عند وجع الأسنان، ونوع كالذي نشعر به عند الفشل في محاولة، ونوع كالذي نشعر به عند مواجهة ما نكره ... إلخ.
ولندع أيضا بحوث علماء الأخلاق في أن الإنسان في جميع أفعاله يطلب اللذة، ولا يطلب شيئا غيرها، ويهرب من الألم، ولا يهرب من شيء غيره؛ وأنه حين يفر من لذة فإنما يفعل ذلك لطلب لذة أكبر منها، وأنه حين يتحمل الألم، فإنما هو يفر من ألم أكبر منه، أو يتطلب بألمه لذة أكبر مما تحمل - ولندع التعرض لما قام حول هذه النظرية من نزاع.
لندع هذا كله، ولننظر إلى أثر اللذة في الحياة العامة وأثر الألم فيها، فيخيل إلي أنا مدينون للألم بأكثر مما نحن مدينون للذة؛ وأن فضل الألم على العالم أكبر من فضل اللذة.
إن شئت فتعال معي نبحث في عالم الأدب: أليس أكثره وخيره وليد الألم؟ أوليس الغزل الرقيق نتيجة لألم الهجر أو الصد أو الفراق؟ ذلك الألم الطويل العريض العميق تتخلله لحظات قصيرة من وصال لذيذ؛ وليس هذا الوصال اللذيذ بمنتج أدبا كالذي ينتجه ألم الفراق. وإن الأديب كلما صهره الحب، وبرح به الألم، كان أرقى أدبا، وأصدق قولا، وأشد في نفوس السامعين أثرا. ولو عشق الأديب فوفق كل التوفيق في عشقه، وأسفه الحبيب دائما، ومتعه بما يرغب دائما، ووجد كل ما يطلب حاضرا دائما لسئم ومل، وتبلدت نفسه، وجمدت قريحته، ولم يخلف لنا أدبا ولا شبه أدب؛ ولو كان مكان مجنون ليلى عاقل ليلى لكان كسائر العقلاء - إنما فضل المجنون؛ لأن نفسه كانت أشد حسا وأكثر ألما.
لولا علو همة المتنبي ما كان شعره، وما علو همته؟ أليست كراهية الحياة الدون، والألم من أن يعد من سقط المتاع، والتطلع لأن يكون له الصدر أو القبر؟ وعلى هذا المحور دارت حياته، ودار شعره؛ ولو نشأ قانعا لما فارق بلدته، ولكان سقاء كأبيه يروي الماء ولا يروي الشعر.
وما قيمة المعري لولا ألمه من الفقر والعمى؟ لو كان غنيا بصيرا لما رأيت لزومياته ولا أعجبت بكلماته، ولكان إنسانا آخر ذهب فيمن ذهب؛ إنما خلده ألم نفسه، وأبقى اسمه قوة حسه.
Неизвестная страница