155

Файд Хатир

فيض الخاطر (الجزء الأول)

Жанры

فى مقلة النائم لم ينتبه

وكان لي فيما مضى خاتم

فالآن لو شئت تمنطقت به

ونحو ذلك كثير.

والذي أرى أن المبالغة ليست كلها كذبا ولا كلها صدقا؛ فلو كان الممدوح شجاعا فجعل الشاعر له جرأة كجرأة الأسد لم يكن كاذبا، ولو كان العاشق هزيلا فبالغ الشاعر في وصفه حتى جعله لا يرى إلا من صوته لم يكن كاذبا. وقد عبر الله تعبيرات من هذا القبيل فقال في وصف الرعب والخوف: «وبلغت القلوب الحناجر»، فأما إن كان الممدوح بخيلا فجعله الشاعر سحابا فياضا، أو عاشقا سمينا فجعله كعود الخلال، أو جبانا رعديدا فجعله أسدا مقداما، فكل هذا كذب صريح يثير السخرية بالممدوح لا الإعجاب. (2)

والمعنى الثاني أن الشعراء يوصفون بالكذب ؛ لأنهم ينسبون إلى أنفسهم أعمالا جليلة لم يأتوا بها، ويزعمون مزاعم لا تستند إلى الحقيقة، ثم يهجون فيصفون المهجو بكل رذيلة، ويمزقون الأعراض، ويقدحون في الأنساب، ويتعرضون للحرم، وهؤلاء اللذين عانهم القرآن بقوله: «والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون؟»

ولكن ليس هذا ولا ذاك من الشعر الراقي في شيء، فلا الغلو في المبالغة ولا نسبة شيء إلى غير فاعله مما يزين الشعر، وإنما نشأ قولهم: «إن أعذب الشعر أكذبه» من تصور ناقص لمعنى الشعر. لقد كان الشعر عندهم يجول أكثر ما يجول في المدح والهجاء، ورأوا أن هذا المدح وهذا الهجاء لا يجودان بذكر الحقيقة المجردة؛ إنما يجود المدح إذا جعل الشاعر من الحبة قبة، ويجود الهجاء إذا قال الشاعر فأفحش، وسب فأقذع، ولكن عفى الزمان على هذه النظرية، وأصبح هذا النوع من أحط أنواع الشعر، وأقلها استحقاقا لاسمه. فالشعر كما يقول (وردسورث): «هو الحق ينقله الشعور حيا إلى القلب»، وكما يقول (رسكن): «الشعر إبراز العواطف النبيلة عن طريق الخيال».

وليس هذا مقصورا على الشعر، فكل الأدب من هذا القبيل، وتعريفا وردسورث ورسكن هما تعريفان للأدب جميعه لا للشعر وحده.

فالذي أرى أن رسالة الأديب هي من جنس رسالة الفيلسوف، كلاهما يرمي أو يجب أن يرمي إلى إبراز الحقيقة ونقلها إلى السامع أو القارىء. وغاية ما بين الفيلسوف والأديب من فرق أن الفيلسوف ينقلها إلى عقل السامع أو القارىء، والأديب ينقلها إلى قلبه. ومن أجل هذا يستعين الفيلسوف بالمنطق وما يتبعه من مقدمات محكمة ونتائج مستلزمة، فهي بالعقل أليق. والأديب يؤدي الحقيقة من طريق الخيال الجميل والأسلوب الجميل؛ لأنهما بالقلب أليق.

والصدق بمعناه الواسع وبكل ما تحتمله الكلمة من معنى مجال للأدب وشرط من شروط قوته؛ فلو عبر امرؤ القيس عن شعورة نحو المرأة أو عبر أبو نواس عن شعوره نحو الخمر، فهو أدب صادق قوي، وإن كانت الأخلاق الاجتماعية لا ترضى عن النحو الذي سلكاه في التعبير، ولكنه من الناحية الأدبية أدب صادق قوي. وإن شعر شاعر في الورع والزهد ولكنه في نفسه ينطوي على دعارة وفجور، لم يكن شعره صادقا ولا قويا وإن رضيت عنه الأخلاق الاجتماعية. نعم إن الأدب الذي ينبعث عن عاطفة إنسانية نبيلة أرقى وأسمى؛ ولكن ما دمنا نتكلم في دائرة الصدق، فكل ما يصف عواطف الإنسان أدب صادق.

Неизвестная страница