149

Файд Хатир

فيض الخاطر (الجزء الأول)

Жанры

وكم حارت فيك العقول فظنوك إلهة وعبدوك من دون الله، وأقاموا لك الهياكل والتماثيل، ثم تقدموا قليلا فأنزلوك من مقام الألوهية قليلا، وجعلوا لك أثرا كبيرا في أحداث الأرض! فلك أثر في الرياح والأمطار والسعادة والشقاء، وربطوا مواليد الناس بك، وجعلوا سعادتهم وشقاءهم من أجلك؛ وحتى الفلاسفة العظام أمثال أرسطو أعمتهم عظمتك عن أن يدركوا حقيقتك، فأسندوا إليك عقولا كبارا، وجعلوا منزلتك في الفكر والعقل فوق منزلة الإنسان، وسبحوا في الخيال فأسسوا نظاما وهميا للأفلاك وتدرجها في الأثر حتى تصل إلى عالمنا، وخدع الناس بك فبنيت لك المراصد لمراقبة حركاتك، وأقنع المنجمون الناس بتأثيرك فسمعوا لقولهم، واتخذ الملوك المنجمين يعتمدون عليهم في تدبير مملكتهم، كما يتخذون الأطباء لتدبير أجسامهم، فلا يضعون بناء إلا بعد رصدهم لك وإشارتهم بأنك ستمنحين السعادة لبنائهم، ولا يحاربون إلا برأي رجالك وتخير أوقات رضائك.

وكم شغل الناس بطوالعك، وتخيروا أوقات زواجهم محسوبة بحسابك، وتنبأوا - بمعونتك - بموت فلان وحياة فلان، وأنت أنت فوق ذلك كله لا تعبئين به ولا تلتفتين إليه. كأن أمرهم لا يعنيك، وشئونهم لا تهمك. وتتابعت الأجيال ومرت السنون، وفنيت أقوام وجدت أقوام وكلهم يمنحونك إعجابهم، وأنت في علاك وسيرك وسرعتك دائبة أبدا.

وأتى العلم الحديث فغير فيك الأفكار، وساواك بالأحجار، وجعل قمرك الجميل كأرضنا غير الجميلة، وسلب عنك العقل والفكر، وأخضعك لنواميس الطبيعة، وأبان خرافات الأقدمين فيك - ومع ذلك أقر بجلالك وأخذ بدقة نظامك، وأقر بجهله أن يحيط بك، وأن يتعرف كل قوانينك؛ فأنت أنت أيام الجهل وأيام العلم، وأيامنا وأيام آبنائنا.

وبينا أنا في ذلك كله، وفوق ذلك كله، دعاني الخادم إلى التليفون فنزلت من السماء إلى الأرض. - آلو! - فلان! لعلك تذكرني؟ - أهلا وسهلا! - أريد أن أقابلك! - هل من شيء؟ - لقد تخرجت من كلية الآداب واشتغلت في عمل لا يناسبني، وماهية لا تليق بي، وإخواني كلهم خير مني، فلي سنوات لم آخذ علاوة، ولم أرق إلى درجة. - نعم! - والآن هناك حركة ترقية وأريد مساعدتك.

ثم حوار طويل، ورجاء مستمر، وشكوى بؤس، وعائلة يعولها، وماهية لا تكفيها، ودنيا ضاقت به وبها. •••

فى أي تفكير كنت؟ وإلى أين صرت؟ هذه السماء، وهذه الأرض، أين هذا العالم العظيم السعيد الذي كنت أحلم به من هذا العالم الحقير التافه الذي نقلني إليه التليفون، والذي يمضي فيه أكثر الناس أكثرأعمارهم؟ لقد غطسني بحديثه في ماء مثلج، فلأصعد ثانية إلى السماء، ولأعاود ما كنت فيه ... لا. لم تعد للفكر لذته، ولا لحديث النجم متعته. •••

لقد قلب علم الفلك عقلية الإنسان رأسا على عقب، فقد كان يظن أنه سيد العالم، وأن أرضه هذه هي مركز العالم، وأن الشمس والقمر والنجوم تدور حولها، فأبان له العلم أن أرضه ليست إلا هنة تسبح في الفضاء، وأنها شيء تافه في المجموعة الشمسية التي تدور حول الشمس، وأن كل العالم من أرض ونجوم خاضعة لقوانين واحدة كقوانين الجذب وما إليها، وأنه إن كانت أرضه هنة فكيف به هو! كل هذا غير عقلية الإنسان وأنزله من شماخة وسلبه غروره، فأخذ يفكر تفكيرا جديدا، وينظر لنفسه وللعلم نظرا جديدا، ويربط نفسه بالعالم ويرى أنه هو والعالم وحدة، وأن هذه الوحدة تخضع لقوانين ثابتة استكشف أقلها وغاب عنه أكثرها، ما استكشف منها يدل على عظمة باقيها وعمومها وسيطرتها، ولكن شيئا واحدا لم يتغير في الإنسان؛ وهو ارتباط عواطفه بالنجوم، وأنها تجد السبيل دائما لقلبه، وتوحي إليه بعظمة ربها وربه.

صفحة سوداء

رووا أن عمرو بن العاص كتب إلى عمر بن الخطاب في وصف مصر أن: «نيلها عجب، وأرضها ذهب، وهي لمن غلب».

ورووا أن عتبة بن أبي سفيان كان عاملا لأخيه معاوية على مصر، فبلغه أمور عن أهلها، فصعد عتبة المنبر مغضبا وقال: «أيا حاملين ألأم أنوف ركبت بين أعين، إنما قلمت أظفاري عنكم ليلين مسي إياكم، وسألتكم صلاحكم لكم، إذ كان فسادكم راجعا إليكم. فأما إذ أبيتم إلا الطعن في الولاة والتنقص للسلف فوالله لأقطعن على ظهوركم بطون السياط، فإن حسمت داءكم وإلا فالسيف من ورائكم».

Неизвестная страница