لعل أسوأ ما تمنى به الأمة أن يفقد أفرادها الثقة بعضهم ببعض؛ فقدان الثقة يجعل الأمة فردا، والثقة تجعل الفرد أمة. الثقة تجعل الأجزاء كتلة وفقدانها يجعل الكتلة أجزاء غير صالحة للالتئام، بل يجعل أجزاءها متنافرة متعادية توجه كل قوتها للوقاية والنكاية.
كم من الزمن ومن المال ومن النظم ومن الخطط تنفق إذا فقدت الثقة؟ ثم هي لا تغني شيئا ولا تعيد ثقة.
تصور أسرة فقد الزوج فيها ثقته بزوجته، والزوجة بزوجها، ثم تصور كيف تكون حياتها: نزاع دائم، وسوء ظن متبادل، وانتظار للزمن ليتم الخراب.
وهكذا الشأن في كل مجتمع: في المدرسة، في الجيش، في الحزب، في القرية، في الأمة.
بل ما لنا نذهب بعيدا والإنسان نفسه إذا فقد الثقة بنفسه فقد نفسه؟ فلا يستطيع الكاتب أن يكون كتابا مجيدا ولا الشاعر أن يكون شاعرا متفوقا، ولا أي عالم وصانع يجيد علمه وصناعته إلا إذا وثق بنفسه لدرجة ما؛ وكم من الكفايات ضاعت هياء؛ لأن أصحابها فقدوا ثقتهم بأنفسهم، واعتقدوا أنهم لا يحسنون صنعا ولا يجيدون عملا.
وكل ما ترى من أعراض الفشل في أمة سببه فقدان الثقة؛ فالحزب ينهار يوم يفقد الأعضاء ثقتهم بعضهم ببعض، والشركة تنهار يوم يتعامل أفرادها على أساس فقدان الثقة، والمدرسة تفشل يوم لا يثق الطلبة بأساتذتهم والأساتذة بطلبتهم، وكل جماعة تفنى يوم يتم فيها فقدان الثقة.
كل نظمنا - على ما يظهر - مبنية على فقدان الثقة؛ فوظائف «المفتشين» في جميع مصالح الحكومة والشركات أصبحت مؤسسة على فقدان الثقة، فالمفتش في الترام والسيارات العامة مبناه ضعف الثقة «بالكمساري» ومفتش المالية يراقب حركات مرءوسيه حتى لا يختلسوا أو يزوروا، ومفتشو الوزارات يرون إلى أي حد يطبق الموظفون تعاليم الوزارة.
قد كان الظن بالمفتشين أن يؤدوا عملا آخر غير هذا، وهو أن يشرفوا على عمل المرءوسين ليوجهوهم وجهة صالحة، ويتعاونوا معهم على رسم الخطة القويمة، ويصححوا الخطأ، ويكملوا النقص، ولكنهم - في الأغلب وقفوا فقط موقف الضابط يضبط الجريمة، والصائد يرقب الفريسة، لا موقف الهادي المرشد والناصح الأمين.
فإن أردت «بندا» واحدا من «بنود» ما ينفق من الأموال في سبيل عدم الثقة فاجمع مرتبات المفتشين في جميع مصالح الحكومة.
وليس الأمر مقصورا على هؤلاء، فالمراجعون ومراجعو المراجعين، والأوراق تمر من يد إلى يد، ومن قلم إلى قلم، ومن مصلحة إلى مصلحة، ومن وزارة إلى وزارة. كل ذلك له أسباب، أهمها «فقدان الثقة».
Неизвестная страница