إن الغيرة القومية والنهضة الشرقية تتطلبان أن يعني قادتها بهذه المظاهر، وأن يضعوا للأمة تعاليم جديدة في اللغة والتفكير؛ فهم مطالبون بكل الوسائل أن يميتوا ألفاظ الملق من اللغة العربية ويحيوا ألفاظ الأدب النبيل، وأن يربطوا أشد الربط بين الألفاظ ومدلولاتها، فلا يسمحوا أن يضيعوا مدلول الألفاظ كما هي ضائعة اليوم، وأن يضربوا الأمثال للناشئين في الجدل والمناظرات، فيعلموهم كيف تؤدى المعاني على وجوهها، وكيف تلتزم حدود الجدل فلا تتخطى، وكيف يرسم الغرض الذي يرمي إليه الباحث، وكيف يختط السبيل إليه، وكيف يوفر الزمن إذا هو التزم ألا يقول إلا جديدا في المعنى، وكيف يصل من أقرب طريق.
لو فعلنا ذلك لوفرنا على المجالس زمنها وتفكيرها، ولوصلنا في مسائلنا إلى نتائج خير مما نصل إليه الآن، بل عندي أن السرعة مع الخطأ أحيانا خير من الإبطاء الممل والتفكير الراكد مع الصواب الدائم.
ظاهرة وتعليلها
أعرفه غزير العلم واسع المعرفة، ولكنه يأبى أن يجالس أمثاله من العلماء، ولا يلذه إلا أن يجالس لفيفا من صغار الناس في مهنتهم وعقليتهم؛ وليس الشراب هو الذي يجمعهم ويؤلف بينهم كما هو الشأن في كثير من الأحيان.
وأعرفها فتاة على جانب من الجمال، ولكنها لا تؤمن بجمالها؛ لأن أهلها أدخلوا في روعها من صغرها أن الجمال في البياض والحمرة والشعر الأصفر، وهي سمراء شديدة السمرة، وليس في وجهها حمرة، ولا في شعرها صفرة، فهي في اعتقادها ليس لديها من الجمال شيء؛ وأراها تصاحب فتاتين ليس فيهما من الجمال شيء، وتأبى أن تصاحب جميلة، وخاصة إذا كان جمالها في لونها الأبيض المشرب بحمرة.
وأعرفه فنانا كبيرا، ولكنه يأبى أن يجالس الفنانين الكبار أمثاله، ويفضل أن يجلس إلى مبتدئي الفن يعلمهم ويصلح من أخطائهم، وهم من جانبهم يتملقونه، ويفيضون عليه من ألقاب الثناء ما يملؤه غبطة وسرورا.
وأعرف عشرات من هذه الأمثله أشاهدها كل يوم، وأسمع بها كل حين، وأقرؤها في وصف كثير من الرجال والنساء، فما سرها؟
سرها عندي أن من طبيعة الإنسان أنه يكره «الضعة» ويكره كل ما يشعره بالضعة، ويحب العظمة ويحب كل ما يشعره بالعظمة.
من أجل هذا تراه - في العادة - يكره أن يجالس من هو خير منه في علمه وفنه وأدبه؛ لأن ذلك كله يشعره بصغر نفسه؛ وهو أقل كراهية لمجالسة من هو مثله؛ لأنه لا يحط من شأن نفسه؛ وهو أشد حبا لمجالسة من دونه؛ لأن ذلك يجعله أكثر شعورا بعظمة نفسه.
ويمكن تطبيق ذلك على كثير من الأحداث اليومية والمشاهدات المألوفة. ألست ترى أن «حلبة الكميت» أو جمعية الشراب تكره كل الكراهية أن يكون بينهم وقت شرابهم من لا يشرب، ويستثقلونه مهما ظرف، ويستسمحونه مهما لطف؛ لأنه يذكرهم بالفضيلة حين ارتكابهم الرذيلة، ويشعرهم بأنهم الوضعاء وهو الرفيع، وأنه العين النافذة، وأنه الرقيب عليهم، وأنه العاد لسقطاتهم، وأنه المتحفظ بقوة إرادته عند ضعف إرادتهم؟ كل هذا يشعرهم بالضعة فيكرهونه ويبدءون بالإلحاح عليه أن يشرب لا حبا فيه ولكن حبا لأنفسهم، وإبعادا لشعورهم بضعتهم، ولا يزالون يستحلفونه حتى إذا نجحوا أمنوا الشعور بالضعة، وإذا فشلوا مقتوه ومقتوا جلوسه بينهم؛ لأنه نغص عليهم بهجتهم؛ ومن أجل هذا أيضا أحبوا أن يسمعوا أدب الخمر، وأحبوا أن يسمعوا من يفلسف لهم الحياة وأنها ليست إلا متعة الساعة وشهوة الوقت؛ فإن تجاوز المحدث ذلك إلا أنه لا يعبأ بحرام ولا حلال، وأن يقول كما قال أبو نواس:
Неизвестная страница