قال أوباس: «صدقت يا ولدي، إنه نجانا من الفرنك، ولكنه ألقانا فيما هو أعظم خطرا منهم.»
قال ألفونس: «وما هو ذاك؟»
قال أوباس: «ألا تعرفه؟ ألا تعرف أن ريكارد هو الذي أضاع جنسيتنا، وحل جامعتنا؟»
فلم يفهم ألفونس ما يهدف إليه، فقال: «كلا يا مولاي، إني لا أعرف ذلك، ما هو؟»
قال أوباس: «ألا تعلم يا ألفونس أن ريكارد هو الذي جعل مذهب كنيسة رومية (الكاثوليكية) هو مذهب حكومة إسبانيا؟»
قال ألفونس: «نعم، ألا تظنه فعل حسنا؟»
فقال أوباس: «نحن الآن على مذهب هذه الكنيسة أيضا، وقد ربينا في حبها، ولا بأس في ذلك، ولكنني أنظر في الأمر من وجهه السياسي، أنظر فيه من حيث جامعتنا القومية. جاء أسلافنا القوط منذ بضعة قرون، وكانت هذه البلاد في حوزة الرومان، فأخذوا الملك من أيديهم بالقوة وتسلطوا عليها، ولا يخفى عليك أن مذهب أسلافنا الذي جاءوا به إلى البلاد ليس الكاثوليكية مذهب كنيسة رومية، بل هو مذهب الآريوسي نسبة إلى آريوس الشهير، وكان ذلك مذهب معظم قبائل القوط قبل خروجهم على المملكة الرومانية، ففتحنا هذه البلاد وقضينا فيها نحو مائتي سنة ونحن على مذهب آريوس، وأهل البلاد على مذهب كنيسة رومية.
ولا أخفي عنك أن ملوكنا القدماء لم يهتموا بنشر مذهبهم ولم يتبينوا علاقة الدين بالسياسة، ولكن الرومان لم يغفلوا عن اغتنام الفرص لاسترداد سلطانهم بطريق الدين، فجعلوا يدسون أنوفهم في مصالح الدولة رويدا رويدا، ويبثون مذهبهم بين الرعايا بوسائل مختلفة حتى تولى ريكارد المذكور منذ قرن وبعض قرن، فاستولوا على عقله حتى نبذ ديانة أجداده، واعتنق المذهب الكاثوليكي وجعله مذهب المملكة فتم النفوذ لرومية، حتى أصبح مجمع الأساقفة الذي يجتمع في هذه المدينة يدير أمور الملك كما يشاء، وربما أتوا بالأوامر من رومية نفسها، ولا تزال الكاثوليكية ديانة هذه المملكة إلى اليوم، ولم يبق للآريوسية أثر إلا قليلا جدا. ولا ريب عندي أن الذين استبدلوا مذهبهم في أول الأمر إنما استبدلوه موافقة لرأي ريكارد، لا عن اقتناع بالبرهان؛ لأن مذهب آريوس أقرب إلى منطق العقل من سائر مذاهب النصرانية.»
فلما وصل أوباس إلى هنا، أحس بأنه استطرد في الكلام بين يدي ذلك الغلام، وقد تحقق من ذلك مما بدا على وجه ألفونس من دلائل الاستغراب، لما غرس في ذهنه منذ طفولته من ذم الآريوسية، حتى إنه كثيرا ما سمع ذمها من عمه نفسه، وأدرك أوباس ما جال في خاطر ابن أخيه، فاستدرك قائلا: «لا يغرب عن ذهنك يا ولدي أني لا أحبب إليك الآريوسية دون سواها، فإننا لا نفضل مذهبا على مذهبنا الحالي، ولكنني أخاطبك بلغة السياسة لا الدين؛ لأبين لك نتائج الخطأ الذي ارتكبه ريكارد - سامحه الله - لأنه باعتناقه المذهب الكاثوليكي أضاع الجنسية القوطية؛ لأن الدين - يا عزيزي - أثبت الجامعات وأشملها؛ إذ قد يجتمع القوطي والفندالي والروماني واليوناني والسكسوني والعربي وغيرهم في بلد وهم أخلاط، فإذا اعتنقوا مذهبا واحدا ضاعت جنسياتهم الأصلية بتوالي الأزمان وصاروا أمة واحدة.
وهناك جامعة أخرى ربما كانت مثل جامعة المذهب أعني بها جامعة اللغة، فهذه أيضا شاملة، ولكنها في الغالب تابعة للدين. ألا ترى أننا بعد أن اعتنقنا المذهب الكاثوليكي أصبحت اللغة اللاتينية هي الغالبة في كنائسنا ومجالسنا لأنها لغة ذلك المذهب، وأخذت لغتنا القوطية في الانقراض أو الضياع؟ فلو ظللنا على الآريوسية واستبقينا لغتنا وعممناها في الشعب، وحولنا أهل هذه البلاد عن مذهبهم الكاثوليكي إلى مذهبنا الآريوسي لكانت لغتهم لغتنا، ومذهبهم مذهبنا وصاروا من أنصارنا، ولكننا غفلنا عن ذلك فانعكس الأمر، وأصبح أولئك الرومان بعد أن أخرجونا من مذهبنا ولغتنا، يحاولون إخراجنا من سلطتنا بما اكتسبه الأساقفة الرومانيون من النفوذ في أمور الدولة، حتى لا ترى في أوروبا كلها مجمعا دينيا له على حكومة البلاد من النفوذ مثل ما لمجمع طليطلة هذا على حكومة إسبانيا.
Неизвестная страница