الحق أن هذا الغموض في العالم مصدر كبير من مصادر اللذة للعقول الكبيرة، وأن حياة العلماء كانت تكون تافهة، لولا هذا الغموض والإلغاز - وموقف العالم من ألغاز العالم موقف الماهر في الشطرنج، ألذ ألعابه أصعبها حلا، وكالرياضي الحاذق لا يستلذ المسائل السهلة والنظريات البسيطة، إنما يستلذ أصعب التمارين حلا وأشدها تعقدا، وهو في هذا ينسى نفسه، وينسى كل شيء حوله، ولا يعدل بلذته في حل الصعاب أي لذة أخرى.
العالم مجموعات من الغوامض تتطلب الحل، وإن شئت فقل: إنه رواية على شريط السينما ليست ناطقة ولا هي مفهومة الصور كل الفهم، ومنذ خلق الإنسان والعالم يتوارد عليه شخصيات كبيرة مختلفة الألوان: من أنبياء يعلمون ما أوحي إليهم، وشعراء يتغنون بجمال الطبيعة، وعلماء يدرسون ويحللون ويستنتجون، وفلاسفة يتعمقون ويقلبون البحث على كل وجوهه الممكنة وغير الممكنة، ومتصوفة أدركوا فشل المنطق والعلم في معرفة حقائق الكون، فذهبوا ينشدون المعرفة من طريق الذوق والإلهام. وكل هؤلاء وهؤلاء قدموا للناس معارف صحيحة وقضايا أصبحت لا تحتمل الشك، ولكن حقائق الكون كلها بقيت مجهولة لدينا تتطلب الحل، وقد فسرت بعض صور الرواية؛ ولكن جوهر الرواية ومغزاها وسرها ظل غامضا لدينا.
ومع هذا الغموض وهذه الحيرة يجب أن نتساءل: هل هذا العالم بني على أساس منطقي في تكوينه وفي تصرفاته، أو هو خابط خبط عشواء، يسير لا إلى غاية ويتجه في الأمر الواحد يمينا أحيانا ويسارا أحيانا من غير قانون؟ وهل الصورة التي يعرضها على شريط السينما تدل حوادثها على أن لها مغزى ترمي إليه، ويدل ما فهم منها إلى الآن على أنها منطقية في ترتيبها وإن لم تفهم كلها، أو هي مجموعة مفارقات لا تربط أجزاءها رابطة، وينقص آخرها ما أبرم أولها؟ وهل العالم مدرسة تتعلم فيها الحكمة، أو هو حجرة لألعاب الأطفال، أو مسرح تمثل فيه ألعاب نيرنجية وشعوذة وحركات بهلوانية؟ وهل العالم مسألة هندسية معقدة، بنيت على نظريات صحيحة يصعب علينا حلها، ولكن ظاهرها يدل على أنها معقولة ممكنة الحل، أو هو مسألة هندسية لم تبن على أساس صحيح ولا على منطق مرتب، وإنما هي مسألة اخترعت من هنا ومن هناك وقصد واضعها حيرة من حاول حلها ثم لا حل لها؟
الحق أنه يتوقف على الإجابة عن هذه الأسئلة سيرنا العلمي واتجاهنا العقلي؛ فإن كانت مظاهر الحياة كلها مفارقات وأحداثا مفاجئة غير خاضعة لقانون، كان البحث العلمي ضربا من العبث، وكان كل قصاراه، أن يسجل ما حدث. أما إذا كانت مظاهر الحياة عبارة عن قوانين حكيمة تسلم مقدماتها إلى نتائجها كان البحث العلمي ممكنا ومعقولا ومدرسة للحكمة.
وقد دلتنا الدلائل كلها على أن العالم خاضع للمنطق، وأن له غرضا يسير إليه وليس يسير حسبما اتفق، وأنه محكوم بقوانين ثابته لا تتغير، وأن كل مظاهره خاضعة لقانون العلة والمعلول، والسبب والنتيجة؛ فلمس النار يحرق دائما، والحرارة تمدد الأجسام دائما، والحب يستتبع سعادة دائما، والكره يستلزم شقاء دائما.
ولكن بعض هذه القوانين واضحة ظاهرة لا تحتاج في فهمها إلا إلى التفاتة بسيطة ساذجة، وبعضها معقد كل التعقيد غامض كل الغموض، حتى ليظهر لنا من شدة غموضه وكثرة تعقده أنه لا يمكن حله؛ وبين هذا وذاك درجات في الغموض لا عداد لها. ومع هذا كله لو قارنا بين الإنسان الأول ومعارفه عن العالم، والإنسان الآن ومعارفه عن العالم، وجدنا الفرق واضحا جليا، ووجدناه قد وصل في بحثه إلى نتيجة هي أقوم مما حصله من العلم، وهي أن العالم وإن كان أكثره مجهولا إلا إنه يخضع لقوانين ثابتة، بعضها قد علم وبعضها لم يعلم، وما لم يعلم تدلنا إشارته وإيماءاته على أنه قد يعلم يوما ما. وهب أنه لا يمكن أن يعلم إلا بعضه وأن هناك دائرة من العلم لا يستطيع الإنسان اجتيازها، وأن عقل الإنسان بتركيبه الحالي لم يسلح التسلح الكافي ليغزو هذه الدائرة، وإنما منح أسلحة يستطيع أن يستعملها في بعض الدوائر دون بعض، فحياة الكفاح العلمي التي يحياها العلماء هي ألذ حياة عرفت، بل لا أظن أن حياة العلماء تكون سعيدة لو أن كل شيء انكشف لهم من غير بحث ومن غير عناء؛ فالقليل ينال بعد التعب خير من كثير ينال من غير نصب. وما ألذ منظر العالم أو الفيلسوف يحار ثم يحار، ويدور حول الشيء ويدور، ويتجه يمينا فلا يفلح، ثم يتجه يسارا فلا يفلح حتى يعمى عليه الأمر، ثم يبدأ في البحث مرة أخرى لا يكل ولا يمل، وأخيرا يدرك منه الشيء القليل فيغتبط به الاغتباط العظيم، ويرى أن الدنيا بحذافيرها ولذاتها وسعادتها لا تساوي شيئا بجانب ما ناله من المعرفة ولو بالشيء القليل بعد الجهد. ولو خير بين متع الحياة كلها وبين عنائه في بحثه ومشقته في درسه ما فضل على بحثه ودرسه شيئا.
قد يقول قوم: إن هذا النظام نظام أخرق، فقد خلق العالم لغزا، وخلق عقل الإنسان بحيث لا يستطيع حل اللغز، وقد كان المعقول أحد أمرين: إما أن يخلق العالم أبسط من هذا أو يخلق العقل أكبر من هذا، أما أن يغمض العالم كل هذا الغموض ويقصر العقل كل هذا القصور فليس من المعقول! ولكني لا أرى هذا الرأي، فقد كان يكون هذا القول معقولا لو أن طبيعة العالم وطبيعة العقل لا تلتقيان، أما وقد التقتا وأمكن للعقل أن يمس العالم ويحل بعض ألغازه ويوسع كل يوم دائرة المعلوم ويقلل من دائرة المجهول فلا محل لهذا القول. وإذا وضع مهندس مسألة صعبة الحل ولكنها منطقية وحار الطلبة في حلها فلا يلام المهندس إلا إذا آخذ الطلبة إن قصروا؛ أما إن وضعها لمجرد اختبارهم ولم يؤاخذهم على تقصيرهم إن تبين له عجز في كفايتهم فلا لوم عليه. على أن هذا الاعتراض قد يكون فيه شيء من الوجاهة إن قلنا: إن العالم خلق ليحله عقل الإنسان، فكان العالم معقدا أكثر مما يلزم. والعقل قاصرا أكثر مما يلزم؛ أما إذا كان العالم قد خلق لشيء آخر غير أن الإنسان يحله، بل العالم ومنه عقل الإنسان خلق لحكمة وراء ذلك، أصبح الاعتراض في ذاته سخيفا.
وبعد، فإذا كان الإنسان يرى لذاته في هذا الغموض ومحاولة الحل والنجاح أحيانا والفشل أحيانا، فخير له أن يتمتع بهذه اللذة القوية الواضحة في هذا الجو الغامض!
فى رأس البر
يعجبني في رأس البر بساطة العيش والقرب من الديمقراطية؛ يعيش الناس - كما كان يعيش آباؤهم الأولون - في أكواخ من الحصر، لا فرق بين كبيرهم وصغيرهم، وغنيهم وفقيرهم، ويلبسون لباسا ساذجا، قريب الشبه بما كان يلبس آباؤهم، ويسبحون في البحر عراه، ويمشون على البر حفاه؛ ملوا المدنية وزخارفها، والحضارة وبهرجها، وهربوا من المدن وضوضائها، والأرستقراطية وأوضاعها وتقاليدها وتعقيداتها، وارتموا في أحضان الطبيعة، فأفسحت لهم صدرها ينزلون إلى البحر فينفضون عنهم هموم الحياة، وينبطحون على الرمل، ويذكرون قوله تعالى:
Неизвестная страница