من نوادر مخطوطات علم أصول الفقه (٥)
الفوائد السنية في شرح الألفية
تأليف
الحافظ البرماوي شمس الدين محمد بن عبد الدائم (٧٦٣ - ٨٣١ هـ)
وهو شرح لألفيته (١٠٣٢ بيتا) في علم أصول الفقه
قال عنه: «هذا الكتاب هو جملة ما حصلت في طول عمري».
يطبع لأول مرة محققا على ثماني مخطوطات
تحقيق
الشيخ عبد الله رمضان موسى
كلية الشريعة
[الجزء الأول]
1 / 1
الطبعة الأولى للكتاب
١٤٣٦ هـ - ٢٠١٥ م
حقوق الطبع والنشر محفوظة كافة على مكتبة التوعية الإسلامية
رقم الإيداع بدار الكتب المصرية ٢٣٤٩/ ٢٠١٤
طبعة خاصة لمكتبة النصيحة بإذن الناشر
مَكتبة دار النصيحة
المملكة العربية السعودية - المدينة النبوية - حي الفيصلية - أمام الباب الجنوبي للجامعة الإسلامية
جوال: ٠٠٩٦٦٥٩٥٩٨٢٠٤٦ - ت وفاكس: ٠٠٩٦٦٤٨٤٧٠٧٠٨
البريد الإلكتروني: [email protected]
الناشر: مكتبة التوعية الإسلامية للتحقيق والنشر والبحث العلمي
هاتف محمول: ٠١١١٨٧٣٧٦٠٥ - ٠١٠٠٥٢٥٥١٤٠
البريد الإلكتروني: [email protected] (أو) Emad_altaw ٣ [email protected]
للمراسلات: عماد صابر المرسي ص. ب: ١٧٤ الرقم البريدي: ١٢٥٥٦ بريد الهرم - الجيزة
1 / 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مُقَدمة المُحَقِّق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الصادق الأمين، أَمَّا بَعْد:
على الرغم مِن طُول ممارستي لِعِلْم أصول الفقه - دراسةً وتدريسًا - منذ عام ١٩٨٩ م تقريبًا وحتى الآن واطِّلاعي على أكثر مِن مائتي كتاب في هذا العِلم (من المطبوع والمخطوط) إلَّا أنني - لسنوات عديدة - كنتُ أتمنى اقتناء ألفية الإمام شمس الدين البرماوي في أصول الفقه وشَرْحِه لها، ذلك الإمام الأُصولي المُحَقِّق المُدَقِّق الذي وجدتُ كثيرًا مِن علماء أصول الفقه المشهورين يحرصون حرصًا شديدًا على نَقْل أقواله وترجيحاته وتقريراته وتحريراته وتنبيهاته.
كَمْ تمنيتُ الحصول على هذا الشرح، هذا الكنز الثمين الذي اغترف منه العديد من أئمة أصول الفقه مِن بَعْده، فَطَال بحثي وسؤالي عنه، ولم يَكُن إلَّا جواب واحد: الكتاب لَمْ يُطْبَع بَعْد!
ثُم كان مِن فَضل الله تعالى عَلَيَّ - بعد البحث الشديد في دور المخطوطات وفهارسها في عِدَّة دول ومساعدة الفضلاء - أنْ تمكنتُ مِن الحصول عَلَى:
(٨) ثماني مخطوطات للألفية مع شرحها.
(٥) خمس مخطوطات لِنَظْم الألفية.
1 / 3
وكان بعضها مِن النُّسَخ النفيسة جدًّا، فمنها ما قُرِئَ على البرماوي وكتب عليها البرماوي بِخَطِّه في مواضع عديدة، ومنها ما كُتب في حياة البرماوي (سنة ٨٣٠ هـ)، وتمت مقابلته على نُسخة المؤلِّف في حياته.
وتَعَجَّبْتُ كثيرًا من أنَّ هذه اللؤلؤة المكنونة لم تَظْهَر وتَخْرُج إلى النور حتى الآن، فلم تُطْبَع!
فقررتُ الاعتكاف (^١)؛ لتحقيقها، والعناية بها، ودراستها، وضَبْط نَصِّها؛ لإخراجها إلى النور بطباعتها، فتتوفر بين أيدي أَهْل العِلم وطَلَبة العِلم الشرعي، خاصةً هؤلاء الذين يَعْلمون عُلُو مكانة الحافظ البرماوي ومكانة ألفِيَّته المشهورة في عِلْم أصول الفقه، فإنهم يَسْعون مُسارعين ويبذلون وُسْعَهم؛ لاقتنائها والفوز بفوائدها.
وبمجموع هذه النُّسَخ أَرَى أنني - بفضل الله تعالى - قد قَدَّمْتُ نَصًّا كاملًا على درجة عالية مِن الإتقان مِن ألفية شمس الدين البرماوي في عِلْم أصول الفقه مع شرحه (^٢).
_________
(^١) وإنما قَرَّرْتُ ذلك مع انتهائي مِن تحقيق ألفية الحافظ العراقي في أُصُول الفقه "النجم الوهاج" وشَرْحها لابنه وَلي الدَّين أبي زرعة، وتحقيق "التحرير لِمَا في منهاج الأصول من المنقول والمعقول" لأبي زرعة ابن العراقي، فخرجَا إلى النور مطبوعَين لأول مرة حيث نَشَرتهما مكتبة التوعية الإسلامية. وأيضًا مع انتهائي مِن تحقيق "منهاج الوصول" للقاضي البيضاوي الذي طبعته مكتبة التوعية الإسلامية مع ألفية الحافظ العراقي في أصول الفقه في مجلد واحد ظهر لأول مرة في معرض القاهرة الدولي للكتاب.
(^٢) ولا أَدَّعِي العصمة لنفسي، فَمَن وَقَفَ على خطأ فليراسلني، وجزاه الله خير الجزاء.
1 / 4
ما الذي يتضمنه كتابُنا هذا الذي بين يديك؟
أَلَّف البرماويُّ أوَّلًا "النبذة الزكية في القواعد الأصلية"، ثُم نَظَمها في ألفِيَّته المشهورة "النبذة الألفية في الأصول الفقهية" سَنة ٨١٨ هـ، ثُم شرح الألفية سَنة ٨٢٨ هـ، واسْم الشرح "الفوائد السنية في شرح الألفية"، وقد صَرَّح البرماوي بذلك في آخِر ألفيته وشرحِها.
قال حاجي خليفة (١٠٠٤ - ١٠٦٧ هـ) في كتابه "كشف الظنون": ("النبذة الزكية في القواعد الأصلية" .. لشمس الدين محمد بن عبد الدائم البرماوي الشافعي ..، جمعها خالية عن الخلاف والدليل، ثُم نَظَمَها "أَلْفِيَّة"، وشَرَحَها أيضًا) (^١). انتهى
وقال كمال الدين ابن أبي شريف (٨٢٢ - ٩٠٦ هـ) في كتابه "الدرر اللوامع في تحرير شرح جمع الجوامع": (المُخَصَّص بِمُعَيَّن حُجة، والمُخَصَّص بِمُبْهَم ليس حُجة ..، وَعَلَى هَذَا مَشَى الْبِرْمَاوِيُّ فِي "النُّبْذَةِ" وَ"الْأَلْفِيَّةِ" وَشَرْحِهَا) (^٢).
وقد حَقَّقتُ أوَّلًا نَظْمَ أَلْفِيَّة البرماوي "النبذة الألفية في الأصول الفقهية" وأَصْلَها "النُّبْذة الزكية في القواعد الأصلية" له أيضًا، وطُبِعَا - بفضل الله تعالى - في مجلد واحد، نَشَرتهما مكتبة التوعية الإسلامية لأول مرة في معرض القاهرة الدولي للكتاب في يناير ٢٠١٤ م.
وكتابنا هذا - الذي بين يديك - هو الشرح الوافي للبرماوي "الفوائد السنية في شرح الألفية"، يخرج إلى النور مطبوعًا لأول مرة بفضل الله تعالى.
_________
(^١) كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون (٢/ ١٩٢٣).
(^٢) الدرر اللوامع - مخطوط (ورقة: ٨٨)، محفوظ بجامعة الملك سعود (رقم: ١٢٨١).
1 / 5
والكلام في هذه المقدمة في مباحث:
المبحث الأول: بيان حِرص كثير مِن علماء الأصول على نَقْل أقوال البرماوي وتقريراته.
المبحث الثاني: ترجمة الإمام شمس الدين البرماوي، وتوثيق نِسبة الكتاب له.
المبحث الثالث: بيان منهج الإمام البرماوي في نَظْمِ الألفية وأَصْلِها وشَرْحِها.
المبحث الرابع: تَقَدُّم البرماوي في عِلْم الحديث وأَثَره في شَرْحه لِلْأَلْفِيَّة.
المبحث الخامس: تَقَدُّم البرماوي في الفقه وأَثَره في شَرْحه لِلْأَلْفِيَّة.
المبحث السادس: مَذْهَب الإمام البرماوي وأَثَره في شَرْحه لِلْأَلْفِيَّة.
المبحث السابع: عقيدة البرماوي وأَثَرها في شَرْحه لِلْأَلْفِيَّة.
المبحث الثامن: اشتمال شرح البرماوي على فوائد لم يذكرها الزركشي في "البحر".
المبحث التاسع: بيان دَرَجة دِقَّة البرماوي في نَقْل كلام غَيْره.
المبحث العاشر: بيان حرص البرماوي على أنْ يَقرأ على شيوخه ما كَتَبه أو نَسَخه مِن كُتُبهم ومقابلة نُسخته على أَصلهم، وكذلك كان يُقرأ عليه ما كُتِبَ أو نُسِخ مِن كُتُبه.
المبحث الحادي عشر: وصف نُسَخ مخطوطات أَلْفِيَّة البرماوي وأَصْلها وشَرْحِها.
المبحث الثاني عشر: ملاحظاتي حول نُسَخ المخطوطات.
المبحث الثالث عشر: الجهود السابقة لتحقيق هذه الألفية وشَرْحها.
المبحث الرابع عشر: عَمَلِي في الكتاب.
المبحث الخامس عشر: تنبيهات مهمة.
وفيما يأتي تفصيل ذلك.
1 / 6
المبحث الأول: بيان حِرص كثير مِن علماء الأصول على نَقْل أقوال البرماوي وتقريراته
كان يصيبني الملل أحيانًا مِن بعض الكُتُب الأصولية التي لا تكاد تجد فيها تحريرًا لمسألة، وإنما كان مؤلِّفُها مُجَرَّد ناقل عَمَّن سبقوه، فما هي إلَّا تكرار لِمَا في غَيْرها من الكُتُب.
وقد استقر في ذهني جَمْعٌ مِن أئمة أصول الفقه - أصحاب التقريرات والتحريرات المفيدة - الذين تمنيتُ كثيرًا اقتناء مؤلَّفاتهم الأصولية.
ومِن هؤلاء: شمس الدين البِرْمَاوي؛ فلقد رأيتُ العديد مِن أئمة أصول الفقه يحرصون في مؤلفاتهم على نَقْل أقوال البرماوي وتقريراته وتحريراته مِن أَلْفِيَّته "النبذة الألفية في الأُصول الفقهية" وشَرْحِه لها "الفوائد السنية في شرح الألفية".
ومن هؤلاء (على سبيل المثال، لا الحصر):
١ - الإمام علاء الدين المرداوي (٨١٧ - ٨٨٥ هـ): ذكر في مقدمة كتابه "التحبير شرح التحرير" الكُتُب الأصولية التي اعتمد عليها، فذكر منها: "منظومة البرماوي، وشَرْحها". فكان المرداوي - في أكثر من (٤٠٠) أربعمائة موضع - ينقل أقوال البرماوي وتقريراته واختياراته الأصولية، وإليكم بعض عباراته:
(صرح بِهَذَا الْبرمَاوِيُّ فِي شرح منظومته، اخْتَارَ الْبرمَاوِيُّ فِي شرح منظومته، قال البرماوي في شرح منظومته، الْبرمَاوِيُّ وَغَيره استدلوا لذَلِك، ذَكَرَه الْبرمَاوِيُّ، حكاه
1 / 7
البرماوي، نقل الْبرمَاوِيُّ عَنهُ، اخْتَارَ هَذَا الْبرمَاوِيُّ، فَجعل الْبرمَاوِيُّ الْمَسْأَلتَيْنِ وَاحِدَة، كَلَام الْبرمَاوِيّ وَغَيره يَقْتَضِي أَنه محَل وفَاق، بَنَى الْبرمَاوِيُّ وَغَيره الْمَسْألَة على ..، قَطَع بذلك الْبرمَاوِيُّ، حَكَاهُ الْبرمَاوِيُّ عَن أَكثر الحنَفِيَّة، ترْجم الْبرمَاوِيُّ الْمَسْأَلَة بِأَن ..، تكلم على ذَلِك الْبرمَاوِيُّ وَأطَال، الْبرمَاوِيُّ صحَّح مَا قَالَه ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره، ذكر هَذِه الْأَقْوَال الْبرمَاوِيُّ، عَلَّلَ ذَلِك الْبرمَاوِيُّ، رَدَّه الْبرمَاوِيُّ فقال ..، ذكر الْبرمَاوِيّ أَحْكَام النِّيَّة واستقصاها فأجاد وَأفَاد).
٢ - شهاب الدين القسطلاني (٨٥١ - ٩٢٣ هـ): اهتم في كتابه "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" بنقل أقوال شمس الدين البرماوي وتقريراته وتَعَقُّباته، فجاء ذِكْره في ثلاثمائة موضع تقريبًا، وإليكم بعض عباراته:
(قال البرماوي في شرح ألفيته، حكاه البرماوي، نقله عنه البرماوي، لكن تَعَقَّبَه البرماوي، قال البرماوي في شرح العمدة، كذا قرره الحافظ ابن حجر والبرماوي، قَرَّرَه البرماوي، كذا ضبطها البرماوي، نَبَّه عليه البرماوي، كذا قدَّره البرماوي، جَوَّز البرماوي، قَوَّى البرماوي، أجاب البرماوي بأن ..، وَجَّهَه البرماوي، أشار البرماوي، صرّح به البرماوي، قال البرماوي: فيه نظر، صَوَّب البرماوي الأُولى، زاد البرماوي).
٣ - زين الدين زكريا الأنصاري (٨٢٤ - ٩٢٦ هـ): على الرغم مِن صِغَر كتابه "غاية الوصول في شرح لب الأصول" إلَّا أنه ذكر البرماوي في أكثر مِن (٢٠) عشرين موضعًا، وإليكم بعض عباراته:
(قرره شيخُنا العلَّامة الجلال المحلي بما لا مزيد عليه واستبعده أيضًا شيخُه العلَّامة الشمس البرماوي، أفردتهما تبعًا للعلَّامة البرماوي، قال البرماوي، استظهره
1 / 8
البرماوي، نَبَّه على ذلك العلامة البرماوي، به صرح الشمس البرماوي، اعتمده السبكي والبرماوي، "هذا تركه البرماوي من ألفيته وذكره في شرحها مع زيادة، ومثَّل له بالآية، ثُم قال .. "، فَرَّق البرماوي بأنَّ ..، أجاب عنه البرماوي بأنَّ ..، صَوَّبه البرماويُّ).
٤ - تقي الدين ابن النجار (٨٩٨ - ٩٧٢ هـ): اهتم بِنقل أقوال البرماوي وتحريراته واختياراته وذلك فيما يقارب (١٠٠) مائة موضع من كتابه "شرح الكوكب المنير" في أصول الفقه.
٥ - شهاب الدين الرملي (المتوفى: ٩٥٧ هـ): ذكر البرماوي في فتاويه، فقد جاء في "فتاوى الرملي، ص ١٩٥": (قَالَ الْبِرْمَاوِيُّ فِي شَرْحِ أَلْفِيَّتِهِ ...).
٦ - شهاب الدين ابن قاسم العبَّادي (المتوفى: ٩٩٢ هـ): ذكر شمس الدين البرماوي في عِدة مواضع مِن كتابه "الآيات البينات على شرح جمع الجوامع":
فقال في كتابه هذا (٢/ ٣٢٦): (اقتضاه كلام البرماوي ...، وحينئذ يندفع عنه اعتراض البرماوي).
وقال في (٢/ ٣٤٤): (وبه صرح البرماوي).
وقال في (٢/ ٣٧٣): (تبع فيه الشارح شيخه البرماوي في شرح ألفيته).
٧ - زين الدين عبد الرؤف المناوي (٩٥٢ - ١٠٣١ هـ): نقل عن الشمس البرماوي في عِدة مواضع مِن كُتُبه، منها قوله في كتابه "فيض القدير شرح الجامع الصغير":
(وهو ما جرى عليه جَمْعٌ منهم البرماوي، قال الكرماني والبرماوي وأبو زرعة، لكن قال البرماوي، تَعَقَّبه البرماوي بأنَّ ..).
1 / 9
وكذلك قوله في كتابه "اليواقيت والدرر في شرح نخبة ابن حجر، ٢/ ٣٥٨": (وَعَلَيْه جرى الْبرمَاوِيُّ في "نبذته" و"ألفيته").
٨ - محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني (١٠٩٩ - ١١٨٢ هـ): ذكر البرماوي في (١٠) عشرة مواضع من كتابه "إجابة السائل" في أصول الفقه، وإليكم بعض عباراته:
("بلغ بهَا الْفَاضِل الْبرمَاوِيُّ فِي منظومته وَشَرْحهَا إِلَى أَكثر من ثَلَاثِينَ نوعًا وعَدَّ أمثلتها"، "ذهب جمَاعَة من محققي الشَّافِعِيَّة - كالرازي وَأَتْبَاعه والسبكي والبرماوي وَغَيرهم - إِلَى أَنه .. "، "قَالَ الْبرمَاوِيّ: إِنَّ أَرْجَح المْذَاهب هَذَا"، "سَبقه إِلَى هَذَا الْبرمَاوِيُّ فِي شرح منظومته قَائِلًا .. ").
وكذلك ذكره في عدة مواضع من كتابه "توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار"، وإليكم بعض عباراته:
(ذكر هذا البرماوي في شرح ألفيته في أصول الفقه، ذكره البرماوي في شرح ألفيته في الأصول، قال البرماوي، استدل به البرماوي، حكاه البرماوي).
وذكره أيضًا في كتابه "سبل السلام، ٢/ ١١" حيث قال: (وَقَدْ حَقَّقَ الْبِرْمَاوِيُّ الْكَلَامَ فِي شَرْحِ أَلْفِيَّتِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ).
1 / 10
المبحث الثاني: ترجمة شمس الدين البرماوي، وتوثيق نسبة الكتاب له
قال الحافظ تاج الدين ابن الغرابيلي (^١) (٧٩٦ - ٨٣٥ هـ) في ترجمة البرماوي: (هو أحد الأئمة الأجلاء ..، فريد دهره، ووحيد عصره، ما رأيت أَقْعَد منه بفنون العلوم ..، وصَنَّف التصانيف المفيدة، منها: "شرح البخاري" شرح حسن، ولَخَّص "المهمات" و"التوشيح"، ونَظَم "ألفية" في أصول الفقه لم يُسبق إلى مِثل وَضْعها، وشَرَحها شرحًا حافلًا نحو مجلدين، وكان يقول: "أكثر هذا الكتاب هو جُملة ما حَصَّلْتُ في طول عُمري". وشرح "لامية ابن مالك" شرحًا في غاية الجودة، .. وَحَشى الحواشي المفيدة،
_________
(^١) قال الحافظ ابن حجر في "إنباء الغمر بأبناء العمر، ٣/ ٤٨٨": (الحافظ تاج الدين الكركي ابن الغرابيلي .. أَقْبَل على الحديث بكُليته، فسمع الكثير وعرف العالي والنازل، وقيد الوفيات وغيرها من الفنون ..، فأقبل على النظر في التواريخ والعِلَل، وسمع الكثير ببلده، ورحل إلى دمشق، ورحل إلى القاهرة فلازمني إلى أنْ حرر نسخته مِن "المشتبه" غاية التحرير ..، وكان الأكابر يتمنون رؤيته والاجتماع به؛ لِمَا يبلغهم مِن جميل أوصافه، فيمتنع، إلَّا أنْ يَكون الكبير مِن أهل العلم).
وقال الحافظ شمس الدين السخاوي في "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، ٩/ ٣٠٦": (مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد .. ابن الأمير ناصر الدين السالمي ..، يُعرف بِـ "ابْن الغرابيلي"، وُلد سنة سِتّ وَتِسْعين وَسَبْعمائة بِالْقَاهِرَةِ حَيْثُ كَانَ جده الْعِمَاد حَاكمًا فِيهَا، وَنَقله أَبوهُ إِلَى الكرك حِين ولي إمرتها؛ فَنَشَأَ بِهِ ..، قيد الوفيات، وَنظر فِي التواريخ والعلل، وَعرف العالي والنازل والأسماء والإسناد، وبرع فِي ذَلِك جدا. وصَنَّف التصانيف الْحَسَنَة ..، ورحل إِلَى دمشق ثمَّ إِلَى الْقَاهِرَة، .. مَاتَ .. سَنة خمس وَثَلَاثِينَ، وَصلَّى عَلَيْهِ شَيخُنَا .. وَكَانَت جنَازَته مَشْهُودَة).
1 / 11
وعلَّق التعاليق النّفيسة والفتاوي العجيبة، وكان من عجائب دهره) (^١).
وقال تقي الدين ابن قاضي شهبة (٧٧٩ - ٨٥١ هـ) في كتابه "طبقات الشافعية": (مُحَمَّد بن عبد الدَّائِم بن مُوسَى: الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم المفنن شمس الدِّين أَبُو عبد الله، الْعَسْقَلَانِي الأَصْل، الْبرمَاوِيّ، الْمصْرِيّ، مولده فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وَسِتِّين وَسَبْعمائة. وَأَخَذَ عَن: الشَّيْخ سراج الدِّين البُلْقِينِي، وَالشَّيْخ سراج الدِّين ابْن الملقن، وَالشَّيْخ زين الدِّين الْعِرَاقِيّ، وَالشَّيْخ عز الدِّين ابْن جمَاعَة، ومجد الدِّين الْبرمَاوِيّ، وَالْقَاضِي بدر الدِّين ابْن أبي الْبقاء ..
تميز فِي الْفِقْه والنحو والْحَدِيث وَالْأُصُول ..، وَأقَام بِمصْر يشغل ويفتي ..، ثمَّ قدم دمشق .. سنة إِحْدَى وَعشْرين .. وَجلسَ فِي الجْامِع يُقْرِئ، وَاجْتمعَ عَلَيْهِ الطَّلبَة، وَظهر فَضلُه، وَقُصِد بالفتاوى، ثمَّ عَاد إِلَى مصر، ثمَّ قدم دمشق ثَانِيًا فِي سنة ثَلَاث وَعشْرين بِطَلَب من قَاضِي الْقُضَاة، وناب فِي الْقَضَاء .. وَولي إِفْتَاء دَار الْعدْل ..، وأقرأ .. "الْمِنْهَاج" فِي سَنة و"التنبيه" فِي سَنة أُخْرَى وَ"الْحَاوِي" فِي أُخْرَى، ثمَّ عَاد إِلَى مصر .. سَنة سِتّ وَعشْرين، وَحج من مصر سَنة ثَمَان وَعشْرين، وجاور بِمَكَّة، وَرجع إِلَى مصر فِي سنة ثَلَاثِين ..، وَمَات فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة إِحْدَى وَثَلَاثِين وَثَمَانِمائَة ..، وَله "الألفية" فِي الْأُصُول وَشَرحهَا، ..، وَغير ذَلِك) (^٢).
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني (٧٧٣ هـ - ٨٥٢ هـ) في كتابه "إنباء الغمر بأبناء العمر": (البرماوي الشيخ شمس الدين .. تفقه وهو شاب .. وسمع معنا من جماعة من المشايخ، ولازم الشيخ بدر الدين الزركشي وتمهر به، وحضر دروس الشيخ سراج
_________
(^١) نقله عنه ابن العماد الحنبلي في كتابه "شذرات الذهب في أخبار من ذهب، ٧/ ١٩٧".
(^٢) طبقات الشافعية (٤/ ١٠١) لابن قاضي شهبة.
1 / 12
الدين البلقيني وقرأ عليه بعضها، وقد سمعتُ بقراءته على الشيخ "مختصر المزني" ..
وكان حسن الخط، كثير المحفوظ، قوي الهمة ..
وله منظومات وتصانيف، منها: "شرح العمدة"، ومنظومة في أسماء رجالها وشرحها، وشرح "البخارى" في أربع مجلدات ..، ثُم ولي نيابة الحكم عن ابن أبي البقاء .. ثُم ناب عن الجلال البلقيني، ثُم عن الإخنائي ..، وكان للطلبة به نفع، وفي كل سَنة يتم كتابًا من المختصرات، فيأتي على آخِره ويعمل له وليمة ..، حج في سنة ثمان وعشرين، جاور بمكة سنة تسع وعشرين) (^١). انتهى
وقال الحافظ شمس الدين السخاوي (٨٣١ - ٩٠٢ هـ) في "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع": (مُحَمَّد بن عبد الدَّائِم .. الْبرمَاوِيّ، ثمَّ القاهري، الشَّافِعِي. وُلد .. سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة ..، ولازم الْبَدْر الزَّرْكَشِي وتمهر بِهِ وحرر بعض تصانيفه، وَحضر دروس البُلْقِينِي وَقَرَأَ عَلَيْهِ، وَأخذ أَيْضًا عَن الأبناسي وَابْن الملقن والعراقي وَغَيرهم .. وَصَحب الْجلَال ابن أبي الْبقاء ..، وَعَكَفَ عَلَيْهِ الطَّلبَة، وأقرأ "التَّنْبِيه" وَ"الْحَاوِي" و"المنهاج" كل ذَلِك فِي سَنة، وَغير ذَلِك؛ فاشتهرت فضيلته ..، وتصدى للإفتاء والتدريس والتصنيف، وانتفع بِهِ خَلْقٌ بِحَيْثُ صَار طلبته رؤوسًا فِي حَيَاته، وباشر وظائف الْوَلِي الْعِرَاقِي نِيَابَة عَن حفيده ..، وَحج فِي سنة ثَمَان وَعشْرين، وجاور الَّتِي بعْدهَا، وَنشر الْعلم أَيْضًا هُنَاكَ، ثمَّ عَاد فِي سنة ثَلَاثِينَ ..
وَكَانَ إِمَامًا عَلَّامَة فِي الْفِقْه وأصوله والعربية وَغَيرهَا، مَعَ حسن الْخط وَالنَّظم ..
وَمن تصانيفه: "شرح البُخَارِيّ" فِي أَربع مجلدات ..، وَ"شرح الْعُمْدَة" ..، وَله أَيْضًا منظومة فِي أَسمَاء رجالها وَشَرحهَا، و"ألفية" فِي أصُول الْفِقْه وَشَرحهَا ..، ومنظومة
_________
(^١) إنباء الغمر بأبناء العمر (٣/ ٤١٤).
1 / 13
فِي الْفَرَائِض، وَشرح "لامية الْأَفْعَال" لِابْنِ مالك، و"البهجة الوردية"، و"زوائد الشذور"، وَعمل مُخْتَصرًا فِي السِّيرَة النَّبَوِيَّة وَكتب عَلَيْهَا حَاشِيَة، ولَخَّص "الْمُهِمَّات" للأسنوي. وَلم يزل قَائِما بنشر الْعلم تصنيفًا وإقراءً حَتَّى مَاتَ فِي يَوْم الْخَمِيس .. جُمَادَى الثَّانِيَة سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ بِبَيْت المقدس ..، وَقد انتشرت تلامذته فِي الْآفَاق، وَمِنْهُم: الْمحلي، والمناوي، والعبادي، وطبقة قبلهم، ثمَّ طبقَة تليهم. وَحدث بِالْقَاهِرَة وَمَكَّة ودمشق وَبَيت المقدس. سمع مِنْهُ الْأَئِمَّة: كالزين رضوَان بِالْقَاهِرَةِ، والتقي ابْن فَهد بِمَكَّة، وَابْن نَاصِر الدِّين بِدِمشْق. وروى لنا عَنهُ خَلْقٌ) (^١).
وقال السخاوي في ترجمة شيخه الحافظ ابن حجر العسقلاني: (تَفَقَّهَ بالأبناسي .. وبالبلقيني .. وَسمع عَلَيْهِ بِقِرَاءَة الشَّمْس الْبرمَاوِيّ فِي "مُخْتَصر الْمُزنِيَ") (^٢).
وقال في ترجمة جلال الدين المحلي: (فَأخذ الْفِقْه وأصوله والعربية عَن الشَّمْس الْبرمَاوِيّ، وَكَانَ مُقيمًا مَعَه بالبيبرسية؛ فَكثر انتفاعه بِهِ لذَلِك) (^٣). انتهى
وقال الإمام الشوكاني (١١٧٣ - ١٢٥٠ هـ) في كتابه "البدر الطالع بمحاسن مَن بَعْد القرن السابع": «مُحَمَّد بن عبد الدائم .. الْبرمَاوِيّ .. تصدَّى للإفتاء والتدريس والتصنيف، وانتفع بِهِ النَّاس، وطار صيته، وَصَارَ طَلبتُه رُؤَسَاء فِي حَيَاته .. وَكَانَ إِمَامًا فِي الْفِقْه وأصوله والعربية وَغير ذَلِك ..، وَله ألفية فِي أصُول الْفِقْه، وَشرحهَا) (^٤).
قلتُ: وقد سبق (ص: ٥ - ٦) نَقْل كلام ابن حاجي خليفة وابن أبي شريف.
_________
(^١) الضوء اللامع (٧/ ٢٨٠).
(^٢) الضوء اللامع (٢/ ٣٧).
(^٣) الضوء اللامع (٧/ ٣٩).
(^٤) البدر الطالع بمحاسن مَن بَعْد القرن السابع (٢/ ١٨١).
1 / 14
تنبيه: هناك مؤلفات للبرماوي ذكرها في شرح الألفية وقد ذكرتها كُتُب التراجم، وهناك مؤلفات له لم أقف عليها في كُتب التراجم.
فمن مؤلفاته التي لم أقف عليها:
١ - "تحقيق القول بالصمات عن مشكلات الصفات"، "إيضاح الفصول مِن منهاج الأصول". ذكرهما البرماوي في شرح الألفية.
قال الإمام البرماوي في شرح ألفيته (١/ ١٧٩): (وقد اجتمعت هذه النقول المتفرقة والأقوال المنتشرة بما قررناه، وقد بسطتها في "إيضاح الفصول مِن منهاج الأصول" بما يَتَعَيَّن على مُرِيده الوقوفُ عليه).
وقال أيضًا (٢/ ٨٥٩): (وقد بينتُ في مقدمة كتابي المُسمى بـ "تحقيق القول بالصمات عن مشكلات الصفات" وجوهًا مِن الترجيح).
٢ - ما كَتبه ناسخ مخطوط "النبذة الزكية" على الورقة الأولى: (له تعليقة على "علوم الحديث" لابن الصلاح كما قاله في شرحه "النهر على الزهر" (^١) ..، وله "تكحيل العيون بما في السِّيَر مِن الفنون" قاله في شرحه "النهر على الزهر"، وله شرح خطبة "الحاوي الصغير" وعندي منه نسختان ..، وله إملاء على "التنقيح" أصل "التحرير" لابن شيخه الولي العراقي، وهو عند بعض أصحابنا).
ومن مؤلفاته التى ذكرها في شرحه وذكرتها كتب التراجم:
١ - "جمع العُدة لفهم العمدة": قال الإمام البرماوي في شرح ألفيته (٢/ ٦٩٢): (وفى الحديث مباحث أخرى ذكرتها في "جمع العُدة لفهم العمدة"، فراجعها).
_________
(^١) شَرَح فيه البرماوي نَظْمه "الزهر البسام فِيمَا حوته عُمْدَة الْأَحْكَام من الْأَنَام". انظر: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع (٩/ ٢٥٣).
1 / 15
وقال أيضًا في شرح ألفيته (١/ ٢٥٧): (وقد بسطت ذلك في "شرح العمدة" في باب "شروط البيع"، فَراجِعْه؛ فإنه نفيس).
٢ - "شرح الصدور بشرح زوائد الشذور": قال الإمام البرماوي في شرح ألفيته (٢/ ٩١٦): (وقد بسطتُ المسألة بسطًا شافيًا في "شرح الصدور بشرح زوائد الشذور" لابن هشام في النحو، فليطلَب منه؛ فإنه مهم).
٣ - "شرح لاميّة الأفعال": قال الإمام البرماوي في شرح ألفيته (٢/ ٩٣٩): (وقد أوضحتُ في "شرح لاميّة الأفعال" لابن مالك هذا المعنى، وذكرتُ الفرقَ بين الاشتقاق والتصريف بما يتعين الوقوف عليه).
المبحث الثالث: بيان منهج الإمام البرماوي في نَظْم الألفية وأَصْلِها وشَرْحِها
قد يَرِد السؤال التالي في ذهن القارئ: ما الفَرْق بين: "النبذة الزكية في القواعد الأصلية"، والأَلْفيَّة، والشرح الوافي "الفوائد السنية"؟
ويتضح الجواب ببيان منهج الإمام البرماوي في كُتُبه:
اقتصر البرماوي في "النبذة الزكية" على بيان القول الراجح، ولم يتعرض لِذِكْر الخلاف بين الأصوليين، وكذلك لم يتعرض لِذِكْر الأدلة والاعتراضات عليها والأجوبة عنها. ومَشَى على ذلك أيضًا في نَظْم الألفية.
أمَّا في الشرح الوافي "الفوائد السنية في شرح الألفية" فنجده يَذكر مواضع الإجماع والخلاف وأدلة كل قول، ثم يذكر القول الراجح وأدلته، ويجيب عن أدلة المخالفين،
1 / 16
حتى أطال في مسائل عديدة.
ومِن ذلك قوله في مسألة "الإجماع السكوتي": (وإنما أَطَلْتُ في هذه المسألة .. لأنها مِن أُمهات الأُصُول ومِن المحتاج لإيضاحه).
وقال في موضع آخَر: (وإنما أطلتُ في هذا لاحتياج الشافعية لمثله).
وقال في موضع ثالث: (إنما أطلتُ الكلام على "الواو"؛ لأنها من المهمات).
وقال في موضع رابع: (فقد اتضحت المسألة والحقُّ فيها ولله الحمد، وإنما أطلتُ فيها بالنسبة لهذا المختصر لأنَّ أمر التكفير معضل وخطر عظيم).
وقال أيضًا: (وسأذكر في هذا الشرح ما يظهرُ مِن تفريعات في الفقه في بعض المسائل على ذلك إنْ شاء الله تعالى).
فصار كتابه موسوعة ضخمة في عِلْم أصول الفقه وتطبيقاته الفقهية، ومَرْجِعًا لا يَستغني عنه الباحثون في هذا العِلْم.
المبحث الرابع: تَقَدُّم البرماوي في عِلْم الحديث وأَثَره في شَرْحه لِلأَلْفِيَّة
قال تقي الدين ابن قاضي شهبة (٧٧٩ - ٨٥١ هـ) في كتابه "طبقات الشافعية": (مُحَمَّد بن عبد الدَّائِم بن مُوسَى: الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم .. الْبرمَاوِيّ .. تميز فِي الْفِقْه والنحو والْحَدِيث وَالْأُصُول).
قلتُ: فالإمام البرماوي أُصولي عالِم بالحديث، وقد سبق ذِكْر شَرْحه "صحيح
1 / 17
البخاري" (^١) وتعليقته على مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث، مما يجعل لكتابه هذا ميزة كبرى لا توجد في كثير من كُتُب أصول الفقه الأخرى، ولبيان ذلك أذكر خمسة أمثلة مما جاء في كتابه "الفوائد السنية":
المثال الأول: قال الإمام البرماوي (٣/ ١٠١٧): (وأما جواب القاضي أبي بكر والإمام والغزالي ومَن تبعهم بالطعن في الحديث فعجيب؛ فإنه في "الصحيحين").
المثال الثاني: قال الإمام البرماوي (١/ ١٨٦): (ودليله أيضًا حديثُ: "رُفِعَ القَلَم عن ثلاث: عن الصبي حتى يَبْلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق". رواه الأربعة مِن حديث علي، وقال الترمذي: "حسن"، وأخرجه ابن حبان والحاكمُ وقال: "صحيح على شرط الشيخين". وأخرجه البخاري موقوفًا مُعَلَّقًا بِالجَزْم، ورواه أبو داود والنسائي وابنُ ماجه وابنُ حبان مِن رواية عائشة، وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم". وقال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في "الإمام": إنه أَقْوَى إسنادًا مِن رواية عَلِي). انتهى كلام البرماوي.
المثال الثالث: قال الإمام البرماوي (١/ ٢١٣): (وقد يُرَجَّح هذا بحديث أبي هريرة: "نَهَى ﷺ عن صوم يوم عرفة". أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وفيه ضَعْفٌ وإنْ كان الحاكم صححه وقال: "على شرط البخاري"). انتهى كلام البرماوي.
قلتُ: لم يَغْتَر البرماوي بتصحيح الحاكم للحديث، وقد قال البرماوي في موضع آخَر: (ثم بعد ذلك يرجح ما كان على شرطهما، ثم ما كان على شرط البخاري، ثم ما هو على شرط مسلم، كما يفعل ذلك الحاكم في "مستدركه" وإنْ كان فيه تساهل وعليه انتقادات).
_________
(^١) وقد طُبع قريبًا، واسمه: (اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح).
1 / 18
قلتُ: وقد أصاب البرماوي في تصريحه بضعف الحديث؛ فالإسناد مداره على مهدي بن حرب العبدي الهجري، وهو سبب الحكم بضعف الحديث (^١).
وقال الإمام أبو جعفر العقيلي في كتابه "الضعفاء الكبير" (^٢): (رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﵇ بِأَسَانِيدَ جِيَادٍ أَنَّهُ لَمْ يَصُمْ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَلا يَصِحُّ عَنْهُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ صَوْمِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَة كَفَّارَةُ سَنَتَيْنِ، سَنَةٍ مَاضِيَة، وَسَنَةٍ مُسْتَقْبلَة").
قلتُ: فَقَوْل البرماوي وافَقَ قول أئمة الحديث المتقدمين.
المثال الرابع: قال الإمام البرماوي (٥/ ٢٠٩٨): (وفي الحديث: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن" .. رواه أحمد والدارمي عن ابن مسعود موقوفًا عليه، ومَن رَفَعه إلى النبي ﷺ فقد أخطأ، ورَفْعُه مِن حديث أَنَس إسناده ساقط لا يُحتج به). انتهى
قلتُ: كلام الإمام البرماوي هنا دقيق ومتين، ويتضح ذلك مما يلي:
قال الحافظ ابن حجر في "الأمالي المطلقة" (^٣): (لَمْ أَرَ في شَيْءٍ مِنْ طُرُقِه التَّصْرِيحَ بِرَفْعِهِ).
وقال أيضًا في "الدراية في تخريج أحاديث الهداية" (^٤): (لم أجده مرفوعًا).
قلتُ: بل ذكره الخطيب البغدادي بإسناده في "تاريخ بغداد" (^٥): (عَنْ أَنَسِ بْنِ
_________
(^١) انظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي (٨/ ٣٣٧)، ميزان الاعتدال (٦/ ٥٣٠)، تقريب التهذيب (ص ٥٤٨).
(^٢) الضعفاء الكبير (١/ ٢٩٨) للإمام العقيلي.
(^٣) الأمالي المطلقة (ص ٦٥).
(^٤) الدراية في تخريج أحاديث الهداية (٢/ ١٨٧).
(^٥) تاريخ بغداد (٤/ ١٦٥).
1 / 19
مَالِك، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: "إِنَّ الله نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَلَمْ يَجِدْ قَلْبًا أَتْقَى مِنْ أَصْحَابِي؛ وَلِذَلِكَ اخْتَارَهُمْ، فَجَعَلَهُمْ أَصْحَابًا، فَمَا اسْتَحْسَنُوا فَهُوَ عِنْدَ الله حَسَنٌ، وَمَا اسْتَقْبَحُوا فَهُوَ عِنْدَ الله قَبِيحٌ"). انتهى
قلتُ: وفي إسناده سليمان بن عمرو النخعي، قال الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" (^١): (كَذَّبه ونَسَبَه إلى الوَضْع مِن المتقدمين والمتأخرين ممن نُقِل كلامهم في الجرح أو ألَّفوا فيه فوق الثلاثين نَفْسًا). انتهى
قلتُ: فكلام البرماوي فيه أمران:
أولهما: عِلمه برواية الرفع.
ثانيهما: عِلمه بأنَّ رواية الرفع إسنادها ساقط لا يُحتج به.
فَقَوْل البرماوي يدل على أنه عالِمٌ بالحديث.
المثال الخامس: قال الإمام البرماوي (٤/ ١٦٧١): (الثاني: أن يكون العموم في ذلك الحكم المسئول عنه، كقوله ﷺ وقد سُئل عن بئر بُضاعة وهي بئر يُلقى فيها الحيض والنتن ولحوم الكلاب: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء". رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي، وقال أحمد: "صحيح". وقال الترمذي: "حسن". وفي بعض نُسَخه: "حسن صحيح". وصححه أيضًا ابن معين وغيره.
وهو يَرُد قول الدارقطني: إنه غير ثابت (^٢). ويقع في كُتب كثير من أصحابنا - وكذا
_________
(^١) لسان الميزان (٣/ ٩٨).
(^٢) قال شمس الدين ابن عبد الهادي الحنبلي (المتوفى: ٧٤٤ هـ) في كتابه (تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق، ١/ ٣١): (انتهى كلام الدَّارَقُطْني ... قوله: "الحديث غير ثابت" يريد به حديث أبي هريرة، لا حديث أبي سعيد كما صرَّح به في "العلل"). دار النشر: أضواء السلف - الرياض. =
1 / 20