فوثبت فلورندا من فراشها وقد تحققت وقوع الخطر الذي كانت تخشاه، ولكنها اعتمدت على الله وثبتت جأشها ودنت من الأيقونة فقبلتها وصلت لله أن يشجعها وينقذها من مخالب الشرير، وطلبت إلى خالتها أن تصلي لها أيضا، ثم التفت بالرداء كما كانت، ومشت وهي تتوسل إلى الله من أعماق قلبها أن ينجيها من هذه التجربة. ولا يرتاح المرء في مثل هذه الحالة إلا بالتوسل إلى القوى العلوية غير المنظورة.
مشت فلورندا كالذاهب إلى القتل، فلا غرو إذا اصطكت ركبتاها وارتعدت مفاصلها، وودت أن تكون تلك الغرفة على مسافة أميال منها. على أنها تشجعت باتكالها على الله، حتى إذا دنت من الغرفة سمعت وقع خطوات، فإذا بالملك قد خرج لاستقبالها عند الباب وهو يبتسم لها ويرحب بها، وقد خيل له أن مجرد ابتسامة تجعلها طوع إرادته، وأنه حينما يظهر ارتياحه لمجالستها تندفع إلى مرضاته.
العفة
أما فلورندا فدخلت الغرفة بخطوات ثابتة، والأنفة والعفة يتسابقان إلى قلبها، والغضب والخوف يتجليان في وجهها، وهو يسير بين يديها حتى جلس على المقعد ودعاها للجلوس إلى جانبه، فقالت فلورندا وأمارات الحشمة والرزانة بادية على محياها: «لا يليق بمثلي أن تجلس في حضرة الملك.»
فقال الملك وهو يضحك: «اجلسي يا فلورندا، فإني لم أدعك إلي لأحملك مشاق التجمل، ولكنني أردت أن ألقاك وأنت في راحة وسعادة، اجلسي.»
قالت فلورندا: «العفو يا مولاي.»
فقطع الملك كلامها وأمسك بيدها وأجلسها، فأحست - لما لمست يدها يده - كأن شيطانا يلمسها، فأجفلت، وجذبت يدها من يده، وجلست وهي تحاذر أن يلمس ثوبها ثوبه، فأحس رودريك باجتذاب يدها، وقد شعر - حين لمس تلك اليد - بعكس ما شعرت هي به، وشق عليه ما بدا من نفورها، ولكنه حمل ذلك منها محمل الحياء فابتسم وقال: «لا ألومك يا فلورندا لما يبدو في وجهك من البغتة لأنك تتهيبين من موقفك بين يدي ملك الإسبان، وهي أول مرة وقفت فيها بين يديه، ولكن اعلمي - يا ملكة الجمال - أني لم آت إليك بنفسي إلا لأدعوك إلى السعادة، ولا أريد أن تخاطبيني كما تخاطبين الملك، بل خاطبيني كما تخاطبين رجلا يحبك ويهواك ويريد أن يجعلك أسعد فتاة في هذا العالم.»
فلما سمعت فلورندا قوله تحققت من قصده، ولكنها أحبت التخلص منه بالحسنى، فوقفت وهي تقول: «حاشا لمثلي أن تكون غير خادمة حقيرة بين يدي ملك الإسبان الذي يتمثل الناس بشدة بطشه ...»
فقطع الملك كلامها وقال: «وماذا يمنع أن تكوني حبيبتي أيضا، بل تكونين مولاتي ومالكة زمامي وزمام مملكتي؟» قال ذلك وقد ثارت عواطفه واحمرت عيناه ورجفت شفتاه، وهو يحاول التلطف في الكلام والإشارات، ولكن الخشونة كانت ما تزال تغلب على لفظه وخلقه.
فقالت فلورندا: «كلا يا مولاي، لا يمكن أن أكون كذلك، وأرى جلالة الملك قد فرط فيما وفق إليه في دنياه، فإن هذا الموقف لا يليق بمثلي.»
Неизвестная страница