بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمن الرَّحِيم
الْحَمد لله وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا مُحَمَّد الْمَوْصُوف بِأَنَّهُ لَا نبيّ بعده، وعَلى آله وَصَحبه ومحبيه وَحزبه. [وَبعد] فَهَذِهِ (الْفَتَاوَى الحديثية) الَّتِي هِيَ ذيل للفتاوى الْفِقْهِيَّة للْإِمَام الأعلم والمقتدى الأفخم إِمَام الْوَقْت فِي الحَدِيث، وحائز قصب الْفضل فِي الْقَدِيم والْحَدِيث، شيخ الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين وبركة الْعلمَاء العاملين (الشَّيْخ أَحْمد شهَاب الدّين بن حجر الهيتمي الْمَكِّيّ) والى الله عَلَيْهِ رَحمته وغفرانه وأجزل عَلَيْهِ إحسانه آمين. أما بعد: فَهَذِهِ خَاتِمَة فِي الْمسَائِل المنثورة الَّتِي لَيْسَ لَهَا تعلق بِبَاب من الْأَبْوَاب السَّابِقَة.
١ - مَسْأَلَة: سُئِلَ نفع الله بِعُلُومِهِ الْمُسلمين، عَن قِرَاءَة ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ مائَة مرّة فَهَل ورد لقِرَاءَة ذَلِك الْقدر ثَوَاب بِخُصُوصِهِ أم لَا؟ فقد علمنَا كَمَا أحَاط بِهِ علم سَيِّدي أَن فضل ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ لَا يخفى على أحد، وَلَكِن مَقْصُود السَّائِل هَل ورد فِي ذَلِك الْقدر حَدِيث بِخُصُوصِهِ؟ فَأجَاب فسح الله فِي مدَّته بقوله: نعم، ورد فِي ذَلِك ثَوَاب بِخُصُوصِهِ مِنْهُ مَا أخرجه ابْن عدي وَالْبَيْهَقِيّ عَن أنس بن مَالك ﵁ عَن رَسُول الله ﷺ أَنه قَالَ: (من قَرَأَ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ مائَة مرّة غفر الله لَهُ خَطِيئَة خمسين عَاما مَا اجْتنب خِصَالًا أَرْبعا: الدِّمَاء، وَالْأَمْوَال، والفروج، والأشربة) . وَمِنْهَا مَا أخرجه الطَّبَرَانِيّ عَن فَيْرُوز عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ: (من قَرَأَ ﴿إِلَه النَّاسِ﴾ مائَة مرّة فِي الصَّلَاة وَغَيرهَا كتب الله لَهُ بَرَاءَة من النَّار) . وَأخرج الْبَيْهَقِيّ عَن أنس مَرْفُوعا: (من قَرَأَ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ فِي يَوْم مائَة مرّة غفر الله لَهُ ذنُوب مِائَتي سنة) . وَابْن عدي وَالْبَيْهَقِيّ عَن أنس مَرْفُوعا أَيْضا (من قَرَأَ فِي يَوْم ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ مِائَتي مرّة كتب الله لَهُ ألفا وَخَمْسمِائة حَسَنَة إِلَّا أَن يكون عَلَيْهِ دين) . وَابْن نصر عَن أنس مَرْفُوعا أَيْضا: (من قَرَأَ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ خمسين مرّة غفر الله لَهُ ذنُوب خمسين سنة) . والخرائطي فِي (فَوَائده) عَن حُذَيْفَة مَرْفُوعا: (من قَرَأَ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ ألف مرّة فقد اشْترى نَفسه من الله) . وَالله سُبْحَانَهُ أعلم بِالصَّوَابِ.
٢ - وسُئل فسح الله فِي مدَّته: مَا حكم علم الأوفاق؟ فَأجَاب نفع الله بِعُلُومِهِ: بِأَن علم الأوفاق يرجع إِلَى مناسبات الْأَعْدَاد وَجعلهَا على شكل مَخْصُوص، وَهَذَا كَأَن يكون بشكل من تسع بيُوت مبلغ الْعدَد من كل جِهَة خَمْسَة عشر، وَهُوَ ينفع للحوائج وَإِخْرَاج المسجون وَوضع الْجَنِين وكل مَا هُوَ من هَذَا الْمَعْنى وضابطه بطد زهج واح، وَكَانَ الْغَزالِيّ ﵀ يعتني بِهِ كثيرا حَتَّى نسب إِلَيْهِ وَلَا مَحْذُور فِيهِ إِن اسْتعْمل لمباح بِخِلَاف مَا إِذا استعين بِهِ على حرَام، وَعَلِيهِ يحمل جعل الْقَرَافِيّ الأوفاق من السحر.
1 / 2
٣ - وسُئل ﵁: مَا حَقِيقَة الرُّؤْيَا؟ فَأجَاب نفع الله بِعُلُومِهِ: بِأَن حَقِيقَة الرُّؤْيَا عِنْد جُمْهُور أهل السّنة خلق الله تَعَالَى فِي قلب النَّائِم أَو حواسه الْأَشْيَاء كَمَا يخلقها فِي الْيَقظَان، وَهُوَ تَعَالَى يفعل مَا يَشَاء لَا يمنعهُ عَنهُ نوم وَلَا غَيره، وَعَلِيهِ رُبمَا يَقع ذَلِك فِي الْيَقَظَة كَمَا رَآهُ فِي الْمَنَام وَرُبمَا جعل مَا رَآهُ علما على أُمُور أخر يخلقها تَعَالَى فِي الْحَال أَو كَانَ قد خلقهَا فَتَقَع تِلْكَ كَمَا جعل الله الْغَيْم عَلامَة على الْمَطَر. وَأما قَول من قَالَ: إِن الرُّؤْيَا خيال بَاطِل وَأَن النّوم يضاد الْإِدْرَاك فَهُوَ بَاطِل لَا يعوّل عَلَيْهِ وَلَا يلْتَفت إِلَيْهِ، كَيفَ وَقد صرحت عَائِشَة ﵂ بِأَن رُؤْيا النبيّ ﷺ وَحي. وَقَالَ ﷺ: (رُؤْيا الْمُؤمن جُزْء من أَرْبَعِينَ جُزْءا من النُّبُوَّة)، وَفِي التَّنْزِيل رُؤْيا يُوسُف وَغَيره، وَلَا يمْنَع من ذَلِك قَول من قَالَ: الْإِدْرَاك حَالَة النّوم خلاف الْعَادة لِأَن الْعَادة لَيست مطردَة فِي ذَلِك، وَلَو سلم لم يلْتَفت إِلَيْهَا مَعَ أَخْبَار الصَّادِق بِخِلَافِهَا.
٤ - وَسُئِلَ أدام الله النَّفْع بِهِ: كم كَانَ طول عِمَامَة النَّبِي ﷺ وعرضها؟ فَأجَاب أعَاد الله علينا من بركاته: أما طول عِمَامَة النَّبِي ﷺ وعرضها فَلم يثبت فيهمَا شَيْء، وَمن ثمَّ قَالَ جمَاعَة من الْحفاظ الجامعين بَين فني الحَدِيث وَغَيره: لم يتحرر لنا فِي ذَلِك شَيْء، وَمن ثمَّ لما سُئِلَ عَنهُ الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ لم يبد فِيهِ شَيْئا. قَالَ بعض الْحفاظ الْمُتَأَخِّرين: وَرَأَيْت من نسب لعَائِشَة ﵂ أَن عمَامَته ﷺ كَانَت فِي السّفر بَيْضَاء وَفِي الْحَضَر سَوْدَاء من صوف، وَكَانَت سَبْعَة أَذْرع فِي عرض ذِرَاع، وَكَانَت العذبة فِي السّفر من غَيرهَا وَفِي الْحَضَر مِنْهَا، وَهَذَا شَيْء مَا علمناه انْتهى. فَتبين أَن هَذَا الْمَنْقُول عَن عَائِشَة لَا أصل لَهُ فَلَا يعوّل عَلَيْهِ وَكَأن ابْن الْحَاج الْمَالِكِي فِي كِتَابه فِي (الْمدْخل) عوّل على ذَلِك حَيْثُ قَالَ فِيهِ: إِن الْعِمَامَة سَبْعَة أَذْرع وَنَحْوهَا مِنْهَا التلخية والعذبة وَالْبَاقِي عِمَامَة على مَا نَقله الإِمَام الطَّبَرِيّ فِي كِتَابه، وَالله أعلم.
٥ - وسُئل ﵁: هَل ملك الْمَوْت يقبض أَرْوَاح الْحَيَوَانَات كلهَا؟ أَو مَا يقبض إِلَّا أَرْوَاح بني آدم فَقَط، وَأَيْنَ مستقرّ الرّوح بعد قبضهَا؟ فَأجَاب أعَاد الله علينا من بَرَكَات علومه: الَّذِي دلّت عَلَيْهِ الْأَحَادِيث أَن ملك الْمَوْت يقبض أَرْوَاح جَمِيع الْحَيَوَانَات من بني آدم وَغَيرهم، من ذَلِك قَوْله مُخَاطبا لنبينا ﷺ: (وَالله يَا مُحَمَّد لَو أَنِّي أردْت أَقبض روح بعوضة مَا قدرت على ذَلِك حَتَّى يكون الله هُوَ الْآمِر بقبضها) قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَفِي هَذَا الْخَبَر مَا يدل على أَن ملك الْمَوْت هُوَ الْمُوكل بِقَبض كل ذِي روح وَأَن تصرفه كُله بِأَمْر الله ﷿ وبخلقه واختراعه، وَمن ذَلِك مَا فِي خبر الْإِسْرَاء عَن ابْن عَبَّاس ﵄ عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ عَن نَفسه: (فَقلت: يَا ملك الْمَوْت كَيفَ تقدر على قبض أَرْوَاح جَمِيع من فِي الأَرْض برّها وبحرها) الحَدِيث. وَذكر أَبُو نعيم عَن ثَابت الْبنانِيّ قَالَ: (اللَّيْل وَالنَّهَار أَربع وَعِشْرُونَ سَاعَة لَيْسَ مِنْهَا سَاعَة تَأتي على ذِي روح إِلَّا وَملك الْمَوْت قَائِم عَلَيْهَا فَإِن أَمر بقبضها قبضهَا وَإِلَّا ذهب) . قَالَ الْقُرْطُبِيّ أَيْضا: وَهَذَا عَام فِي كل ذِي روح وَمن ثمَّ لما سُئل مَالك ﵁ عَن البراغيث أَن ملك الْمَوْت هَل يقبض أرواحها؟ أطرق مَلِيًّا ثمَّ قَالَ: ألها نفس؟ قيل: نعم. قَالَ: ملك الْمَوْت يقبض أرواحها: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الأٌّنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا﴾ [الزمر: ٤٢] وَأَشَارَ مَالك ﵁ بِذكر الْآيَة إِلَى أَن المُرَاد بقوله تَعَالَى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الأٌّنفُسَ﴾ أَنه تَعَالَى: يَأْمر ملك الْمَوْت يتوفاها كَمَا يُصَرح بِهِ قَوْله تَعَالَى: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ . وَلَا يُنَافِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ﴾ [الْأَنْعَام: ٦١] وَقَوله: ﴿يُحْيىِ وَيُمِيتُ﴾ [آل عمرَان: ١٥٦] لِأَن ملك الْمَوْت يقبض الْأَرْوَاح وأعوانه يعالجون وَالله تَعَالَى يزهق الرّوح وَبِهَذَا تَجْتَمِع الْآيَات وَالْأَحَادِيث. وَإِنَّمَا أضيف التوفي لملك الْمَوْت لِأَنَّهُ يَتَوَلَّاهُ بالوسائط والمباشرة فأضيف إِلَيْهِ كَمَا أضيف الْخلق للْملك فِي خبر مُسلم عَن حُذَيْفَة سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول: (إِذا مرّ بالنطفة ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَة بعث الله ملكا فصورّها فخلق سَمعهَا وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها) الحَدِيث. وَأما قَول ابْن عَطِيَّة: روى فِي الحَدِيث أَن الْبَهَائِم كلهَا يتوفى الله أرواحها دون ملك الْمَوْت كَأَنَّهُ يعْدم حَيَاتهَا. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْأَمر فِي بني آدم إِلَّا أَنه شرف بِتَصَرُّف ملك الْمَوْت وَمَلَائِكَته فِي قبض أَرْوَاحهم فخلق الله ملك الْمَوْت وَخلق على يَده قبض الْأَرْوَاح وإسلالها من الْأَجْسَام وإخراجها مِنْهَا، وَخلق حفدة يكونُونَ مَعَه يعْملُونَ عمله بأَمْره انْتهى. فيجاب عَنهُ: بِأَن الحَدِيث الَّذِي ذكره يتَوَقَّف الِاسْتِدْلَال بِهِ على ثُبُوته وعَلى تَسْلِيمه فَيمكن الْجمع بَينه وَبَين مَا مرّ من الْأَحَادِيث بِأَن معنى قَوْله فِي هَذَا الحَدِيث دون ملك الْمَوْت أَنه لَا يعاني فِي قبض أَرْوَاح
1 / 3
غير بني آدم بل غير الْمُؤمنِينَ مِنْهُم من الرِّعَايَة مَا يعانيه فِي قبض أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ، أَو أَن المُرَاد بقوله دون ملك الْمَوْت نفي التوفي عَنهُ حَقِيقَة لما تقرر أَن الموجد حَقِيقَة هُوَ الله تَعَالَى وَأَن ملك الْمَوْت وَاسِطَة فَقَط، فَحَيْثُ أثبت التوفي إِلَيْهِ فِي حَدِيث أَو آيَة كَانَ المُرَاد إِثْبَات تصرفه الْمَأْمُور بِهِ، وَحَيْثُ نفى عَنهُ فِي حَدِيث أَو آيَة كَانَ المُرَاد سلب الْحَقِيقَة لِأَنَّهَا لله وَحده. وَذكر الْغَزالِيّ فِي (الْإِحْيَاء) حَدِيث: (أَن ملك الْمَوْت وَملك الْحَيَاة تناظرا فَقَالَ ملك الْمَوْت: أَنا أميت الْأَحْيَاء وَقَالَ ملك الْحَيَاة: أَنا أحيي الْمَوْتَى، فَأوحى الله إِلَيْهِمَا كونا فِي عملكما وَمَا سخرتما لَهُ من الصنع وَأَنا المميت والمحيي لَا يُمِيت وَلَا يحيي سواي) . وَالْحَاصِل أَن الله ﷾ هُوَ الْقَابِض لأرواح جَمِيع الْخلق بِالْحَقِيقَةِ وَأَن ملك الْمَوْت وأعوانه إِنَّمَا هم وسائط وَكَذَا القَوْل فِي سَائِر الْأَسْبَاب العادية فَإِنَّهَا بإحداث الله وخلقه لَا بِغَيْرِهِ تَعَالَى الله عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ والجاحدون علوًّا كَبِيرا.
وَذكر ابْن رَجَب أَن الْأَنْبِيَاء صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم تكون أَرْوَاحهم فِي أَعلَى عليين، وَيُؤَيِّدهُ قَوْله ﷺ: (اللهمّ الرفيق الْأَعْلَى)، وَأكْثر الْعلمَاء أَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي أَجْوَاف طيور خضر لَهَا قناديل معلقَة بالعرش تسرح فِي الْجنَّة حَيْثُ تشَاء كَمَا فِي مُسلم وَغَيره، وَأما بَقِيَّة الْمُؤمنِينَ فنص الشَّافِعِي ﵁ ورحمه على أَن من لم يبلغ التَّكْلِيف مِنْهُم فِي الْجنَّة حَيْثُ شاؤوا فتأوي إِلَى قناديل معلقَة بالعرش، وَأخرجه ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن مَسْعُود، وَأما أهل التَّكْلِيف ففيهم خلاف كثير: عَن أَحْمد أَنَّهَا فِي الْجنَّة، وَعَن وهب أَنَّهَا فِي دَار يُقَال لَهَا: الْبَيْضَاء فِي السَّمَاء السَّابِعَة، وَعَن مُجَاهِد أَنَّهَا تكون على الْقُبُور سَبْعَة أَيَّام من يَوْم دفن لَا تُفَارِقهُ أَي ثمَّ تُفَارِقهُ بعد ذَلِك، وَلَا يُنَافِيهِ سنية السَّلَام على الْقُبُور لِأَنَّهُ لَا يدلّ على اسْتِقْرَار الْأَرْوَاح على أفنيتها دَائِما لِأَنَّهُ يسلم على قُبُور الْأَنْبِيَاء وَالشُّهَدَاء وأرواحهم فِي أَعلَى عليين وَلَكِن لَهَا مَعَ ذَلِك اتِّصَال سريع بِالْبدنِ لَا يعلم كنهه إِلَّا الله تَعَالَى. وَأخرج ابْن أبي الدُّنْيَا عَن مَالك: (بَلغنِي أَن الْأَرْوَاح مُرْسلَة تذْهب حَيْثُ شَاءَت) . وَعَن ابْن عمر ﵄ نَحوه. وَحَدِيث: (مَا من أحد يمر بِقَبْر أَخِيه الْمُؤمن كَانَ يعرفهُ فِي الدُّنْيَا فَيسلم عَلَيْهِ إِلَّا عرفه وردّ ﵇ وَحَدِيث: (الجريدتين) لَا يدلان على أَن الرّوح على الْقَبْر نَظِير مَا مر لِأَن الَّذِي دلّ عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ حَقِيقَته النفسانية الْمُتَّصِلَة بِالروحِ، وَقيل: إِنَّهَا تزور قبورها يَعْنِي على الدَّوَام وَلذَا سنّ زِيَارَة الْقُبُور لَيْلَة الْجُمُعَة ويومها وبكرة السبت انْتهى. وَرجح ابْن عبد البرّ: أَن أَرْوَاح غير الشُّهَدَاء فِي أفنية الْقُبُور تسرح حَيْثُ شَاءَت. وَقَالَت فرقة: تَجْتَمِع الْأَرْوَاح بِموضع من الأَرْض. كَمَا رُوِيَ عَن ابْن عمر قَالَ: أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ تَجْتَمِع بالجابية وَأما أَرْوَاح الْكفَّار فتجتمع بسبْخة حَضرمَوْت يُقَال لَهَا برهوت وَلذَا ورد: (أبْغض بقْعَة فِي الأَرْض وَاد بحضرموت يُقَال لَهُ برهوت فِيهِ أَرْوَاح الْكفَّار) وَفِيه بِئْر مَاء يرى بِالنَّهَارِ أسود كَأَنَّهُ قيح يأوي إِلَيْهَا بِالنَّهَارِ الْهَوَام. قَالَ سُفْيَان: وَسَأَلنَا الحضرميين فَقَالُوا: لَا يَسْتَطِيع أحد أَن يثبت فِيهِ بِاللَّيْلِ، وَالله سُبْحَانَهُ أعلم.
٦ - وَسُئِلَ: متع الله بحياته، مَاتَ شخص ثمَّ أَحْيَاهُ الله تَعَالَى مَا الحكم فِي تركته وزوجاته؟ . فَأجَاب نفع الله بِعُلُومِهِ وبركته: إِذا مَاتَ ثمَّ أحيى فَإِن تَيَقّن مَوته بِنَحْوِ خبر مَعْصُوم لم يكن لِحَيَاتِهِ أثر لِأَنَّهَا وَقعت خارقة للْعَادَة، وَمَا وَقع كَذَلِك لَا يُدار عَلَيْهِ حكم على أنّ من هُوَ كَذَلِك لَا يعِيش غَالِبا كَمَا وَقع لمن أحيى على يَد عِيسَى، على نَبينَا وَعَلِيهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَإِذا تقرر أَنه لَا أثر لِحَيَاتِهِ، فتُنكح زَوْجَاته وتَقْسم ورثتُهُ مَاله، وَإِن ثَبت فِيهِ الْحَيَاة، لِأَن الْمَوْت سَبَب وضَعَه الشارعُ لحلِّ الْأَمْوَال، والزوجات، فَحَيْثُ وجد ذَلِك السَّبَب وُجِد الْمُسَبّب، وَأما الْحَيَاة بعده فَلم يَجْعَلهَا الشَّارِع سَببا لعود ذَلِك الحِّل، فَلَا يجوز لنا أَن ندير عَلَيْهَا حينئذٍ حُكمًا، لِأَن ذَلِك تشريع لما لم يرد هُوَ وَلَا نَظِيره، بل وَلَا مَا يُقاربه وتشريع مَا هُوَ كَذَلِك مُمْتَنع بِلَا شكّ. فَإِن قلت: يُنَافِي بعض مَا تقرر مَا ذكره الْمُفَسِّرُونَ فِي قصَّة قَوْله تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ [الْبَقَرَة: ٢٤٣] . قلتُ: لَا مُنَافَاة لِأَن أَكثر مَا ذكره الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِه الْقِصَّة ونظيرها لم يَصح فِيهِ عَن النَّبِي ﷺ شَيْء، وَإِنَّمَا يعتمدون فِي ذَلِك على نَحْو أَخْبَار إسرائيلية لَا تقوم بهَا حُجَّة عِنْد النزاع، وعَلى تَسْلِيم مَا ذَكرُوهُ فَأُولَئِك كَانُوا فِي زمنِ شَرْع قَبْل شَرْعِنَا فَلَا يُعوَّل على مَا وَقع لَهُم، لِأَن الصَّحِيح أَن شَرْعَ مَنْ قبلنَا لَيْسَ شرعا لنا، وَإِن ورد فِي شرعنا مَا يُوافقه فَكيف بِمَا ذكر، وَقد علم من قَوَاعِد شرعنا كَمَا قَرّرته أَنه لَا عِبْرة بِالْحَيَاةِ بعد الْمَوْت الْمُتَيَقن،
1 / 4
وَإِن لم يتَيَقَّن مَوته حَكمنَا بِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ بِهِ غَشِي أَو نَحوه، وَبَان لنا بَقَاء زَوْجَاته فِي عصمته وأمواله فِي ملكه، وَهَذَا التَّفْصِيل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة ظَاهر جلي وَإِن لم أر من صرح بِهِ، وَالله أعلم.
٧ - وسُئل ﵁: هَل خُلُود الْمُؤمنِينَ فِي الْجنَّة على هَذَا التَّرْكِيب أَعنِي من الْعظم وَاللَّحم وَغَيرهمَا وخلود الْكَافرين فِي النَّار على صورهم فِي الدُّنْيَا أَو لَا؟ وَهل يجب الغُسل فِي الْجنَّة كَمَا يجب فِي الدُّنْيَا بِوَطْء الزَّوْجَات؟ وَهل الْمَلَائِكَة يتمتعون فِي الْجنَّة وَبِمَ يتمتعون؟ وَهل مُنْكر وَنَكِير يسألان كلَّ ميت صَغِيرا وكبيرًا وَمُسلمًا وكافرًا ومقبُورًا وَغير مقبور؟ وَهل يسألان كل أحد بِلِسَانِهِ مَا كَانَت عَرَبِيَّة أَو غَيرهَا؟ وَهل مُنكر بِفَتْح الْكَاف أَو كسرهَا؟ وَهل هما اللَّذَان يسألان الْمُؤمن أَو غَيرهمَا؟ فَأجَاب فسح الله فِي مدَّته ونفعنا بِعُلُومِهِ وبركته: الَّذِي دلّت عليهِ الْأَحَادِيث أَن خُلُود الْمُؤمنِينَ فِي الْجنَّة والكافرين فِي النَّار على نَحْو صورهم فِي الدُّنْيَا الْمُشْتَملَة على نَحْو الْعظم وَاللَّحم، وَصَحَّ أَنه ﷺ قَالَ: (أَيهَا النَّاس إِنَّكُم تحشرون إِلَى الله حُفَاة عُراة غرلًا) قَالَ الْأَئِمَّة: قَوْله (غُرلًا) أَي غير مختونين ترد إِلَيْهِ الْجلْدَة الَّتِي قطعت بالختان، وَكَذَلِكَ يُرد إِلَيْهِ كلُّ مَا فَارقه فِي الْحَيَاة كالشعر وَالظفر ليذوق نعيم الثَّوَاب وأليم الْعقَاب وَالْعَذَاب، فأفْهَم ذَلِك أنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاء جَمِيعهَا تكون مَعَ الْإِنْسَان الْمُؤمن فِي الْجنَّة، وَغَيره فِي النَّار حَتَّى تذوق النَّعيم وَالْعَذَاب، وَمِمَّا يدل لذَلِك مَا أخرجه ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق جرير عَن ابْن عَبَّاس ﵄ قَالَ فِي حق الْكَافِر: (السلسلة تدخل من استه ثمَّ تخرج من فِيهِ ينظمون فِيهَا كَمَا ينظم الْجَرَاد فِي الْعود ثمَّ يشوى) وَأخرج الْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عَبَّاس ﵄ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿فَيُؤْخَذُ بِ النَّوَاصِى وَالأٌّقْدَامِ﴾ [الرَّحِمان: ٤١] قَالَ: (يجمع بَين رَأسه وَرجلَيْهِ ثمَّ يقصف كَمَا يقصف الْعود الْحَطب) وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ عَن أبي صَالح قَالَ: (إِذا ألقِي الرجل فِي النَّار لم يكن لَهُ مُنْتَهى حَتَّى يبلغ قعرها ثمَّ تجيش بِهِ جَهَنَّم فترفعه إِلَى أَعلَى جَهَنَّم وَمَا على عِظَامه مَزْعة لحم فتضربه الْمَلَائِكَة بالمقامع، فَيهْوِي فِي قعرها فَلَا يزَال كَذَلِك) . وَأخرج الشَّيْخَانِ عَن أبي هُرَيْرَة ﵁ رَفعه (مَا بَين مِنْكبي الْكَافِر مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام للراكب المسرع) وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ بِلَفْظ (خَمْسَة) . وَأخرج مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي ﷺ: (ضِرْس الْكَافِر مثل أحد وغِلظ جلْده مسيرَة ثَلَاث) . وَأخرج التِّرْمِذِيّ وَالْبَيْهَقِيّ (أَن مَقْعَده من جَهَنَّم مَا بَين مَكَّة وَالْمَدينَة) . وَأخرج أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ وَالْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عمر ﵄ عَن النَّبِي ﷺ قَالَ: (يعظم أهل النَّار فِي النَّار حَتَّى أَن بَين شحمة أذن أحدهم إِلَى عَاتِقه مسيرَة سَبْعمِائة عَام، وَإِن غلظ جلده سَبْعُونَ ذِرَاعا، وَإِن ضرسه مثل أحد) . وَفِي رِوَايَة عِنْد التِّرْمِذِيّ وَغَيره (أَنه ليجر لِسَانه الفرسخ والفرسخين يَوْم الْقِيَامَة فيطؤه النَّاس) . وَأخرج الطَّبَرَانِيّ وَأَبُو نعيم مَرْفُوعا (إِن جَهَنَّم لما سيق إِلَيْهَا أَهلهَا تلقتهم بعُنْف فلفحتهمْ لفحة فَمَا أَلْقَت لَحْمًا على عظم إِلَّا ألقته على العُرقوب) .
وَأخرج الشَّيْخَانِ عَن أبي هُرَيْرَة ﵁ قَالَ رَسُول الله ﷺ: (كل من يدْخل الْجنَّة على صُورَة آدم وَطوله سِتُّونَ ذِرَاعا) . وَأخرج الطَّبَرَانِيّ وَابْن أبي الدُّنْيَا بِسَنَد حسن عَن أبي هُرَيْرَة ﵁ قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﷺ: (يدْخل أهل الْجنَّة الْجنَّة جُرْدًا مُرْدًا بيضًا مُكَحَّلِينَ أَبنَاء ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وهم على خلق آدم طوله سِتُّونَ ذِرَاعا فِي عرض سَبْعَة أَذْرع) . وَفِي رِوَايَة لِلتِّرْمِذِي وَغَيره (من مَاتَ من أهل الدُّنْيَا من صَغِير أَو كَبِير يردون أَبنَاء ثَلَاث وَثَلَاثِينَ سنة فِي الْجنَّة لَا يزِيدُونَ عَلَيْهَا أبدا وَكَذَلِكَ أهل النَّار)، وَفِي رِوَايَة عِنْد ابْن أبي الدُّنْيَا، (على طول آدم سِتُّونَ ذِرَاعا بِذِرَاع الْملك، وعَلى حُسن يُوسُف، وعَلى مِيلَاد عِيسَى ثَلَاث وَثَلَاثِينَ، وعَلى لِسَان مُحَمَّد جردا مردا مُكَحَّلِينَ) . وَاعْلَم أَن أهل السّنة أَجمعُوا على أَن الأجساد تُعَاد كَمَا كَانَت فِي الدُّنْيَا بِأَعْيَانِهَا وألوانها وأعراضها وأوصافها، وَلَا يُنَافِي ذَلِك مَا فِي بعض طرق حَدِيث الصُّور الطَّوِيل: (يخرجُون مِنْهَا شبَابًا أَبنَاء ثَلَاث وَثَلَاثِينَ سنة) لِأَن هَذَا من حَيْثُ السن فهم مستوون فِيهِ نعم روى ابْن أبي حَاتِم مَا يُؤَيّدهُ عَن خَالِد بن معدان قَالَ: (إِن سقط الْمَرْأَة يكون فِي نهر من أَنهَار الْجنَّة يتقلب فِيهِ حَتَّى تقوم السَّاعَة فيبعث ابْن أَرْبَعِينَ سنة)، وَالَّذِي دلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن أَن الطِّفْل والسقط يحشران على قدر عمرهما وحينئذٍ فهما مستثنيان من الحَدِيث الأول أَعنِي قَوْله: (كلهم أَبنَاء ثَلَاث وَثَلَاثِينَ) هَذَا كُله إِن صَحَّ الحَدِيث وَإِلَّا فقضية كَلَامهم أَن النَّاس فِي الْمَحْشَر على تفَاوت صفاتهم فِي الدُّنْيَا حَتَّى فِي الْأَسْنَان، وَإِنَّمَا يَقع
1 / 5
التبديل عِنْد دُخُول الْجنَّة، وَقد قَالَ بعض الْمُحَقِّقين والحفاظ: وَالصَّحِيح بل الصَّوَاب أَن الَّذِي يُعِيدهُ الله هُوَ الأجساد الأولى لَا غَيرهَا، وَمن قَالَ غير ذَلِك فقد أَخطَأ عِنْدِي لمُخَالفَته ظَاهر الْقُرْآن والْحَدِيث، والعينان فِي الْوَجْه كَمَا كَانَتَا فِي الدُّنْيَا، وَورد أَنَّهُمَا فِي الرَّأْس وَلَكِن ظَاهر جَوَابه ﷺ لأم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة ﵂ حَيْثُ استعظمت كشف العورات (بِأَن لكل امرىء مِنْهُم يومئذٍ شَأْنًا يُغْنِيه عَن النّظر إِلَى غَيره) فَفِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن الْعَينَيْنِ فِي الْوَجْه وَالنَّاس فِي الْموقف يكون كل مِنْهُم على طوله الَّذِي مَاتَ عَلَيْهِ ثمَّ عِنْد دُخُول الْجنَّة يصيرون طولا وَاحِدًا. فَفِي الصَّحِيح (يبْعَث كل عبد على مَا كَانَ عَلَيْهِ) وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح فِي صِفَات الْجنَّة مَا ذكرته ويبعثون بشعورهم ثمَّ يدْخلُونَ الْجنَّة جردا مردا كَمَا ثَبت فِي الحَدِيث الصَّحِيح انْتهى. قَالَ الْقُرْطُبِيّ ﵀: يكون الآدميون فِي الْجنَّة على سنّ وَاحِد وَأما الْحور فأصناف مصنفة صغَار وكبار على مَا اشتهت أنفس أهل الْجنَّة. وَأخرج أَبُو الشَّيْخ فِي (العظمة) وَابْن عَسَاكِر عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ: (لَيْسَ أحد يدْخل الْجنَّة إِلَّا أجرد أَمْرَد إِلَّا مُوسَى بن عمرَان ﵊ فَإِن لحيته تبلغ سرته فِي الْجنَّة غير آدم يكنى فِيهَا بِأبي مُحَمَّد) وَفِي رِوَايَة: (لَيْسَ أحد فِي الْجنَّة لَهُ لحية إِلَّا آدم ﵇ لَهُ لحية سَوْدَاء إِلَى سُرَّته) وَذَلِكَ أَنه لم يكن لَهُ لحية فِي الدُّنْيَا وَإِنَّمَا كَانَت اللحا بعد آدم ﵊ . وَلَيْسَت الْجنَّة دَار تَكْلِيف فَلَا يجب فِيهَا غُسل وَلَا غَيره، بِخِلَاف الدُّنْيَا فَلَا تقاس تِلْكَ الدَّار بِهَذِهِ الدَّار، وَأخرج الطَّبَرَانِيّ عَن زيد بن أَرقم ﵁ أَن النَّبِي ﷺ قَالَ أَي فِي أهل الْجنَّة: (إِن الْبَوْل والجنابة عرق يسيل من تَحت جوانبهم إِلَى أَقْدَامهم مسك) . وَأخرج أَيْضا الْأَصْفَهَانِي عَن أبي الدَّرْدَاء قَالَ: (لَيْسَ فِي الْجنَّة لَا مني وَلَا منية) أَي وَلَا موت. وَأخرج أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة ﵁ عَن رَسُول الله ﷺ أَنه قَالَ لَهُ: (أنطأ فِي الْجنَّة؟ قَالَ: نعم، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ دحمًا دحمًا فَإِذا قَامَ عَنْهَا رجعت مطهرة بكرا) . وَفِي رِوَايَة عِنْد أبي يعلى وَالطَّبَرَانِيّ وَالْبَيْهَقِيّ أَن رجلا سَأَلَ النَّبِي ﷺ هَل يتناكح أهل الْجنَّة؟ فَقَالَ: (دحامًا دحامًا لَا منيّ وَلَا منية) . وَفِي رِوَايَة لِلتِّرْمِذِي وَغَيره: (يعْطى الْمُؤمن فِي الْجنَّة قوّة مائَة) يَعْنِي فِي الْجِمَاع وَفِي رِوَايَة: (أَن الرجل ليصل فِي الْغَدَاة الْوَاحِدَة إِلَى مائَة عذراء) . وَفِي رِوَايَة عِنْد عبد الله بن أَحْمد رحمهمَا الله: (أَن الْمُؤمن كلما أَرَادَ زَوجته وجدهَا عذراء) .
وَأخرج التِّرْمِذِيّ وَحسنه عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ ﵁ أَنه ﷺ قَالَ: (الْمُؤمن إِذا اشْتهى الْوَلَد فِي الْجنَّة كَانَ حملُه وَوَضعه فِي سَاعَة كَمَا يَشْتَهِي) وَحكى التِّرْمِذِيّ اخْتِلَاف أهل الْعلم فِي هَذَا، وَحكي عَن طَاوس وَمُجاهد وَالنَّخَعِيّ (أَن فِي الْجنَّة جماعًا وَلَا ولد) قَالَ: وَقَالَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم فِي هَذَا الحَدِيث إِذا اشْتهى وَلَكِن لَا يَشْتَهِي، وَكَذَا رُوِيَ فِي حَدِيث لَقِيط إِن أهل الْجنَّة لَا يكون لَهُم ولد انْتهى، وَقَالَ جمع: بل فِيهَا الْوَلَد إِذا اشتهاه الْإِنْسَان، ورجَّحه الْأُسْتَاذ أَبُو سهل الصُعلوكي، وَيُؤَيِّدهُ أَن أول حَدِيث أبي سعيد عِنْد هناد فِي الزّهْد (قُلْنَا: يَا رَسُول الله إِن الْوَلَد من قرَّة الْعين وَتَمام السرُور، فَهَل يُولد لأهل الْجنَّة؟ قَالَ: قَالَ إِذا اشْتهى إِلَخ) . وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ مَرْفُوعا بِلَفْظ (إِن الرجل يَشْتَهِي الْوَلَد فِي الْجنَّة فَيكون حمله ورضاعه وشبابه فِي سَاعَة وَاحِدَة) وَلَا يُنَافِيهِ لَفظه السَّابِق فِيهِ (غير أَن لَا توالد) لِأَن الْمَنْفِيّ ترَتّب الْولادَة على الْجِمَاع غَالِبا كَمَا هُوَ فِي الدُّنْيَا، والمُثْبت هُنَا حُصُول الْوَلَد عِنْد اشتهائه كَمَا يحصل الزَّرْع عِنْد اشتهائه، وَلَا زرع فِي الْجنَّة فِي سَائِر الْأَوْقَات وَقد ثَبت أَن الله يُنشىء خلقا للجنة يُسكِنهم فضاءها، وَلَا مَانع حينئذٍ من إنْشَاء ولد من أَهلهَا. وَالَّذِي دلّت عَلَيْهِ الْآيَات القرآنية وَالْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة أَن بعض الْمَلَائِكَة فِي الْجنَّة وَبَعْضهمْ فِي النَّار وَمن فِي النَّار لَا يحسُّ بألمها وَكلهمْ يتنعمون بِمَا يفاض عَلَيْهِم من قبل الْحق جلّ وَعلا.
وَمن ذَلِك رُؤْيَتهمْ لَهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا نعيم فَوق ذَلِك، وَأما مَا وَقع فِي كَلَام بعض الْأَئِمَّة من أَن رُؤْيَة الله خَاصَّة بِمُؤْمِن الْبشر، وَأَن الْمَلَائِكَة لَا يرونه وَاحْتج لَهُ بقوله تَعَالَى: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأٌّبْصَارُ﴾ [الْأَنْعَام: ١٠٣] فَإِنَّهُ عَام خص بِالْآيَةِ وَالْأَحَادِيث فِي الْمُؤمنِينَ فَبَقيَ على عُمُومه فِي الْمَلَائِكَة فَهُوَ مَرْدُود. وَمِمَّنْ نصَّ على خِلَافه الإِمَام الْبَيْهَقِيّ فَقَالَ فِي كتاب الرُّؤْيَة: بَاب مَا جَاءَ فِي رُؤْيَة الْمَلَائِكَة رَبهم. ثمَّ أخرج عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ ﵄ قَالَ: (خلق الله الْمَلَائِكَة لعبادته أصنافًا وَإِن مِنْهُم مَلَائِكَة قيَاما صافين من يَوْم خلقهمْ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وملائكة رُكُوعًا خشوعًا من يَوْم خلقهمْ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وملائكة سجودًا من يَوْم خلقهمْ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة تجلَّى لَهُم ﵎ ونظروا
1 / 6
إِلَى وَجهه الْكَرِيم، قَالُوا: سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْناك حقَّ عبادتك) . ثمَّ أخرج الْبَيْهَقِيّ من وَجه آخر عَن عدي بن أَرْطَاة عَن رجل من الصَّحَابَة ﵃ أَن النَّبِي ﷺ قَالَ: (إِن لله مَلَائِكَة تُرْعد فرائصهُم من مخافته مَا مِنْهُم ملك تقطر دمعة من عينه إِلَّا وَقعت ملكا يسبّح الله، وملائكة سجودًا لله مُنْذُ خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض لم يرفعوا رؤوسهم وَلَا يرفعونها إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وصفوفًا لَا يَنْصَرِفُونَ عَن مَصَافهمْ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة تجلى لَهُم رَبهم فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ قَالُوا: سُبْحانك مَا عَبَدناك كَمَا يَنْبَغِي لَك) .
وسؤال الْملكَيْنِ يعم كل ميت وَلَو جَنِينا وَغير مقبور كحريق وغريق وأكيل سبع كَمَا جزم بِهِ جمَاعَة من الْأَئِمَّة، وَقَول بَعضهم يسألان المقبور إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ التبرُّك بِلَفْظ الْخَبَر، نعم، قَالَ بعض الْحفاظ والمحققين: الَّذِي يظْهر اخْتِصَاص السُّؤَال بِمن يكون لَهُ تَكْلِيف وَبِه جزم غير وَاحِد من أَئِمَّتنَا الشَّافِعِيَّة وَمن ثمَّ لم يستحبوا تلقينه، وَمن ثمَّ خَالف فِي ذَلِك الْقُرْطُبِيّ وَغَيره فجزموا بِأَن الطِفْل يسْأَل وَلَا يُسْأل الشَّهِيد كَمَا صحت بِهِ الْأَحَادِيث وَألْحق بِهِ من مَاتَ مرابطًا لظَاهِر حَدِيث رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَهُوَ: (كل ميت يُخْتَّمُ على عَمَله إِلَّا الَّذِي مَاتَ مرابطًا فِي سَبِيل الله، فَإِنَّهُ يَنْمُو لَهُ عمله إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَيؤمَّن من فتَّاني الْقَبْر) وَألْحق الْقُرْطُبِيّ بالشهيد شَهِيد الْآخِرَة فَقَط وَالصديق لِأَنَّهُ أَعلَى مرتبَة من الشَّهِيد، وَمِنْه يُؤْخَذ انْتِفَاء السُّؤَال فِي حَقه ﷺ وَفِي حق سَائِر الْأَنْبِيَاء، وَبحث بعض الْمُحَقِّقين والحفاظ أَن الْملك لَا يسْأَل لِأَن السُّؤَال يخْتَص بِمن شَأْنه أَن يفتن، وَفِي حَدِيث حسنه التِّرْمِذِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَضَعفه الطَّحَاوِيّ (من مَاتَ لليلة الْجُمُعَة أَو يَوْمهَا لم يُسْأل) ووردت أَخْبَار بِنَحْوِهِ فِيمَن يقْرَأ كل لَيْلَة سُورَة تبَارك وَفِي بَعْضهَا ضم سُورَة السَّجْدَة إِلَيْهَا، وَجزم التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم بِأَن الْمُعْلن بِكُفْرِهِ لَا يسْأَل وَوَافَقَهُ ابْن عبد الْبر وَرَوَاهُ بعض كبار التَّابِعين لَكِن خَالفه الْقُرْطُبِيّ وَابْن الْقيم، واستدلاله بِآيَة: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُواْ بِ الْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾ [إِبْرَاهِيم: ٢٧] وَبِحَدِيث البُخَارِيّ (وَأما الْكَافِر وَالْمُنَافِق) بِالْوَاو وَرجحه شيخ الْإِسْلَام ابْن حجر بِأَن الْأَحَادِيث متفقة على ذَلِك وَهِي مَرْفُوعَة مَعَ كَثْرَة طرقها الصَّحِيحَة.
وَجزم التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم وَابْن عبد الْبر أَيْضا بِأَن السُّؤَال من خَواص هَذِه الْأمة لحَدِيث مُسلم: (إِن هَذِه الْأمة تُبْتلى فِي قبُورها) وَخَالَفَهُمَا جمَاعَة مِنْهُم ابْن الْقيم وَقَالَ: لَيْسَ فِي الْأَحَادِيث مَا يَنْفِي السُّؤَال عَمَّن تقدم من الْأُمَم، وَإِنَّمَا أخبر النَّبِي ﷺ أمته بكيفية امتحانهم فِي الْقُبُور، لَا أَنه نفى ذَلِك عَن ذَلِك وَتوقف آخَرُونَ وللتوقف وَجه لِأَن قَوْله: (إنَّ هَذِه الْأمة) فِيهِ تَخْصِيص، فتعدية السُّؤَال لغَيرهم تحْتَاج إِلَى دَلِيل، وعَلى تَسْلِيم اخْتِصَاصه بهم، فَهُوَ لزِيَادَة درجاتهم ولخفَّة أهوال الْمَحْشَر عَلَيْهِم فَفِيهِ رفق بهم، وَأكْثر من غَيرهم، لِأَن المِحَنَ إِذا فُرِّقَت هان أمرهَا، بِخِلَاف مَا إِذا توالت فتفريقها لهَذِهِ الْأمة عِنْد الْمَوْت، وَفِي الْقُبُور، والمحشر، دَلِيل ظَاهر على تَمام عناية ربِّهم بهم أَكثر من غَيرهم، وَكَانَ اختصاصهم بالسؤال فِي الْقَبْر من التخفيفات الَّتِي اختصوا بهَا عَن غَيرهم لما تقرَّر فَتَأمل ذَلِك، وَمُقْتَضى أَحَادِيث سُؤال الْملكَيْنِ أَن الْمُؤمن وَلَو فَاسِقًا يجيبهما كالعدل وَلَكِن بشارته تحْتَمل أَن تكون بِحَسب حَاله وَيُوَافِقهُ قَول ابْن يُونُس اسمهما على المذنب مُنكر: أَي بِفَتْح الْكَاف. وَأما على الْمُطِيع: مُبشر وَبشير.
قَالَ بعض الْمُتَأَخِّرين: وَلم نقف لَهُ على أصل، وَمُقْتَضى الْأَحَادِيث اسْتِوَاء سَائِر النَّاس فِي اسمهما وَهُوَ مُنكر وَنَكِير كَمَا فِي حَدِيث عِنْد التِّرْمِذِيّ وَقَالَ حسن غَرِيب مُنكر بِفَتْح الْكَاف اتِّفَاقًا. وَفِي مُرْسل ضَعِيف زِيَادَة اثْنَيْنِ آخَرين وهما (ناكور ورومان، فَعَلَيهِ تكون الْمَلَائِكَة الَّذين يسْأَلُون أَرْبَعَة وَفِي صفتهما الْآتِيَة إِذْ فِي حَدِيث ابْن حبَان وَالتِّرْمِذِيّ يَأْتِيهِ (ملكان أسْوَدان أزْرقان) . زَاد الطَّبَرَانِيّ (أعينهما مِثْلُ قدور النُحاس، وأنيابهُما مثل صَياصِّي الْبَقر وأصواتِهِمَا مثل الرَعْد) . وَنَحْوه لعبد الرَّزَّاق من مُسْند عَمْرو بن دِينَار وَزَاد (يحفران بأنيابهما ويطآن فِي أشعارهما مَعَهُمَا مُزربَّة لَو اجْتمع عَلَيْهَا أهلِ منى لم يَحْمِلوها) .
وَبِمَا تقرر علم أَن مُنْكرا أَو نكيرًا هما اللَّذَان يسألان الْمُؤمن وَغَيره، وَظَاهر أَحَادِيث سؤالهما أَنَّهُمَا يسألان كل أحد بِالْعَرَبِيَّةِ. وَفِي بعض طرق حَدِيث الصُّور الطَّوِيل عِنْد عَليّ بن معبد: تخرجُونَ مِنْهَا شُبَّانًا كلكُمْ أَبنَاء ثَلَاث وَثَلَاثِينَ، وَاللِّسَان يومئذٍ بالسُّرْيَانيَّة سرَاعًا إِلَى رَبهم يَنْسلونَ، فَإِن أُرِيد بيومئذٍ اخْتِصَاص تكلمهم بالسُّرْيَانيَّة بِيَوْم النفخ لم يناف مَا مر وَإِن أُرِيد بيومئذٍ وَقت كَونهم فِي الصُّور نافاه. وَالْحَاصِل الْأَخْذ بِظَاهِر الْأَحَادِيث هُوَ أَن
1 / 7
السؤل لسَائِر النَّاس بِالْعَرَبِيَّةِ نَظِير مَا مر أَنه لِسَان أهل الْجنَّة إِلَّا إِن ثَبت خلاف ذَلِك وَلَا يستبعد تكلم غير الْعَرَبِيّ بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَن ذَلِك الْوَقْت وَقت تخرق فِيهِ الْعَادَات وَمن ثمَّ ذكر الْقُرْطُبِيّ وَالْغَزالِيّ عَن ابْن مَسْعُود ﵁ أَنه قَالَ: (يَا رَسُول الله مَا أوّل مَا يلقى الْمَيِّت إِذا دخل قَبره قَالَ يَا ابْن مَسْعُود مَا سَأَلَني عَنهُ إِلَّا أَنْت فَأول مَا يَأْتِيهِ ملك اسْمه رُومَان يجوس خلال الْمَقَابِر فَيَقُول يَا عبد الله اكْتُبْ عَمَلك فَيَقُول مَا معي دَوَاة وَلَا قرطاس فَيَقُول هَيْهَات كفنك قرطاسك ومدادك ريقك وقلمك أصبعك فَيقطع لَهُ قِطْعَة من كَفنه ثمَّ يَجْعَل العَبْد يكْتب وَإِن كَانَ غير كَاتب فِي الدُّنْيَا فيذكر حَسَنَاته وسيئاته كَيَوْم وَاحِد) الحَدِيث بِطُولِهِ، ثمَّ رَأَيْت شيخ الْإِسْلَام صَالحا البُلْقِينِيّ أفتى بِأَن السُّؤَال فِي الْقَبْر بالسرياني لكل ميت، وَلَعَلَّه أَخذه من الحَدِيث الَّذِي ذكرته لكنك قد علمت مِمَّا قَرّرته فِيهِ أَنه لَا دلَالَة فِي الحَدِيث، وَمن ثمَّ قَالَ تِلْمِيذه الْجلَال السُّيُوطِيّ لم أر ذَلِك لغيره، وَالله ﷾ أعلم بِالصَّوَابِ. ٨ وسُئل ﵁: مَا حكم علم الأوْفاق؟ فَأجَاب فسح الله فِي مدَّته: علم الأوفاق لَا مَحْذُور فِيهِ إِن اسْتعْمل لمباح، فقد نقل عَن الْغَزالِيّ وَغَيره الاعتناء بِهِ، وَكَذَلِكَ حكى لي عَن شَيخنَا شيخ الْإِسْلَام زَكَرِيَّا الْأنْصَارِيّ سقى الله عَهده أَنه كَانَ يُحسنه وَأَن لَهُ فِيهِ مؤلفًا نفيسًا أما إِذا استعين بِهِ على حرَام فَإِنَّهُ يكون حَرَامًا إِذْ للوسائل حكم الْمَقَاصِد؛ وَالله ﷾ أعلم بِالصَّوَابِ.
٩ - وسُئل نفع الله بِعُلُومِهِ وبركته: فِي رجل قَالَ الْفَاتِحَة زِيَادَة فِي شرف النبيّ ﷺ، فَقَالَ لَهُ رجل من أهل الْعلم: لَا تعد إِلَى هَذَا الَّذِي صدر مِنْك تكفر فَهَل الْأَمر كَذَلِك؟ وَهل يجوز هَذَا الْإِنْكَار وَالْحكم على الْقَائِل بالْكفْر وَمَا يلْزم الْمُنكر؟ فَأجَاب متع الله بحياته بقوله: لم يُصب هَذَا الْمُنكر فِي إِنْكَاره ذَلِك، وَهُوَ دَال على قِلَة عِلْمه وَسُوء فَهمه بل وعَلى قَبِيح مجازفته فِي دين الله تَعَالَى وتهورُّه بِمَا قد يَئُول بِهِ إِلَى الْكفْر وَالْعِيَاذ بِاللَّه إذْ من كفرَّ مُسلما بِغَيْر مُوجب لذَلِك كفر، على تَفْصِيل ذكره الْأَئِمَّة ﵃، فإنكاره هَذَا إِمَّا حرَام أَو كفر فالتحريم مُحَقّق وَالْكفْر مَشْكُوك فِيهِ إِذْ لم يتَحَقَّق شَرطه فعلى حَاكم الشَّرِيعَة المطهرة أَن يُبَالغ فِي زجر هَذَا الْمُنكر بتعزيره بِمَا يَلِيق بِهِ فِي عظم جراءته على الشَّرِيعَة المطهرة وَكذبه عَلَيْهَا بِمَا لم يقلهُ أحد من أَهلهَا بل صرّح بعض أَئِمَّتنَا بِخِلَافِهِ بل الْكتاب وَالسّنة دالان على أَن طلب الزِّيَادَة لَهُ ﷺ أَمر مَطْلُوب مَحْمُود قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤] . وروى مُسلم أَنه ﷺ كَانَ يَقُول فِي دُعَائِهِ: (وَاجعَل الْحَيَاة زِيَادَة لي فِي كل خير) وَطلب كَون الْفَاتِحَة أَو غَيرهَا زِيَادَة فِي شرفه طلب لزِيَادَة علمه، وترَّقيه فِي مدارج كمالاته العليّة، وَإِن كَانَ كَمَاله من أَصله قد وصل الْغَايَة الَّتِي لم يصل إِلَيْهَا كَمَال مَخْلُوق، فعُلِم أَن كلا من الْآيَة الشَّرِيفَة والْحَدِيث الصَّحِيح دَال على أَن مقَامه ﷺ وكماله يقبل الزِّيَادَة فِي الْعلم وَالثَّوَاب وَسَائِر الْمَرَاتِب والدرجات، وعَلى أَن غايات كَمَاله لَا حدَّ لَهَا وَلَا انْتِهَاء بل هُوَ دَائِم الترقي فِي تِلْكَ المقامات الْعلية والدرجات السنيّة بِمَا لَا يطلع عَلَيْهِ وَيعلم كنهه إِلَّا الله تَعَالَى؛ وعَلى أَن كَمَاله ﷺ مَعَ جلالته لاحتياجه إِلَى مزِيد ترق واستمداد من فيض فضل الله وجوده وَكَرمه الذاتي الَّذِي لَا غَايَة لَهُ وَلَا انْتِهَاء، وعَلى أَن طلب الزِّيَادَة لَا يشْعر بِأَن ثمَّ نقصا إِذْ لَا شكّ أَن علمه ﷺ أكمل الْعُلُوم وَمَعَ ذَلِك فقد أمره الله بِطَلَب زِيَادَته فلنكن نَحن مأمورين بِطَلَب زِيَادَة ذَلِك لَهُ ﷺ، وَقد ورد أَيْضا أمْرُنا بذلك فِيمَا ينْدب من الدُّعَاء عِنْد رُؤْيَة الْكَعْبَة المعظمة إِذْ فِيهِ: (وزد من شرفه وعظمه وحجه واعتمره تَشْرِيفًا) إِلَى آخِره. وَهُوَ ﷺ كَسَائِر الْأَنْبِيَاء الَّذين حجُّوا الْبَيْت وهم كل الْأَنْبِيَاء إِلَّا فرقة قَليلَة مِنْهُم على الْخلاف فِي ذَلِك دَاخل فِيمَن شرفه وعظمه وحجه واعتمره وَإِذا علم دُخُولهمْ فِي ذَلِك الْعُمُوم من دلَالَة الْعَام ظنية أَو قَطْعِيَّة على الْخلاف فِيهِ علم أَنا مأمورون بِطَلَب الدُّعَاء لَهُ ﷺ وَلغيره من الْأَنْبِيَاء الْمَذْكُورين بِزِيَادَة التشريف والتكريم؛ وَأَن الدُّعَاء بِزِيَادَة ذَلِك لَهُ ﷺ أَمر مَنْدُوب مستحسن. وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن عليّ ﵁ لَكِن نظر فِي سَنَده ابْن كثير أَنه كَانَ يعلم النَّاس كَيْفيَّة الصَّلَاة على النَّبِي ﷺ، وفيهَا مَا يصرّح بِطَلَب الزِّيَادَة لَهُ ﷺ فِي مضاعفات الْخَيْر وجزيل الْعَطاء وَبِهَذَا الَّذِي ذكرته وَإِن لم أر من سبقني بالاستدلال فِي هَذِه الْمَسْأَلَة بِشَيْء مِنْهُ يظْهر الرَّد على شيخ الْإِسْلَام صَالح
1 / 8
البُلْقِينِيّ فِي قَوْله: لَا يَنْبَغِي أَن يقدم على ذَلِك إِلَّا بِدَلِيل فَيُقَال لَهُ: وَأي دَلِيل أَعلَى من الْكتاب وَالسّنة، وَقد بَان بِمَا ذكرته دلالتهما على طلب الدُّعَاء لَهُ ﷺ بِالزِّيَادَةِ فِي شرفه إِذْ الشّرف العلوّ كَمَا قَالَ أهل اللُّغَة، وَالْمرَاد بِهِ هُنَا علوّ الْمرتبَة والمكانة وعلوّها بِالزِّيَادَةِ فِي الْعلم وَالْخَيْر وَسَائِر الدَّرَجَات والمراتب، وكل من الْعلم وَالْخَيْر قد أمرنَا بِطَلَب الزِّيَادَة لَهُ ﷺ فِيهِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قدمْنَاهُ فلنكن مأمورين بِطَلَب زِيَادَة الشّرف لَهُ وعَلى شيخ الْإِسْلَام الْحَافِظ ابْن حجر فِي قَوْله هَذَا الدُّعَاء مخترع من أهل الْعَصْر، وَلَو استحضر مَا قَالَه النَّوَوِيّ لم يقل ذَلِك بل سبق النَّوَوِيّ إِلَى نَحْو ذَلِك الإِمَام الْمُجْتَهد أَبُو عبد الله الْحَلِيمِيّ من أكَابِر أَصْحَابنَا وقدمائهم وَصَاحبه الإِمَام الْبَيْهَقِيّ وَقَوله: وَلَا أصل لَهُ فِي السّنة فَيُقَال لَهُ: بل لَهُ أصل فِي الْكتاب وَالسّنة مَعًا كَمَا تقرر على أَن الظَّاهِر أَنه إِنَّمَا قَالَ هَذَا قبل اطِّلَاعه على مَا يَأْتِي عَنهُ، ثمَّ اعْلَم أَن هذَيْن الْإِمَامَيْنِ لم ينازعا فِي جَوَاز ذَلِك وَإِنَّمَا نزاعهما فِي هَل ورد دَلِيل يدل على طلبه فيفعل أَو لَا فَلَا يَنْبَغِي فعله، وَقد علمت أَنه ورد مَا يدل على طلبه، وَمن ثمَّ لما كَانَ النَّوَوِيّ ﵀ وشكر سَعْيه متحليًا من السّنة بِمَا لم يلْحقهُ فِيهِ أحد مِمَّن جَاءَ بعده كَمَا صرّح بِهِ بعض الْحفاظ دَعَا بِطَلَب الزِّيَادَة لَهُ ﷺ فِي شرفه فِي خطبتي كِتَابيه اللَّذين عَلَيْهِمَا معول الْمَذْهَب وهما (الرَّوْضَة والمنهاج) فَقَالَ فِي خطْبَة كل مِنْهَا ﷺ وزاده فضلا وشرفًا لَدَيْهِ، وَهَذِه الْعبارَة متداولة فِي أَيدي الْعلمَاء مُنْذُ نَحْو ثَلَاثمِائَة سنة لَا نعلم أحدا مِمَّن تكلم على الرَّوْضَة أَو الْمِنْهَاج إعترضها بِوَجْه من الْوُجُوه، وَلَعَلَّ هذَيْن غفلا عَنْهَا بِدَلِيل قَول الثَّانِي هَذَا الدُّعَاء مخترع من أهل الْعَصْر إِذْ لَو استحضر مَا قَالَه النَّوَوِيّ لم يقل ذَلِك بل سبق النَّوَوِيّ إِلَى نَحْو ذَلِك الإِمَام الْمُجْتَهد أَبُو عبد الله الْحَلِيمِيّ، من أكَابِر أَصْحَابنَا وقدمائهم وَصَاحبه الإِمَام الْبَيْهَقِيّ وَقد ذكرت عبارتهما فِي إِفْتَاء أبسط من هَذَا، وَمِمَّا صرح بِهِ الأول أَن إجزال أجره ﷺ ومثوبته وإبداء فَضله للأولين والآخرين بالْمقَام الْمَحْمُود وتفضيله على كَافَّة المقربين، وَإِن كَانَ تَعَالَى قد أوجب هَذِه الْأُمُور لَهُ ﷺ فَإِن كل شَيْء مِنْهَا ذُو دَرَجَات ومراتب فقد يجوز إِذا صلى عَلَيْهِ وَاحِد من أمته فاستجيب دعاؤه أَن يُزَاد النَّبِي ﷺ بذلك الدُّعَاء فِي كل شَيْء مِمَّا سميناه رُتْبَة ودرجة انْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ، وَهَذَا تَصْرِيح مِنْهُ بِأَن طلب الزِّيَادَة فِي شرفه ﷺ دَاخل فِي الصَّلَاة عَلَيْهِ وَقد أمرنَا بهَا فلنكن مأمورين بِمَا تضمنته كَمَا صرح بِهِ هَذَا الإِمَام وناهيك بِهِ وَمِمَّا صرح بِهِ الثَّانِي فِي معنى: السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته سلمك الله من المذام والنقائص. فَإِذا قلت: اللَّهمّ سلم على مُحَمَّد، إِنَّمَا تُرِيدُ اللَّهُمَّ اكْتُبْ لَهُ فِي دَعوته وَأمته السَّلامَة من كل نقص، وزد دَعْوَتَه على ممرّ الْأَيَّام علوا وأمتَّه تكاثرًا وذِكْره ارتفاعًا انْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ، فَتَأمل قَوْله: من المذام والنقائص، وَقَوله: من كل نقص وَإِن ذَلِك هُوَ مَفْهُوم السَّلَام الَّذِي أمرنَا بِهِ تَجدهُ صَرِيحًا فِي أمرنَا بِطَلَب زِيَادَة الشّرف لَهُ، وَإِن فرض على أَنه يدل على مَا توهمه هَذَا الْمُنكر الْجَاهِل إِذْ غَايَة طلب الزِّيَادَة أَنه يدل على عدم الْكَمَال الْمُطلق وَنحن نلتزمه إِذْ الْكَمَال الْمُطلق لَيْسَ إِلَّا لله وَحده وَنَبِينَا ﷺ وَإِن كَانَ أكمل الْمَخْلُوقَات إِلَّا أَن كَمَاله لَيْسَ مُطلقًا فَقبل الزِّيَادَة ومراتب تِلْكَ الزِّيَادَة قد يُسمى كلّ مِنْهَا عدم كَمَال بِالنِّسْبَةِ لما فَوْقه من كَمَال آخر أَعلَى مِنْهُ وَهَكَذَا. وَنقل الْحَافِظ السخاوي عَن شَيْخه ابْن حجر أَنه جعل الحَدِيث عَن أبي ﵁ وَفِي آخِره: (قلتُ أجعَل لَك صَلَاتي كلهَا) أَي دعائي كُله كَمَا فِي رِوَايَة (قَالَ إِذا تكفى همك وَيغْفر ذَنْبك) أصلا عَظِيما لمن يَدْعُو عقب قِرَاءَته فَيَقُول: اجْعَل ثَوَاب ذَلِك لسيدنا رَسُول الله ﷺ، وَكَأَنَّهُ قصد بِهَذَا الرَّد على شَيْخه شيخ الْإِسْلَام السراج البُلْقِينِيّ فِي قَوْله: لَا يَنْبَغِي ذَلِك إِلَّا بِدَلِيل وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَخذ مِنْهُ وَلَده علم الدّين مَا مر عَنهُ وَقد علمت ردهما ثمَّ ذكر السخاوي عَن شَيْخه ابْن حجر أَيْضا مَا حَاصله أَن من يَقُول مثل ثَوَاب ذَلِك زِيَادَة فِي شرفه مَعَ الْعلم بِكَمَالِهِ فِي الشّرف لَعَلَّه لحظ أَن معنى طلب الزِّيَادَة أَن يتَقَبَّل الله قِرَاءَته فيثيبه عَلَيْهَا، وَإِذا أثيب أحد من الْأمة على طَاعَة كَانَ لمعلمه أجر وللمعلم الأول وَهُوَ الشَّارِع ﷺ نَظِير جَمِيع ذَلِك فَهَذَا معنى الزِّيَادَة فِي شرفه وَإِن كَانَ شرفه مُسْتَقرًّا حَاصِلا وحينئذٍ اجْعَل مثل ثَوَاب ذَلِك تقبله ليحصل مثل ثَوَابه للنَّبِي ﷺ. وَحَاصِله: أَن طلب الزِّيَادَة لَهُ ﷺ يكون بِنَحْوِ طلب تَكْثِير أَتْبَاعه سِيمَا الْعلمَاء: أَي وبرفع درجاته ومراتبه الْعلية كَمَا مر عَن الْحَلِيمِيّ: وَقد رد شيخ الْإِسْلَام أَبُو عبد الله القاياتي مَا مر عَن الْعلم وَأَبِيهِ فَقَالَ فِي (الرَّوْضَة):
1 / 9
إِن القارىء إِذا قَرَأَ وَجعل مَا حصل من الْأجر للْمَيت كَانَ دُعَاء بِحُصُول ذَلِك الْأجر للْمَيت فينفعه، وَفِي الْأَذْكَار أَن يَدْعُو بالجعل فَيَقُول: اللَّهُمَّ اجْعَل ثَوَابهَا وأصلًا لفُلَان.
وَاعْلَم أَن الْقُدْرَة الإلهية مهما تتَعَلَّق بِشَيْء يكون لَا محَالة، وَقد قرر فِي علم الْكَلَام أنَّ قدرته ﷾ لَا تتناهى وَأَيْضًا فَخير الله لَا ينْفد، والكامل المترقي فِي دَرَجَات الْكَمَال هُوَ أبدا كَامِل انْتهى. وَوَافَقَهُ صَاحبه شيخ الْإِسْلَام الشّرف الْمَنَاوِيّ فَأفْتى باستحسان هَذَا الدُّعَاء، وَوَافَقَهُمَا أَيْضا صَاحبهمَا إِمَام الْحَنَفِيَّة الْكَمَال بن الْهمام بل زَاد عَلَيْهِمَا بالمبالغة فِي رفْعَة شَأْن هَذَا الدُّعَاء حَيْثُ جعل كل مَا صَحَّ من الكيفيات الْوَارِدَة فِي الصَّلَاة عَلَيْهِ ﷺ مَوْجُودا فِي كَيْفيَّة وَاحِدَة وَمن جُمْلَتهَا الدُّعَاء بِزِيَادَة الشّرف وَهِي: اللَّهُمَّ صل أبدا أفضل صلواتك على سيدنَا مُحَمَّد عَبدك وَنَبِيك وَرَسُولك مُحَمَّد وَآله وَسلم عَلَيْهِ تَسْلِيمًا وزده تَشْرِيفًا وتكريمًا وأنزله الْمنزل المقرب عنْدك يَوْم الْقِيَامَة انْتهى. فَجعل طلب زِيَادَة الشّرف لَهُ ﷺ من جملَة الْأَسْبَاب الْمُقْتَضِيَة لفضل هَذِه الْكَيْفِيَّة ولاشتمالها على معنى مَا فِي الكيفيات الْوَارِدَة عَنهُ ﷺ، وَوَافَقَهُمْ صَاحبهمْ شَيخنَا شيخ الْإِسْلَام خَاتِمَة الْمُحَقِّقين أَبُو يحيى زَكَرِيَّا الْأنْصَارِيّ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَن واعظ قَالَ: لَا يجوز إِجْمَاعًا لقارىء الْقُرْآن والْحَدِيث أَن يهدي مثل ثَوَاب ذَلِك فِي صَحَائِف سيدنَا رَسُول الله ﷺ وَبِه أفتى المتقدمون والمتأخرون. فَأجَاب: بِأَن مَا ادَّعَاهُ هَذَا الْوَاعِظ الْقَلِيل الْمعرفَة يسْتَحق بكذبه على الْإِجْمَاع التعزيز الْبَالِغ وزعمه أَن ذَلِك لَا يجوز الْحق خِلَافه بل يجوز، وَالْعجب لَهُ كَيفَ سَاغَ لَهُ دَعْوَى إِجْمَاع الْمُسلمين وإفتاء الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين على عدم الْجَوَاز وَهل هَذَا إِلَّا مجازفة فِي دين الله فَإِن جَوَازه كَمَا ترى شَائِع ذائع فِي الْأَعْصَار والأمصار.
فَإِن قلت: الدُّعَاء بِالزِّيَادَةِ فِي شرفه ﷺ مُمْتَنع لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنه متصف بضدها حَتَّى تطلب لَهُ الزِّيَادَة وَهُوَ محَال فِي حَقه. قلت: اعْلَم أَن نَبينَا ﷺ وَهُوَ أشرف الْمَخْلُوقَات وأكملهم فَهُوَ فِي كَمَال وَزِيَادَة أبدا يترقى من كَمَال إِلَى كَمَال إِلَى مَا لَا يعلم كنهه إِلَّا الله تَعَالَى فَلَا محَال فِي تزايد كَمَاله وترقيه بِالنِّسْبَةِ إِلَى نَفسه بعد كَونه أكمل الْمَخْلُوقَات، وَنحن نطالب لَهُ الزِّيَادَة فِي الْكَمَال إِلَى تِلْكَ الدرجَة الَّتِي لَا يعلم كنهها إِلَّا الله تَعَالَى، وَفَائِدَة طلبنا لَهُ ذَلِك مَعَ أَنه حَاصِل لَهُ لَا محَالة بوعد الله تَعَالَى أُمُور. مِنْهَا: إِظْهَار شرفه ﷺ وَكَمَال مَنْزِلَته وَعظم قدره وَرفع ذكره وتوقيره. وَمِنْهَا: مجازاته ﷺ على إحسانه إِلَيْنَا. وَمِنْهَا: حُصُول الثَّوَاب لنا وَيزِيد اطلاعًا على مَا ذَكرْنَاهُ مَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح (كَانَ ﷺ أَجود النَّاس) الحَدِيث فَانْظُر ذَلِك وتأمله فَإِنَّهُ تَخْصِيص بعد تَخْصِيص على سَبِيل الترقي، فضل أَولا: جوده على النَّاس كلهم، وَثَانِيا: جوده فِي رَمَضَان على جوده فِي سَائِر أوقاته، وثالثًا: جوده عِنْد لِقَاء جِبْرِيل على جوده فِي رَمَضَان مُطلقًا فَفِيهِ تزايد وتفاضل بِاعْتِبَار نَفسه على سَبِيل الترقي فَاعْتبر مَا نَحن فِيهِ بِهَذَا، وَنَظِير مَا نَحن فِيهِ من طلب الزِّيَادَة اللَّهُمَّ زد هَذَا الْبَيْت تَشْرِيفًا فِي حق بَيت الله تَعَالَى الْحَرَام فَإِن الدُّعَاء بِزِيَادَة الشّرف مَأْمُور بِهِ وَلم يقل أحد إِن ذَلِك مُمْتَنع انْتهى. فَتَأمل ذَلِك وَمَا قبله تَجِد هَذَا الْمُنكر قد ارْتكب فِي إِنْكَاره هُنَا متن عمياء وخبط عشواء وليت دينه سلم لَهُ كلا إِن إِنْكَاره الْمُبَاح بل الْحسن والترقي عَن ذَلِك إِلَى جعله كفرا خطأ عَظِيم إثمه كَبِير جرمه فَعَلَيهِ عُقُوبَة ذَلِك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة على أَن قَول الْقَائِل الْفَاتِحَة زِيَادَة فِي شرفه ﷺ هَل هُوَ مُبْتَدأ وَخبر أَو مفعول بِتَقْدِير اقْرَءُوا وَالثَّانِي بِتَقْدِير اجعلوا وَلكُل وَاحِد من هَذِه التقديرات معنى مُغَاير للْآخر، وَكَانَ يَنْبَغِي للْمُنكر لَو سلم مَا زَعمه أَن يستفصل الْقَائِل عَن أحد هَذِه الْمعَانِي ويرتب على كل حكمه لَكِن الظَّاهِر أَن هَذَا الْمُنكر لَا يفهم تغايرًا بَين هده الْمعَانِي وأنى لَهُ بذلك، وَالله أعلم بالصوات. ١٠ وسُئل: فِي رجل قَالَ الْفَاتِحَة زِيَادَة فِي شرف النَّبِي ﷺ فَقَامَ رجل من أهل الْعلم وَقَالَ للقائل كفرت وَلَا تعد إِلَى قَوْلك هَذَا الَّذِي صدر مِنْك تكفر أَيْضا فَهَل الْأَمر كَذَلِك وَهل يجوز أَن يُقَال لهَذَا الْقَائِل كفرت أَو تكفر وماذا يلْزم من قَالَ لَهُ ذَلِك مَعَ زَعمه أَنه من أهل الْعلم؟ فَأجَاب فسح الله فِي مدَّته ونفع بِعُلُومِهِ وبركته: لَيْسَ هَذَا الرجل الْقَائِل ذَلِك للقائل الْفَاتِحَة إِلَخ من أهل الْعلم بل كَلَامه وإنكاره يدل على جَهله ومجازفته وَأَنه لَا يفهم مَا يَقُول وَلَا يدْرِي مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ فِي ذَلِك من تجهيل الْعلمَاء لَهُ وتفسيقهم إِيَّاه وحكمهم عَلَيْهِ بالتهور كَيفَ وَقد كفَّر
1 / 10
مُسلما لم يقل بتكفيره أحد؟ بل قَالَ جمَاعَة من الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين باستحسانه كَمَا سأبينه لَك من كَلَامهم فَإِن قَصَد بتكفيره لقَائِل ذَلِك تَسْمِيَة دينه كفرا فقد كفر وَيضْرب عُنُقه إِن لم يتب لِأَنَّهُ سمى الْإِسْلَام كفرا، وَإِن لم يقْصد ذَلِك حرم عَلَيْهِ هَذَا الْإِنْكَار وَاسْتحق عَلَيْهِ الزّجر والتأديب البليغ وَوَجَب على حَاكم الشَّرِيعَة المطهرة وفقَّه الله وسَدَّده أَن يُبَالغ فِي زَجره وتعزيره بِمَا يرَاهُ زاجرًا لَهُ عَن هَذِه المجازفات القبيحة والتهورات الشنيعة، وَقد بَلغنِي أَنه حكم على قَائِل ذَلِك بالْكفْر واستسلمه وَأمره بِالشَّهَادَتَيْنِ وَهَذَا مِنْهُ مُبَالغَة فِي الْإِثْم والفسوق وجراءة على الله وَنبيه ﷺ وعَلى الشَّرِيعَة الغراء حَيْثُ أحدث فِيهَا مَا لم يسْبق إِلَيْهِ على أَنه لَو سلم ذَلِك لَكَانَ من الْوَاجِب عَلَيْهِ أَن يعرف هَذَا الْعَاميّ الحكم فَإِن أطاعه فَظَاهر وَإِن خَالفه نَهَاهُ، وَأما مبادرته لعامي صدرت مِنْهُ كلمة لَا يفهم مِنْهَا إِلَّا غَايَة الإجلال والتعظيم لجنابه ﷺ الرفيع، وَقَوله لذَلِك الْعَاميّ بِمُجَرَّد أَن صدرت مِنْهُ تِلْكَ الْكَلِمَة كفرت أَو نَحْو ذَلِك فَهِيَ دليلة على جَهله وغباوته، وَأَنه لَا يدْرِي شَرط الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَمَا يكفر بِهِ الْإِنْسَان وَمَا لَا يكفر بِهِ، وَكَفاك شَاهدا على ذَلِك مَا وَقع لَهُ فِي هَذِه الْقَضِيَّة الَّتِي كثر كَلَام الْعلمَاء فِيهَا بِمَا لم يحط بِهِ علم هَذَا الرجل وَلَا أَنْتَهِي إِلَيْهِ فهمه فَكَانَ عَلَيْهِ الرُّجُوع فِيمَا لَا يعرفهُ إِلَى أَهله العارفين ليبينوا لَهُ حكمه وَكَلَام الْعلمَاء فِيهِ، وَلَيْسَت هَذِه الْمَسْأَلَة من مخترعات الْمُتَأَخِّرين بل أَشَارَ إِلَيْهَا أكَابِر الْمُتَقَدِّمين كَالْإِمَامِ الْحَلِيمِيّ وَصَاحبه الْبَيْهَقِيّ، وناهيك بهما إِمَامَة وجلالة، وتبعهما إِمَام الْمُتَأَخِّرين مُحَرر الْمَذْهَب أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيّ رَحمَه الله تَعَالَى فَقَالَ فِي روضته ومنهاجه فَقَالَ فيهمَا ﷺ وزاده فضلا وشرفًا لَدَيْهِ وناهيك بِهَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ، وَكَأن هَذَا الْمُنكر لم يقْرَأ فِي الْفِقْه وَلَا الْمِنْهَاج وَمن هَذَا شَأْنه كَيفَ يُبَادر بِهَذَا الْإِنْكَار وَهَذَا التهور؟ وَإِذا علمت تَصْرِيح النَّوَوِيّ بِهِ فِي هذَيْن الْكِتَابَيْنِ اللَّذين هما عُمْدَة الْمَذْهَب علمت فَسَاد إِنْكَار هَذَا الْجَاهِل وَأَن مَا توهمه من أَن سُؤال الزِّيَادَة يَقْتَضِي أَن فِي مقَامه ﷺ نقصا توهم بَاطِل لَا دَلِيل عَلَيْهِ، كَيفَ وَقد صرح الإمامان الجليلان الْحَلِيمِيّ وَالْبَيْهَقِيّ بِمَا يزيفه ويبطله، وَعبارَة الأول فِي (شعب الْإِيمَان): فَإِذا قُلْنَا اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد فَإِنَّمَا نُرِيد اللَّهُمَّ عظم مُحَمَّدًا فِي الدُّنْيَا بإعلاء ذكره وَإِظْهَار دينه وإبقاء شَرِيعَته، وَفِي الْآخِرَة بتشفيعه فِي أمته وإجزال أجره ومثوبته وإبداء فَضله للأولين والآخرين بالْمقَام الْمَحْمُود وتقديمه على كَافَّة المقربين بالشهود. قَالَ: وَهَذِه الْأُمُور وَإِن كَانَ الله تَعَالَى قد أوجبهَا للنَّبِي ﷺ وَأَن كل شَيْء مِنْهَا دَرَجَات ومراتب فقد يجوز إِذا صلى عَلَيْهِ وَاحِد من أمته فاستجيب دعاؤه فِيهِ أَن يُزَاد النَّبِي ﷺ بذلك الدُّعَاء فِي كل شَيْء مِمَّا سميناه رُتْبَة ودرجة، وَلِهَذَا كَانَت الصَّلَاة مِمَّا يقْصد بهَا قَضَاء حَقه ويتقرب بأدائها إِلَى الله تَعَالَى، وَيدل على أَن قَوْلنَا اللَّهم صل على مُحَمَّد صَلَاة منا عَلَيْهِ أَنا لَا نملك إِيصَال مَا يعظم بِهِ أمره ويعلو بِهِ قدره إِلَيْهِ إِنَّمَا ذَلِك بيد الله تَعَالَى فصح أَن صَلَاتنَا عَلَيْهِ الدُّعَاء لَهُ بذلك وابتغاؤه من الله جلّ ثَنَاؤُهُ انْتهى كَلَام الْحَلِيمِيّ فِي شعبه، فَتَأمل قَوْله: وإجزال أجره ومثوبته، وَقَوله: أَن يُزَاد النَّبِي ﷺ إِلَى آخِره تَجدهُ مُصَرحًا بِأَن مقَامه ﷺ يقبل الزِّيَادَة فِي الثَّوَاب وَغَيره من سَائِر الْمَرَاتِب والدرجات وَيُؤَيِّدهُ أَنه ﷺ وَإِن كَانَ أكمل الْخلق وأفضلهم لَكِن لَا تحصر وَلَا تحصى غايات كمالاته الْعلية بل هُوَ دَائِم الترقي فِي تِلْكَ الغايات وَلَا حد لَهَا انْتِهَاء والمقامات السّنيَّة مِمَّا لَا يطلع عَلَيْهِ وَيعلم كنهه إِلَّا الله تَعَالَى، وكماله ﷺ مَعَ جلالته لَا يمْنَع احْتِيَاجه إِلَى زِيَادَة مزِيد وترقّ واستمداد من فَضله تَعَالَى وجوذه وَكَرمه، فَإِنَّهُ لَا انْتِهَاء لفضله الْوَاسِع وَلَا انْتِهَاء لكماله ﷺ المستمد من ذَلِك. وَعبارَة الْبَيْهَقِيّ فِي (تَفْسِيره): السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَيحْتَمل أَن يكون بِمَعْنى السَّلامَة: أَي ليكن قضى الله عَلَيْك السَّلَام، وَالسَّلَام كالمقام والمقامة: أَي سلمك الله من المذام والنقائص. فَإِذا قلت: اللَّهم سلم على مُحَمَّد إِنَّمَا تُرِيدُ اللَّهُمَّ اكْتُبْ لمُحَمد فِي دَعوته وَأمته وَذكره السَّلامَة من كل نقص فتزداد دَعوته على ممر الْأَيَّام علوا وَأمته تكاثرًا وَذكره ارتفاعًا انْتهى. فَتَأَمّله تَجدهُ صَرِيحًا فِيمَا أَفَادَ كَلَام شَيْخه الْحَلِيمِيّ مِمَّا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ، وَإِذا صرح هَذَانِ الأمثلان بذلك وتبعهما النَّوَوِيّ فَأَي شُبْهَة بقيت فِي هَذَا الْمحل يتشبث بهَا هَذَا الْمُنكر الْجَاهِل وَكَأَنَّهُ لم يستحضر مَا يَقُوله عِنْد كل سنة عِنْد رُؤْيَة
1 / 11
الْكَعْبَة المعظمة من الدُّعَاء الْوَارِد حينئذٍ وَهُوَ: اللَّهُمَّ زد هَذَا الْبَيْت تَشْرِيفًا وتكريمًا وزد من شرفه فَإِنَّهُ صَرِيح فِي ذَلِك بِالدُّعَاءِ للنَّبِي ﷺ وَأَن الدُّعَاء بِالزِّيَادَةِ لَا يَقْتَضِي ثُبُوت نقص وَبَيَانه أَن فِيهِ الدُّعَاء للكعبة المعظمة بِزِيَادَة التشريف وَهِي قبل هَذَا الدُّعَاء لَا نقص فِيهَا حَتَّى يطْلب بِهَذَا الدُّعَاء جبره، وكأنّ المُرَاد بِالزِّيَادَةِ فِيهِ الزِّيَادَة فِي الْكَمَال الَّذِي لَا غَايَة لَهُ وَكَذَلِكَ الدُّعَاء بِالزِّيَادَةِ فِي شرف النَّبِي ﷺ على أَن هَذَا الْوَارِد يَشْمَلهُ ﷺ، فَإِن قَوْله فِيهِ وزِدْ مَنْ شرفَّه وعظمَّه وحجَّه واعتمره إِلَخ يَشْمَل النَّبِي ﷺ بل سَائِر الْأَنْبِيَاء الَّذين حجُّوا هَذَا الْبَيْت هم الْأَنْبِيَاء كلهم أَو إِلَّا جمَاعَة مِنْهُم على الْخلاف فِي ذَلِك، فَعلمنَا أَنه ورد الدُّعَاء بِالزِّيَادَةِ فِي شرفه ﷺ وَفِي شرف سَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَيدل لذَلِك أَيْضا الحَدِيث الْمَشْهُور عَن أُبي بن كَعْب ﵁ قَالَ: (كَانَ رَسُول الله ﷺ إِذا ذهب ثلث اللَّيْل قَامَ فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس اذْكروا الله جَاءَت الراجفة تتبعها الرادفة قد جَاءَ الْمَوْت بِمَا فِيهِ، قَالَ أبيّ فقلتُ: يَا رَسُول الله إِنِّي أَكثر الصَّلَاة عَلَيْك فكم أجعَل لَك من صَلَاتي؟ فَقَالَ: مَا شِئْت، قلتُ: الرّبع، قَالَ: مَا شِئْت، وَإِن زِدْت فَهُوَ خير لَك، قلتُ: أجعَل لَك صَلَاتي كلهَا، قالَ: إِذا تكفى همك وَيغْفر ذَنْبك) . حسنه التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ الْحَاكِم فِي موضِعين من (مُسْتَدْركه)، وَفِي رِوَايَة (إِذا ذهب ربع اللَّيْل)، وَفِي أُخْرَى: (قَالَ: يَا رَسُول الله أَرَأَيْت صَلَاتي كلهَا لَك قَالَ: إِذن يَكْفِيك همك من أَمر دنياك وآخرتك) . وَفِي أُخْرَى للبزار: (قَالَ رجل يَا رَسُول الله أجعَل شطر صَلَاتي دُعَاء لَك؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فأجعل صَلَاتي كلهَا دُعَاء لَك قَالَ: إِذا يَكْفِيك الله همّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة) وَفِي أُخْرَى: (أجعَل لَك نصف دعائي؟ قَالَ: مَا شِئْت؟ قَالَ: الثُّلثَيْنِ، قَالَ: مَا شِئْت، قَالَ: أجعَل دعائي كُله لَك قَالَ: إِذا يَكْفِيك الله همّ الدُّنْيَا وهم الْآخِرَة) وبهذه الرِّوَايَة يعلم أَن المُرَاد بِالصَّلَاةِ فِي الرِّوَايَة الأولى وَمَا بعْدهَا الدُّعَاء وَأَن من فَسرهَا بِالصَّلَاةِ الْحَقِيقِيَّة وَالْمرَاد نفس ثَوَابهَا فقد أبعد بل الْمَعْنى: أَن لي زَمَانا أَدْعُو فِيهِ لنَفْسي فكم أصرف من ذَلِك الزَّمَان للدُّعَاء لَك. فَإِذا تقرّر هَذَا فقد قَالَ شيخ الْإِسْلَام الْحَافِظ ابْن حجر كَمَا نَقله عَنهُ تِلْمِيذه الْحَافِظ السخاوي وَاسْتَحْسنهُ، وَهَذَا الحَدِيث أصل عَظِيم لمن يَدْعُو عقب قِرَاءَته فَيَقُول: اجْعَل ثَوَاب ذَلِك لسيدنا رَسُول الله ﷺ. وَأما من يَقُول مثل ثَوَاب ذَلِك زِيَادَة فِي شرفه ﷺ مَعَ الْعلم بِكَمَالِهِ فِي الشّرف فَلَعَلَّهُ لحظ أَن معنى طلب الزِّيَادَة فِي شرفه أَن يتَقَبَّل قِرَاءَته فيثيبه عَلَيْهَا. وَإِذا أثيب أحد من الْأمة على فعل طَاعَة من الطَّاعَات كَانَ للَّذي علمه مثل أجره وللمعلم الأول وَهُوَ الشَّارِع ﷺ نَظِير جَمِيع ذَلِك فَهَذَا معنى الزِّيَادَة فِي شرفه ﷺ وَإِن كَانَ شرفه مُسْتَقرًّا حَاصِلا، وَقد ورد فِي القَوْل عِنْد رُؤْيَة الْكَعْبَة اللَّهُمَّ زد هَذَا الْبَيْت تَشْرِيفًا وتكريمًا وتعظيمًا فَإِذا عرف هَذَا عرف أَن معنى قَول الدَّاعِي اجْعَل مثل ثَوَاب ذَلِك أَي تقبل هَذِه الْقِرَاءَة ليحصل مثل ثَوَاب ذَلِك للنَّبِي ﷺ انْتهى. وَحَاصِله أَن طلب الزِّيَادَة لَهُ ﷺ يكون بِنَحْوِ طلب تَكْثِير أَتْبَاعه سِيمَا الْعلمَاء وَرفع درجاته ومراتبه الْعلية كَمَا مر عَن الْحَلِيمِيّ ﵀ وَبِه يرد مَا وَقع فِي فتاوي شيخ الْإِسْلَام البُلْقِينِيّ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَمَّن يَقُول فِي دُعَائِهِ اجْعَل ثَوَاب هَذِه الختمة هَدِيَّة لسيدنا مُحَمَّد ﷺ فَأجَاب بِمَا حَاصله: ثَوَاب الْقِرَاءَة وَاصل لَهُ ﷺ لِأَنَّهُ هُوَ الْمبلغ والمبين لَهُ فَلَا حَاجَة لذكر القارىء ذَلِك وَإِن ذكره على نَظِير: اللَّهُمَّ آتٍ سيدنَا مُحَمَّدًا الْوَسِيلَة والفضيلة إِلَخ لم يمْتَنع بل اللَّائِق أَن لَا يقدم على شَيْء من ذَلِك إِلَّا بِإِذن، وَلَئِن جَاءَ أَنه ﷺ قَالَ لعمر شَيْئا يتَعَلَّق بِنَحْوِ ذَلِك فلعلمه ﷺ أَن عمر ﵁ يُرَاعِي الْأَدَب فِي الَّذِي يتَعَلَّق بالنبيّ ﷺ وَإِذا لم يكن الدَّاعِي يُرَاعِي الْأَدَب فَإِنَّهُ لَا يَلِيق أَن يقدم على شَيْء من ذَلِك حَتَّى يعلم طَرِيق الْأَدَب فِيهِ انْتهى. وَأخذ من ذَلِك وَلَده شيخ الْإِسْلَام عَلَم الدّين قَوْله لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يقدم فِي دُعَائِهِ على قَوْله اللهمّ اجْعَل ثَوَاب مَا قرأناه زِيَادَة فِي شرف سيدنَا مُحَمَّد رَسُول الله ﷺ إِلَّا بِدَلِيل انْتهى. وَأَنت خَبِير بِأَنَّهُ كأبيه ليسَا قائلين بامتناع ذَلِك، وَإِنَّمَا هما يحاولان أَنه لَا يَنْبَغِي قَول ذَلِك إِلَّا بِدَلِيل أَي لَا ينْدب قَوْله إِلَّا بِدَلِيل يدل على اسْتِحْبَابه، وَلَيْسَ فِي كَلَامهمَا مَا يدل على أَن ذَلِك لَا يجوز، على أَن الظَّاهِر أَنَّهُمَا غفلا عَمَّا قدمْنَاهُ عَن النووري وَغَيره، وَمن ثمَّ خالفهما شيخ الْإِسْلَام القاياتي فَقَالَ فِي (الرَّوْضَة): إِن القارىء إِذا قَرَأَ ثمَّ جعل مَا حصل من الْأجر لَهُ
1 / 12
لمَيت فَهَذَا دُعَاء بِحُصُول ذَلِك الْأجر للْمَيت فنفع الْمَيِّت. وَقَالَ فِي (الْأَذْكَار) الْمُخْتَار أَن يَدْعُو بالجعل فَيَقُول اللهمّ اجْعَل ثَوَابهَا واصلًا لفُلَان. وَاعْلَم أَن الْقُدْرَة الإلهية مهما تتَعَلَّق بِشَيْء يكون لَا محَالة، وَقد قرر فِي علم الْكَلَام أَن قدرته ﷾ لَا تتناهى وَأَيْضًا فَخير الله لَا ينْفد، والكامل المترقي فِي دَرَجَات الْكَمَال هُوَ أبدا كَامِل انْتهى، وَهُوَ غَايَة فِي التَّحْرِير والتنقيح وَوَافَقَهُ صَاحبه شيخ الْإِسْلَام الشّرف الْمَنَاوِيّ فَأفْتى باستحسان هَذَا الدُّعَاء واستند إِلَى قَول الْمِنْهَاج وزاده فضلا وشرفًا لَدَيْهِ، وَوَافَقَهُمَا أَيْضا صَاحبهمَا إِمَام الْحَنَفِيَّة الْكَمَال ابْن الْهمام بل زَاد عَلَيْهِمَا بالمبالغة فِي رفْعَة شَأْنه أَي شَأْن هَذَا الدُّعَاء حَيْثُ جعل كل مَا صَحَّ فِي الكيفيات الْوَارِدَة فِي الصَّلَاة عَلَيْهِ ﷺ مَوْجُودا فِي كَيْفيَّة الدُّعَاء بِزِيَادَة الشّرف، وَمن جُمْلَتهَا وَهِي: اللَّهُمَّ صل أبدا أفضل صلواتك على سيدنَا مُحَمَّد عَبدك وَنَبِيك وَرَسُولك مُحَمَّد وَآله وَسلم عَلَيْهِ تَسْلِيمًا كثيرا، وزده شرفًا وتكريمًا، وأنزله الْمنزل المقرب عنْدك يَوْم الْقِيَامَة انْتهى. فَانْظُر كَيفَ جعل الكيفيات الفاضلة للصَّلَاة عَلَيْهِ ﷺ كَصَلَاة التَّشَهُّد وَمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ من كَثْرَة طرقها وكصلاة أُخْرَى مَوْجُودَة فِي تِلْكَ الْكَيْفِيَّة الْمُشْتَملَة على وزِدّه تَشْرِيفًا وتكريمًا وَجعل طلب هَذِه الزِّيَادَة من الْأَسْبَاب الْمُقْتَضِيَة لفضل هَذِه الْكَيْفِيَّة واشتمالها على مَا فِي الكيفيات الْوَارِدَة عَنهُ ﷺ، وَهَذَا تَصْرِيح من هَذَا الإِمَام الْمُحَقق بِفضل طلب الزِّيَادَة لَهُ ﷺ فَكيف مَعَ هَذَا يتَوَهَّم أَن فِي ذَلِك محذورًا، وَوَافَقَهُمْ أَيْضا صَاحبهمْ شَيخنَا شيخ الْإِسْلَام أَبُو يحيى زَكَرِيَّا الْأنْصَارِيّ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَن واعظ قَالَ: لَا يجوز بِالْإِجْمَاع لقارىء الْقُرْآن والْحَدِيث أَن يهدي مثل ثَوَاب ذَلِك فِي صَحَائِف سيدنَا مُحَمَّد ﷺ وَبِه أفتى المتقدمون والمتأخرون، فَأجَاب: بِأَن مَا ادَّعَاهُ هَذَا الْوَاعِظ الْقَلِيل الْمعرفَة يسْتَحق بِسَبَبِهِ التَّعْزِير الْبَالِغ بِحَسب مَا يرَاهُ الْحَاكِم من نَحْو حبس أَو ضرب ويثاب زاجره وَيَأْثَم مساعده على ذَلِك. وَهَا أَنا أذكر ذَلِك مفصلا، فَأَما مَا ادَّعَاهُ من أَنه لَا يجوز إهداء الْقُرْآن للنَّبِي ﷺ فَالْحق خِلَافه بل يجوز ذَلِك وَالْعجب مِنْهُ كَيفَ سَاغَ لَهُ دَعْوَى إِجْمَاع الْمُسلمين وإفتاء الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين على عدم الْجَوَاز وَهل هَذَا إِلَّا مجازفة فِي دين الله تَعَالَى فَإِن جَوَازه كَمَا ترى شَائِع ذائع فِي الْأَعْصَار والأمصار. فَإِن قلت: الدُّعَاء بِالزِّيَادَةِ فِي شرفه ﷺ مُمْتَنع لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنه متصف بضدها حَتَّى يطْلب لَهُ الزِّيَادَة وَهُوَ محَال فِي حَقه. قلتُ: إعلم يَا أخي وفقني الله وَإِيَّاك، أَن نَبينَا ﷺ هُوَ أشرف الْمَخْلُوقَات وأكملهم فَهُوَ فِي كَمَاله وزيادته أبدا مترق من كَمَال إِلَى كَمَال إِلَى مَا لَا يعلم كنهه إِلَّا الله تَعَالَى، وَلَا محَال فِي تزايد كَمَاله وترقيه بِالنِّسْبَةِ إِلَى نَفسه بعد كَونه أكمل الْمَخْلُوقَات، وَنحن نطلب لَهُ الزِّيَادَة فِي الْكَمَال إِلَى تِلْكَ الدرجَة الَّتِي لَا يعلم كنهها إِلَّا الله، وَفَائِدَة طلبنا لَهُ ذَلِك مَعَ أَنه حَاصِل لَهُ لَا محَالة بوعد الله تَعَالَى أُمُور: مِنْهَا: إِظْهَار شرفه ﷺ وَكَمَال مَنْزِلَته وعظيم حَقه وَرفع ذكره وتوقيره. وَمِنْهَا: مجازاته ﷺ فقد أحسن إِلَى جَمِيع النَّاس بهدايتهم إِلَى الدّين القويم. وَمِنْهَا: حُصُول الثَّوَاب لنا كَسَائِر الْعِبَادَات وَيزِيد اطلاعًا على مَا ذَكرْنَاهُ مَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح عَن ابْن عَبَّاس ﵄: (كَانَ رَسُول الله ﷺ أَجود النَّاس وَكَانَ أَجود مَا يكون فِي رَمَضَان حِين يلقاه جِبْرِيل ﵇ فَانْظُر إِلَى ذَلِك وَتَأمل فَإِنَّهُ تَخْصِيص بعد تَخْصِيص على سَبِيل الترقي ففضل أَولا جوده على النَّاس كلهم، وَثَانِيا جوده فِي رَمَضَان على جوده فِي سَائِر أوقاته، وثالثًا جوده عِنْد لِقَاء جِبْرِيل على جوده فِي رَمَضَان مُطلقًا، فَفِيهِ تزايد وتفاضل بِاعْتِبَار نَفسه على سَبِيل الترقي، فَاعْتبر مَا نَحن فِيهِ بِهَذَا؛ وَنَظِير مَا نَحن فِيهِ فِي طلب الزِّيَادَة اللهمّ زد هَذَا الْبَيْت تَشْرِيفًا فِي حق بَيت الله الْحَرَام فَإِن الدُّعَاء بِزِيَادَة التشريف مَأْمُور بِهِ وَلم يقل أحد إِن ذَلِك مُمْتَنع انْتهى كَلَامه ﵀، وَهُوَ غَايَة فِي التَّحْقِيق والإتقان شكر الله سَعْيه فَتَأَمّله، واقض بِهِ وَبِمَا قبله على هَذَا الْمُعْتَرض بِالْجَهْلِ والمجازفة والتهور والمبادرة بِمَا لَا يسوغ إِنْكَاره وبالخروج عَن سنَن المهتدين إِلَى وصمات الْمُعْتَدِينَ، حَيْثُ ارْتقى عَن إِنْكَار الْمُبَاح بل الْحسن كَمَا مرّ عَن غير وَاحِد إِلَى جعله كفرا فَهَل هَذَا إِلَّا مجازفة فِي دين الله وافتراء عَلَيْهِ فَعَلَيهِ عُقُوبَة ذَلِك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وروى الطَّبَرَانِيّ بِسَنَد مَوْقُوف نظر فِيهِ ابْن كثير عَن عَليّ ﵁: أَنه كَانَ يعلم النَّاس الصَّلَاة عَلَيْهِ ﷺ فَيَقُول
1 / 13
دُعَاء طَويلا من جملَته: اللَّهُمَّ افسح لَهُ فِي عدنك وأجزه مضاعفات الْخَيْر من فضلك، مُهنِّئات لَهُ غير مكدِّرات، وَمن نول ثوابك المحلول، وجزيل عطائك الْمَعْلُول، اللَّهم أعْلِ على بِنَاء النَّاس بناءَه وَأكْرم مثواه لديك ونزله، وتمم لَهُ نوره واجزه من انبعاثك لَهُ مَقْبُول الشَّهَادَة مرضِي الْمقَالة ذَا منطق عدل وخطة فصل وبرهان عَظِيم انْتهى. وَهُوَ صَرِيح فِي طلب الزِّيَادَة لَهُ ﷺ. وعدنك جنَّة عدن وعطائك الْمَعْلُول من العل وَهُوَ الشّرْب بعد الشّرْب، يُرِيد أَن عطاءه مضاعف كَأَنَّهُ يعل بِهِ أَي يُعْطِيهِ عَطاء بعد عَطاء وأعل على بِنَاء النَّاس أَي البانين كَمَا فِي رِوَايَة بناه أَي ارْفَعْ فَوق أَعمال العاملين عمله ومثواه منزله ونزله رزقه وخطة بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة الْقِصَّة والفصل الْقطع.
وَإِذا جوز جُمْهُور الْعلمَاء كَمَا قَالَه القَاضِي عِيَاض وَغَيره أَن يُقَال رحم الله مُحَمَّدًا وَلم يبالوا بقول جمع لَا يجوز لِأَن الرَّحْمَة غَالِبا إِنَّمَا تكون لفعل مَا يلام لِأَنَّهُ مُخَالف لما صَحَّ أَنه ﷺ فِي عدَّة أَحَادِيث أصَحهمَا فِي التَّشَهُّد السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي ورحمه الله وَبَرَكَاته. وَمِنْهَا إِقْرَاره ﷺ للأعرابي الْقَائِل: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَارْحَمْ مُحَمَّدًا، وَإِنَّمَا أنكر قَوْله وَلَا ترحم مَعنا أحدا بقوله: (لقد تحجرت وَاسِعًا) . وَفِي حَدِيث فِي سَنَده مَجْهُول وَبَقِيَّة رِجَاله رجال الصَّحِيح (وترحم على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد كَمَا ترحمت على إِبْرَاهِيم وعَلى آل إِبْرَاهِيم) فَلِأَن يجوز الدُّعَاء بِالزِّيَادَةِ من بَاب أولى لِأَن طلبَهَا لَا يشْعر بِمَا يشْعر بِهِ طلب الرَّحْمَة. وَفِي (فتح الْبَارِي) قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: معنى صَلَاة الله على نبيه ﷺ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْد الْمَلَائِكَة وَمعنى صَلَاة الْمَلَائِكَة عَلَيْهِ الدُّعَاء وَهَذَا أولى الْأَقْوَال فَيكون معنى سَلام الله تَعَالَى عَلَيْهِ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ وتعظيمه وَمعنى صَلَاة الْمَلَائِكَة وَغَيرهم طلب ذَلِك لَهُ من الله تَعَالَى وَالْمرَاد طلب الزِّيَادَة لَا أصل الصَّلَاة انْتهى. وَهُوَ صَرِيح فِي أَن صَلَاتنَا عَلَيْهِ طلب الزِّيَادَة لَهُ من الله تَعَالَى وَأَن ذَلِك لَا مَحْذُور فِيهِ وَكَيف لَا وَقد طلب ﷺ الزِّيَادَة فِي دُعَائِهِ إِذْ فِي بعض حَدِيث مُسلم فِي دُعَائِهِ (وَاجعَل الْحَيَاة لي زِيَادَة فِي كل خير) وَقد أمره الله تَعَالَى بِطَلَب الزِّيَادَة فِي الْعلم بقوله عز قَائِلا: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤] لَو كَانَ طلب الزِّيَادَة يشْعر بِمَا توهمه هَذَا الْمُنكر الغبي الْجَاهِل لما دَعَا بهَا ﷺ وَلما أمره الله بطلبها فَدلَّ ذَلِك على جَوَاز الدُّعَاء لَهُ ﷺ بِالزِّيَادَةِ فِي شرفه بل على ندب ذَلِك واستحسانه فَهُوَ الْحق فاعتمده وَلَا تغتر بِخِلَافِهِ. وَأما قَول شيخ الْإِسْلَام ابْن حجر فِي بعض الْمَوَاضِع هَذَا الدُّعَاء مخترع من بعض أهل الْعَصْر وَلَا أصل لَهُ فِي السّنة فَالظَّاهِر أَنه قَالَه قبل اطِّلَاعه على مَا مر عَنهُ مِمَّا هود صَرِيح فِي أَن لَهُ من السّنة أصلا أصيلًا، ثمَّ رَأَيْت ابْن تَيْمِية سبق البُلْقِينِيّ إِلَى مَا مر عَنهُ وَبَالغ السُّبْكِيّ فِي رده عَلَيْهِ فِي ذَلِك فجزاه الله خيرا وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
١١ - وَسُئِلَ ﵁، فِي حَيَّة الدَّار نقتلها أَو نتحول عَنْهَا: فَإِن قُلْتُمْ ثَلَاثًا فَهَل هِيَ أَيَّام أَو سَاعَات؟ وَهل الْحَيَّات فِي ذَلِك سَوَاء كالأفعاء والروَّاز والثُعبان أم يخْتَص التحوّل بِنَوْع مِنْهَا؟ وَهل حَيَّة الْعمرَان كالبستان والبئر الَّتِي يسقى مِنْهَا الزَّرْع وَالْأَشْجَار حكمهَا حكم حَيَّة الدَّار أم لَا؟ وَهل يكره قتل شَيْء مِنْهَا فِي الْموَات أَو فِي الْعمرَان؟ وَكَيف الَّذِي يَقُولُونَهُ إِذا بَدَت لَهُم؟ وَمَا الْعَهْد الَّذِي أَخذه عَلَيْهَا نوح وَسليمَان صلى الله على نَبينَا وَعَلَيْهِمَا وَسلم؟ فَأجَاب نفع الله بِعُلُومِهِ: اعْلَم أَنه ﷺ أَمر بقتل الْحَيَّات أَمر ندب. روى البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن ابْن مَسْعُود ﵁ قَالَ: (كُنَّا مَعَ رَسُول الله ﷺ فِي غَار بمنى وَقد نزلت عَلَيْهِ سُورَة ﴿والمرسلات عرفا﴾ فَنحْن نأخذها من فِيهِ رطبَة إِذْ خرجتْ علينا حَيَّة فَقَالَ: اقتلوها فابتدرنا لنقتلها فسبقتنا، فَقَالَ رَسُول الله ﷺ: وقاكم الله شَرها كَمَا وقاها شركم) وعداوة الْحَيَّة للْإنْسَان مَعْرُوفَة إِذْ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَن الْخطاب فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا﴾ [الْبَقَرَة: ٣٨، ٣٦] لآدَم وحواء وإبليس والحية: وَفِي حَيَاة الْحَيَوَان روى قَتَادَة عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ: (مَا سالمناهن مُنْذُ عاديناهن) . وَقَالَ ابْن عمر ﵄: من تركهن فَلَيْسَ منا. وَقَالَت عَائِشَة ﵂: من ترك حَيَّة خشيَة من ثارها فَعَلَيهِ لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ. وَفِي (مُسْند أَحْمد) عَن النَّبي ﷺ: (من قتل حَيَّة فَكَأَنَّمَا قتل مُشْركًا، وَمن ترك حَيَّة خوف عَاقبَتهَا فَلَيْسَ منا) . وَقَالَ ابْن عَبَّاس ﵄: إِن الْحَيَاة مسخ الْجِنّ كَمَا مسخت القردة من بني إِسْرَائِيل، وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ عَنهُ عَن النَّبِي ﷺ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْن حبَان هَذَا كُله
1 / 14
فِي غير حيات الْبيُوت، وَأما الْحَيَّات الَّتِي مأواها الْبيُوت فَلَا تقتل حَتَّى تنذر ثَلَاثًا. وَاخْتلف الْعلمَاء هَل المُرَاد ثَلَاثَة أَيَّام أَو ثَلَاث مَرَّات، وَالْأول عَلَيْهِ الْجُمْهُور: أَي فَهُوَ الأولى، وَقد ورد فِي كل مِنْهُمَا حَدِيث. أخرج مَالك وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ: (أَن أَبَا السَّائِب أَرَادَ أَن يقتل حَيَّة بدار أبي سعيد وَهُوَ يُصَلِّي فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَن لَا تفعل، ثمَّ لما قضى صلَاته حَدثهُ وَقد أَشَارَ لَهُ فِي بَيت فِي الدَّار فَقَالَ: كَانَ فِيهِ فَتى حَدِيث عهد بعرس فخرجنا مَعَ رَسُول الله ﷺ إِلَى الخَنْدَق، فَكَانَ ذَلِك الْفَتى يسْتَأْذن رَسُول الله ﷺ بأنصاف النَّهَار يرجع إِلَى أَهله، فاستأذنه يَوْمًا فَقَالَ لَهُ ﷺ: خُذ عَلَيْك سِلَاحك فَإِنِّي أخْشَى عَلَيْك قُرَيْظَة، فَأخذ الرجل سلاحه فَإِذا امْرَأَته بَين الْبَابَيْنِ قَائِمَة فَأَهوى إِلَيْهَا بِالرُّمْحِ ليطعنها بِهِ وأصابته غيرَة فَقَالَت: اكفف رمحك وادخل الْبَيْت حَتَّى تنظر مَا الَّذِي أخرجني، فَدخل فَإِذا بحية عَظِيمَة منطوية على الْفراش فَأَهوى إِلَيْهَا بِالرُّمْحِ فانتظمها بِهِ، ثمَّ خرج بِهِ فركزه فِي الدَّار فاضطربت عَلَيْهِ وخرّ الْفَتى مَيتا، فَمَا يدْرِي أَيهمَا كَانَ أسْرع موتا الْفَتى أم الْحَيَّة؟ قَالَ: فَجِئْنَا النبيّ ﷺ وأخبرناه بذلك وَقُلْنَا: ادْع الله تَعَالَى لَهُ أَن يحييه، فَقَالَ النَّبِي ﷺ: اسْتَغْفرُوا لصاحبكم، ثمَّ قَالَ ﷺ: إِن بِالْمَدِينَةِ جنا قد أَسْلمُوا فَإِذا رَأَيْتُمْ مِنْهُم شَيْئا فآذنوه ثَلَاثَة أَيَّام فَإِن بدا لكم بعد ذَلِك فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَان) وَفِي لفظ: (إِن لهَذِهِ الْبيُوت عوامر فَإِذا رَأَيْتُمْ شَيْئا مِنْهَا فحرِّجوا عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِن ذهب وَإِلَّا فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّهُ كَافِر) . وَأخرج أَبُو دَاوُد عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﷺ: (إِن الْهَوَام من الْجِنّ من رأى فِي بَيته شَيْئا فليحرج عَلَيْهِ ثَلَاث مَرَّات فَإِن عَاد فليقتله فَإِنَّهُ شَيْطَان) وَأخذ بعض الْعلمَاء من حَدِيث أبي سعيد الأول وَهُوَ قَوْله: (إِن بِالْمَدِينَةِ جنًا) إِلَى آخِره أَن الْإِنْذَار ثَلَاثًا خَاص بِالْمَدِينَةِ، وَصحح بعض أَنه عَام فِي كل بَلْدَة لَا تقتل حَتَّى تنذر.
ثمَّ الظَّاهِر أَن الْإِنْذَار مَنْدُوب وَإِن اقْتضى كَلَام بعض الْحَنَابِلَة وُجُوبه حَيْثُ قَالَ: قتل الْحَيَّة بِغَيْر حق لَا يجوز كالإنس وَلَو كَانَ كَافِرًا وَالْجِنّ يتصورون بصور شَتَّى، وحيات الْبيُوت قد تكون جنًا فتؤذن ثَلَاثًا فَإِن ذهبت وَإِلَّا قتلت، فَإِنَّهَا إِن كَانَت حَيَّة أَصْلِيَّة قتلت، وَإِن كَانَت حَيَّة جنية فقد أصرت على الْعدوان بظهورها للإنس فِي صُورَة حَيَّة تفزعهم بذلك انْتهى. نعم أفْهَم قَوْله: فقد أصرت على الْعدوان أَن خُرُوجهَا فِي صُورَة الْحَيَّة عدوان وحينئذٍ فَلَا يجب الْإِنْذَار، وَيُؤَيِّدهُ مَا ذكره شيخ الْإِسْلَام ابْن حجر فِي أَبنَاء الْعمرَان عَن الثَّوْريّ الْأنْصَارِيّ الهويّ الْمُتَوفَّى سنة إِحْدَى وَثَمَانمِائَة أَنه خرج عَلَيْهِ ثعبان مهول فَقتله فَاحْتمل فَوْرًا من مَكَانَهُ فَأَقَامَ عِنْد الْجِنّ إِلَى أَن رَفَعُوهُ لقاضيهم فَادّعى عَلَيْهِ وليّ الْمَقْتُول فَأنْكر، فَقَالَ القَاضِي: على أيّ صُورَة كَانَ الْمَقْتُول؟ فَقيل على صُورَة ثعبان فَالْتَفت القَاضِي إِلَى من بجانبه فَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول: (من تزيالكم فَاقْتُلُوهُ) فَأمر القَاضِي بِإِطْلَاقِهِ فَرَجَعُوا بِهِ إِلَى منزله.
وَنَظِير ذَلِك مَا أخرجه ابْن عَسَاكِر فِي (تَارِيخه): أَن رجلا دخل بعض الخراب ليبول فِيهِ فَإِذا حَيَّة فَقَتلهَا فَمَا هُوَ إِلَّا أَن نزل بِهِ تَحت الأَرْض فاحتوش بِهِ جمَاعَة فَقَالُوا هَذَا قتل فلَانا، فَقَالُوا نَقْتُلهُ، فَقَالَ بَعضهم امضوا بِهِ إِلَى الشَّيْخ، فَمَضَوْا بِهِ إِلَيْهِ فَإِذا هُوَ شيخ حسن الْوَجْه كَبِير اللِّحْيَة أبيضها فَقَالَ: مَا قصتكم؟ فأخبروه، فَقَالَ فِي أَي صُورَة ظهر؟ فَقَالُوا فِي حَيَّة، فَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول لنا لَيْلَة الْجِنّ: (وَمن تصور مِنْكُم فِي صُورَة غير صورته فَقتل فَلَا شَيْء على قَاتله) خلوه فخلوني.
وَاعْلَم أَن الِاسْتِدْلَال بِهَذَيْنِ يَنْبَنِي على جَوَاز الرِّوَايَة عَن الْجِنّ وَقد روى عَنْهُم الطَّبَرَانِيّ وَابْن عدي وَغَيرهمَا لَكِن توقف فِي ذَلِك بعض الْحفاظ بِأَن شَرْط الرَّاوِي الْعَدَالَة والضبط، وَكَذَا مدعي الصُّحْبَة شَرطه الْعَدَالَة وَالْجِنّ لَا نعلم عدالتهم مَعَ أَنه ورد الْإِنْذَار بِخُرُوج شياطين يحدثُونَ النَّاس انْتهى. والتوقف مُتَّجه. وعَلى كل حَال فَالَّذِي يَنْبَغِي أَن الْإِنْذَار لَيْسَ بِوَاجِب لِأَن الأَصْل فِي الصُّورَة أَنَّهَا بَاقِيَة على خلقتها الْأَصْلِيَّة، وَقد أهْدر الشَّارِح هَذِه الصُّورَة أَعنِي صُورَة الْحَيَّة بِسَائِر أَنْوَاعهَا وَجعلهَا من الفواسق، وَقد مرّ أول هَذَا الْجَواب التحريض على قَتلهَا، وَهَذَا كُله يَقْتَضِي أَن الْإِنْذَار غير وَاجِب لِأَن كَونهَا صُورَة جنيّ أَمر مُحْتَمل وَلَيْسَ بمحقق، وَالِاحْتِمَال الْمُخَالف للْأَصْل لَا يَقْتَضِي الْوُجُوب لَكِن حَدِيث البُخَارِيّ وَمُسلم يَقْتَضِيهِ، وَلَفظ الأول عَن ابْن أبي ملكية: (أَن ابْن عمر كَانَ يقتل الْحَيَّات ثمَّ نهى قَالَ: إِن النَّبِي ﷺ هدم حَائِطا لَهُ فَوجدَ فِيهِ سلخ حَيَّة،
1 / 15
فَقَالَ: انْظُرُوا أَيْن هُوَ؟ فنظروه فَقَالَ: اقْتُلُوهُ فَكنت أقتلها لذَلِك فَلَقِيت أَبَا لُبابة فَأَخْبرنِي أَن النَّبِي ﷺ قَالَ: لَا تقتلُوا الْحَيَّات إِلَّا كل أَبتر ذِي طفيتين فَإِنَّهُ يسْقط الْوَلَد وَيذْهب الْبَصَر فَاقْتُلُوهُ) . وَلَفظه عَن نَافِع عَن ابْن عمر: (أَنه كَانَ يقتل الْحَيَّات فحدثه أَبُو لبَابَة أَن النَّبِي ﷺ نهى عَن قتل حيات الْبيُوت فَأمْسك عَنْهَا) . وَلَفظه عَن سَالم عَن ابْن عمر أَنه سمع النَّبِي ﷺ يخْطب على الْمِنْبَر: (اقْتُلُوا الْحَيَّات واقتلوا ذَا الطفيتين والأبتر فَإِنَّهُمَا يطمسان الْبَصَر ويسقطان الْحمل) . قَالَ عبد الله: فَبَيْنَمَا أطارد حَيَّة لأقتلها فناداني أَبُو لبَابَة لَا تقتلها فَقلت إِن رَسُول الله ﷺ قد أَمر بقتل الْحَيَّات قَالَ إِنَّه نهى بعد ذَلِك عَن ذَوَات الْبيُوت وَهن العوامر) . وَلَفظ الثَّانِي عَن نَافِع قَالَ: (كَانَ عبد الله ﷺ بن عمر ﵄ يَوْمًا عِنْد هدم لَهُ فرأي أَبيض جَان فَقَالَ اتبعُوا هَذَا الجان فَاقْتُلُوهُ، فَقَالَ أَبُو لبَابَة الْأنْصَارِيّ: إِنِّي سَمِعت رَسُول الله ﷺ نهى عَن قتل الجان الَّذِي يكون فِي الْبيُوت إِلَّا الأبتر وَذَا الطفيتين فَإِنَّهُمَا اللَّذَان يخطفان الْبَصَر ويتبعان مَا فِي بطُون النِّسَاء) فَظَاهر قَوْله فِي الأول: (لَا تقتلُوا الْحَيَّات) وَقَوله فِي الثَّانِي: (نهى) حُرْمَة قتل الجان الْمَذْكُور إِلَّا أَن يُقَال غير مَعْمُول بِظَاهِرِهِ من حُرْمَة الْقَتْل وَلَو بعد الْإِنْذَار، وَفِيه مَا فِيهِ إِذْ الْمُطلق فِي هَذِه الرِّوَايَة مَحْمُول على الْمُقَيد فِي غَيرهَا من قَتلهَا بعد الْإِنْذَار مُطلقًا وَبِهَذَا يُقيد أَيْضا. مَا أخرجه أَبُو دَاوُد عَن ابْن مَسْعُود ﵁ قَالَ: (اقْتُلُوا الْحَيَّات إِلَّا الجان الْأَبْيَض الَّذِي كَأَنَّهُ قضيب فضَّة) . وَاعْلَم أَن حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ ﵁ يَقْتَضِي طلب تقدم الْإِنْذَار فِي سَائِر أَنْوَاع الْحَيَّات، وحينئذٍ يُعَارض مَا مر أول الْجَواب من إِطْلَاق الْأَمر بقتلها. وَقد يُجَاب بِأَن إِطْلَاق الْأَمر بِالْقَتْلِ مَنْسُوخ كَمَا عرف من رِوَايَة البُخَارِيّ السَّابِقَة أَيْضا، وَيحمل هَذَا على مَا إِذا لم يذهب بالإنذار وَإِلَّا قتل جانًا كَانَ أَو غَيره، ويعارض اسْتثِْنَاء الأبتر وَذي الطفيتين إِلَّا أَن يُجَاب بِأَن اسْتثِْنَاء هذَيْن يَقْتَضِي أَن الجني لَا يتصوّر بصورتهما فيسنّ قَتلهمَا مُطلقًا. ثمَّ رَأَيْت الزَّرْكَشِيّ نقل ذَلِك عَن الْمَاوَرْدِيّ فَقَالَ: إِنَّمَا أَمر بِقَتْلِهِمَا لِأَن الْجِنّ لَا تتمثل بهما، وَإِنَّمَا نهى عَن ذَوَات الْبيُوت لِأَن الجني يتَمَثَّل بهَا وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه ﷺ قَالَ: (اقتلوهما فَإِنَّهُمَا يطمسان الْبَصَر ويسقطان الحبالى) قَالَ الزُّهْرِيّ: ونرى ذَلِك من سمهما، وَظَاهر الْأَحَادِيث السَّابِقَة اخْتِصَاص طلب الْإِنْذَار بعامر الْبيُوت وَهُوَ مُحْتَمل، وَيحْتَمل أَنه إِنَّمَا خص بذلك لِأَنَّهُ يتَأَكَّد فِيهِ أَكثر وَإِلَّا فالعلة الْمَعْلُومَة مِمَّا مر تَقْتَضِي طلب الْإِنْذَار فِيمَا عدا الأبتر وَذَا الطفيتين سَوَاء كَانَت عَامر بَيت أَو بُسْتَان أَو بِئْر أَو غَيرهَا وَالتَّعْبِير بذوات الْبيُوت وَهن العوامر فِي رِوَايَة البُخَارِيّ السَّابِقَة كَأَنَّهُ للْغَالِب. وَلَا يُنَافِي مَا مر من عدم وجوب الْإِنْذَار مَا أخرجه أَبُو الشَّيْخ وَابْن أبي الدُّنْيَا أَن عَائِشَة ﵂ أمرت بقتل جَان أَو حَيَّة فَقيل لَهَا إِنَّه مِمَّن اسْتمع الْوَحْي مَعَ النَّبِي ﷺ فتصدقت بِاثْنَيْ عشر ألف دِرْهَم وَفِي رِوَايَة: أعتقت أَرْبَعِينَ رَأْسا وَذَلِكَ لِأَنَّهَا إِنَّمَا فعلت ذَلِك تورعًا كَمَا هُوَ ظَاهر. وَبِمَا تقرر علم أَنه لَا يطْلب التَّحَوُّل من الدَّار لأجل مَا ظهر من الْحَيَّات فِيهَا بل تنذر ثَلَاثًا فَإِن ذهبت وَإِلَّا قتلت، وَإِن الثَّلَاث ثَلَاثَة أَيَّام عِنْد الْجُمْهُور وَثَلَاث سَاعَات عِنْد غَيرهم، وَأَن سَائِر الْحَيَّات العوامر فِي ذَلِك سَوَاء إِلَّا الأبتر وَذَا الطفيتين، وَلما مر فيهمَا وحيات الْبيُوت كَذَلِك لما مر فيهمَا، وَأَن حيات غير الْبيُوت لَا يبعد إلحاقها بحيات الْبيُوت، وَأَن كَيْفيَّة الْكَلَام الَّذِي يُقَال عِنْد الْإِنْذَار. مَا أخرج أَبُو دَاوُد عَن أبي ليلى: (أَن رَسُول الله ﷺ سُئِلَ عَن حيات الْبيُوت فَقَالَ: إِذا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئا فِي مَسَاكِنكُمْ فَقولُوا: أنشدكن الْعَهْد الَّذِي أَخذ عليكن نوح، أنشدكن الْعَهْد الَّذِي أَخذ عليكن سُلَيْمَان أَن لَا تؤذونا فَإِن عدن فاقتلوهن) وَذكر الحَدِيث فِي (أُسد الغابة) عَن أبي ليلى بِلَفْظ: (إِذا ظَهرت الْحَيَّة فِي الْمسكن فَقولُوا لَهَا: إِنَّا نَسْأَلك بِعَهْد نوح ﵇ وبعهد سُلَيْمَان بن دَاوُد ﵉ لَا تؤذينا فَإِن عَادَتْ فاقتلوها) ثمَّ رَأَيْت الطَّحَاوِيّ من أَئِمَّة الحَدِيث وَالْفِقْه على مَذْهَب أبي حنيفَة رحمهمَا الله صرح بِمَا قَدمته من أَن الْإِنْذَار غير وَاجِب. وَعبارَته لَا بَأْس بقتل الْجَمِيع وَالْأولَى بعد الْإِنْذَار انْتَهَت، وَهِي غير صَرِيحَة فِيمَا قَدمته أَيْضا من أَن الْإِنْذَار مَنْدُوب فِي الْجَمِيع وَإِنَّمَا استثنيت مِنْهُ النَّوْعَيْنِ السَّابِقين أخذا بِالْحَدِيثِ وَالْعلَّة كَمَا مر، وَيُؤْخَذ من عِبَارَته أَيْضا أَن مَا نقل عَن الْحَنَفِيَّة من أَنه لَا يَنْبَغِي أَن تقتل الْحَيَّة الْبَيْضَاء لِأَنَّهَا من الجان مَحْمُول على أَن سَبَب
1 / 16
تخصيصها بذلك أَن ظن كَونهَا من الْجِنّ أقوى من ظن كَونهَا من بَقِيَّة الْحَيَّات فخصت ليَكُون الْإِنْذَار، وتجنب الْقَتْل مِنْهُم فِي حَقّهَا آكِد مِنْهُ فِي حق غَيرهَا. وَأما تَفْصِيل الْعَهْد الَّذِي أَخذه نوح وَالَّذِي أَخذه سُلَيْمَان فَلم أرَ أحدا صرح بِهِ على أَنه لَا حَاجَة للتصريح بِهِ إِذْ لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ كَبِير فَائِدَة وَلم أرَ أحدا بسط الْكَلَام على هَذِه الْمَسْأَلَة كَمَا ذكرته وَلَا قَرِيبا مِنْهُ، وَإِنَّمَا غايتهم أَن يذكرُوا بعض مَا مر من الْأَحَادِيث وَأَن الْإِنْذَار ثَلَاثَة أَيَّام أَو سَاعَات وَهل يخْتَص بِالْمَدِينَةِ أَو لَا. وَأما الْكَلَام على الْأَحَادِيث وَبَيَان تعارضها وَمَا تدل عَلَيْهِ من وجوب الْإِنْذَار أَو نَدبه فأغفلوه على أَنه من الْمُهِمَّات الَّتِي يتَأَكَّد الاعتناء بهَا وبذل الْجهد فِيهَا، وَلَعَلَّ أَن نظفر بِكَلَام أحد من الْأَئِمَّة المعتبرين يُوَافق مَا ذكرته أَو يُخَالِفهُ وَالله أعلم بِالصَّوَابِ. ثمَّ أجبْت عَن هَذَا السُّؤَال بِجَوَاب آخر وَهُوَ لَا يَنْبَغِي أَن تقتل حَيَّة الدَّار ابْتِدَاء، بل إِنَّمَا تقتل بعد الْإِنْذَار فِي الْمَدِينَة الشَّرِيفَة على مشرفها أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام وَغَيرهَا على الْأَصَح وَخبر مُسلم الْمُقْتَضِي للتخصيص بهَا غير مُرَاد بِهِ ظَاهره لأحاديث أخر مقتضية للتعميم. وَاخْتلف الْعلمَاء هَل ينذرها ثَلَاثَة أَيَّام أَو ثَلَاث مَرَّات وَلَو فِي سَاعَة وَاحِدَة؟ وجمهورهم على الأول وَلَعَلَّه لبَيَان الْأَفْضَل والأكمل، وَإِلَّا فَأصل طلب الْإِنْذَار يحصل بِثَلَاث مَرَّات، كَمَا ورد فِي حَدِيث وَإِن كَانَ حَدِيث الأول أصح، وَلم أرَ فِي الْأَحَادِيث مَا يدل على طلب التَّحَوُّل من الدَّار لأَجلهَا، وَإِنَّمَا الَّذِي فِي الْأَحَادِيث مَا تقرر من أَنَّهَا تنذر فَإِن ذهبت وَإِلَّا قتلت لِأَنَّهَا شَيْطَان كَمَا فِي رِوَايَة (أَو كَافِر) كَمَا فِي أُخْرَى، وَورد فِي أَحَادِيث مَا يَقْتَضِي أَن جَمِيع أَنْوَاع الْحَيَّة كَذَلِك لَكِن فِي بَعْضهَا اسْتثِْنَاء الأبتر وَذي الطفيتين، وَعلله ﷺ فِي حَدِيثهمَا فِي (الصَّحِيحَيْنِ) بِأَنَّهُمَا يطمسان الْبَصَر ويسقطان الْجَنِين. قَالَ الزُّهْرِيّ: نرى ذَلِك من سمهما، وَورد فِي أَحَادِيث أخر مَا يَقْتَضِي اخْتِصَاص طلب الْإِنْذَار بحيات الْبيُوت، وَظَاهر كَلَام بعض الْأَئِمَّة الْأَخْذ بِهَذَا الْمُقْتَضى وَأَن حيات غير الْبيُوت تقتل مُطلقًا، وَالَّذِي يتَّجه أَن التَّقْيِيد بعوامر الْبيُوت فِي حَدِيث، وَبِقَوْلِهِ ﷺ (من رأى فِي بَيته) فِي حَدِيث آخر إِنَّمَا هُوَ للْغَالِب أَو لمزيد التَّأْكِيد وَإِلَّا فعلة طلب الْإِنْذَار من احْتِمَال أَنَّهَا صُورَة جني كَمَا دلّت عَلَيْهِ الْأَحَادِيث قاضية بِأَنَّهُ لَا فرق فيطلب الْإِنْذَار فِي الْبَيْت والبستان وَغَيرهمَا وَبعد الْإِنْذَار يقتل حَتَّى الْأَبْيَض الَّذِي كالفضة، وَمَا ورد عَن ابْن مَسْعُود ﵁ مِمَّا يَقْتَضِي عدم قَتله مُطلقًا يحمل على مَا إِذا لم ينذر وَأَن الْإِنْذَار يتَأَكَّد فِيهِ لِأَنَّهُ أقرب إِلَى صُورَة الْجِنّ من غَيره وَكَذَلِكَ يحمل على هَذَا حَدِيث مُسلم (أَنه ﷺ نهى عَن قتل الجان إِلَّا الأبتر وَذَا الطفيتين) . وَفِي حَدِيث مُرْسل عِنْد أبي دَاوُد وَغَيره أَن كَيْفيَّة الْإِنْذَار (أنشدكن الْعَهْد الَّذِي أَخذ عليكن نوح، أنشدكن الْعَهْد الَّذِي أَخذ عليكن سُلَيْمَان أَن لَا تؤذونا)، وَلم أرَ من بَين هَذَا الْعَهْد مَعَ أَنه لَا حَاجَة لبيانه لِأَن المُرَاد أَن كلا من النَّبِيين صلى الله على نَبينَا وَعَلَيْهِمَا وَسلم ألزموا الْجِنّ بِأَنَّهُم لَا يُؤْذونَ الْإِنْس فمؤمنهم يُرَاعِي ذَلِك الْإِلْزَام إِذا ذكرتهم وكافرهم لَا يعبأ بِهِ فَيقْتل بعده لِأَنَّهُ إِن كَانَ جنيًا فَهُوَ كَافِر وَإِن كَانَ حَيَّة أَصْلِيَّة فَهُوَ مهدر وكل مِنْهُم يقتل شرعا، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
١٢ - وَسُئِلَ فسح الله فِي مدَّته فِي خطيب يَقُول فِي خطبَته: إِن الْأَوْلِيَاء يردون الْحَوْض مَعَ النَّبِي ﷺ قبل الْأَنْبِيَاء، وَضرب لذَلِك مثلا من أَحْوَال الدُّنْيَا وَهُوَ أَن الرجل الْعَظِيم قد يصل أَتْبَاعه إِلَى منزله قبل من هُوَ أشرف مِنْهُم لقربهم إِلَيْهِ فَهَل مَا قَالَه صَحِيح؟ فَأجَاب متع الله بحياته: مَا ذكره هَذَا الْخَطِيب إِنَّمَا يتم إِن ثَبت أَن الْأَنْبِيَاء يردون حَوْض النَّبي ﷺ، وَلم أر مَا يدل لذَلِك بعد الفحص والاطلاع على الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْحَوْض عَن بضع وَخمسين صحابيًا لَيْسَ هَذَا مَحل بسطها بل الَّذِي رَأَيْته يدل لخلافه. فقد صرح التِّرْمِذِيّ عَن سَمُرَة ﵁ قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﷺ: (إِن لكل نَبِي حوضًا وَإِنَّهُم يتباهون أَيهمْ أَكثر وَارِدَة، وَإِنِّي أَرْجُو أَن أكون أَكْثَرهم وَارِدَة) . وَأخرج الطَّبَرَانِيّ عَن سَمُرَة بن جُنْدُب ﵁ أَن رَسُول الله ﷺ قَالَ: (إِن الْأَنْبِيَاء يتباهون أَيهمْ أَكثر أصحابًا من أمته فأرجو أَن أكون يومئذٍ أَكْثَرهم كلهم وَارِدَة، وَإِن كل نَبِي مِنْهُم يومئذٍ قَائِم على حَوْض ملآن مَعَه عَصا يَدْعُو من عرف من أمته، وَلكُل أمة نَبِي سِيمَا يعرفهُمْ بهَا نَبِيّهم) فهذان الحديثان صريحان فِي أَن لكل نَبِي حوضًا مُسْتقِلّا ترده أمته، وحينئذٍ فَلَا يتم لهَذَا الْخَطِيب مَا ذكره فَيُطَالب بمستنده فِي هَذِه الْمقَالة فَإِن بَين مَا يصلح مُسْتَندا
1 / 17
لذَلِك فَلَا ملام عَلَيْهِ، بل هُوَ محسن مطلع، وَإِن لم يبين ذَلِك أدب لمجازفته فِي الدّين التَّأْدِيب الشَّديد، لينزجر عَن الْخَوْض فِي الْحَوْض وَعَن هَذَا الْأَمر الصعب فَإِن أُمُور الْآخِرَة من المغيبات عَنَّا فَلَا يجوز لنا أَن نقدم على الْإِخْبَار بِشَيْء مِنْهَا إِلَّا إنْ صَحَّ سَنَده عَن النَّبِي ﷺ، وَأَن مَا لَا يَصح سَنَده لَا يجوز ذكره إِلَّا مَعَ بَيَان ضعفه أَو مخرجه، وَأما الْجَزْم كَمَا وَقع لهَذَا الْخَطِيب فَلَا يجوز إِلَّا بِمَا علمت صِحَّته عَن النَّبِي ﷺ، ثمَّ ظَاهر قَوْله: إِن الْوَلِيّ قد يبلغ دَرَجَة النَّبِي ﷺ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى الْكفْر، فَإِن من اعْتقد أَن الْوَلِيّ يبلغ مرتبَة النَّبِي ﷺ فقد كفر فليحذر هَذَا الْخَطِيب الْخَوْض فِي نَحْو ذَلِك من الْمسَائِل المشكلة فَإِن منْ لم يتضلع من الْعُلُوم السمعية والنظرية يكون خَطؤُهُ أَكثر من صَوَابه، نسْأَل الله التَّوْفِيق.
وَأخرج ابْن أبي عَاصِم فِي (الْمسند) عَن عَليّ كرم الله وَجهه سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول: (أول من يرد عليّ الْحَوْض أهل بَيْتِي وَمن أَحبَّنِي من أمتِي) . وَفِي حَدِيث مُسلم: (ترد عليّ أمتِي الْحَوْض يَوْم الْقِيَامَة آنيته عدد الْكَوَاكِب يختلج العَبْد مِنْهُم، فَأَقُول يَا رب إِنَّه من أمتِي، فَيَقُول: إِنَّك لَا تَدْرِي مَا أحدث بعْدك) وَفِي رِوَايَة عِنْد الطَّبَرَانِيّ: (لَا يشرب مِنْهُ من أَخْفَر ذِمَّتِي وَلَا من قتل أحدا من أهل بَيْتِي) . وروى مُسلم وَأحمد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه عَن ثَوْبَان ﵁ سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول: (حَوْضِي من عدن إِلَى عمان مَاؤُهُ أَشد بَيَاضًا من اللَّبن وَأحلى من الْعَسَل، وأكؤسه عدد نُجُوم السَّمَاء من شرب مِنْهُ شربة لَا يظمأ بعْدهَا أبدا أول النَّاس على ورودًا فُقَرَاء الْمُهَاجِرين، فَقَالَ عمر: من هم يَا رَسُول الله؟ قَالَ: الشعث رؤوسًا الدُنُس ثيابًا لَا ينْكحُونَ المنعمَّات وَلَا تفتح لَهُم السدد) أَي أَبْوَاب السلاطين. وَفِي رِوَايَة لمُسلم وَابْن مَاجَه: (إِنِّي لأذود عَنهُ الرِّجَال كَمَا يذود الرجل الْإِبِل الغريبة عَن حَوْضه قيل: يَا رَسُول الله أَو تعرفنا؟ قَالَ: نعم، تردون عَليّ غُرَّا محجلين من أثر الْوضُوء لَيست لأحد غَيْركُمْ) . وَأخرج أَحْمد وَالْحَاكِم: (مَا أَنْتُم بِجُزْء من مائَة ألف جُزْء مِمَّن يرد عليّ الْحَوْض يَوْم الْقِيَامَة) . وَفِي هَذِه إِشَارَة إِلَى كَثْرَة أمته ﷺ. وَأخرج الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره: (حَوْضِي أشْرب مِنْهُ يَوْم الْقِيَامَة) وَأخرج ابْن حبَان وَالطَّبَرَانِيّ: (لتزدحم هَذِه الْأمة على الْحَوْض ازدحام الْإِبِل إِذا وَردت لخمس) . وَأخرج التِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم عَن كَعْب بن عجْرَة أَن النَّبِي ﷺ خرج عَلَيْهِم فَقَالَ: (إِنَّه سَيكون أُمَرَاء بعدِي فَمن دخل عَلَيْهِم فَصَدَّقَهُمْ بكذبهم وَأَعَانَهُمْ على ظلمهم فَلَيْسَ مني وَلست مِنْهُ، وَلَيْسَ بوارد على الْحَوْض وَمن لم يدْخل عَلَيْهِم وَلَا يعينهم على ظلمهم وَلم يُصدقهُمْ بكذبهم فَهُوَ مني وَأَنا مِنْهُ وَهُوَ وَارِد على الْحَوْض) . [فَائِدَة] نقل الْقُرْطُبِيّ عَن الْعلمَاء أَنه يطرد عَن الْحَوْض من ارْتَدَّ أَو أحدث بِدعَة كالروافض والظلمة المسرفين فِي الْجور والمعلن بِالْمَعَاصِي، ثمَّ الطَّرْد للْمُسلمِ قد يكون فِي حَال، وَقد يشرب مِنْهُ ذُو الْكَبِيرَة، ثمَّ إِذا دخل النَّار لَا يعذب بالعطش اه مُلَخصا، وَهَذَا بِنَاء على أَن الْحَوْض قبل الصِّرَاط. وَالَّذِي رَجحه القَاضِي عِيَاض أَنه بعده وَأَن الشّرْب مِنْهُ بعد الْحساب والنجاة من النَّار، وأيده الْحَافِظ ابْن حجر بِأَن ظَاهر الْأَحَادِيث أَن الْحَوْض بِجَانِب الْجنَّة لينصبّ فِيهِ المَاء من النَّهر الَّذِي داخلها فَلَو كَانَ قبل الصِّرَاط لحالت النَّار بَينه وَبَين المَاء الَّذِي ينصب من الْكَوْثَر، وَلَا يُنَافِيهِ أَن جمعا يدْفَعُونَ عَنهُ بعد رُؤْيَته إِلَى النَّار لأَنهم يقربون مِنْهُ بِحَيْثُ يرونه فيدفعون فِي النَّار قبل أَن يخلصوا من بَقِيَّة الصِّرَاط وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
١٣ - وَسُئِلَ أمدنا الله من مدده: فِي قَول الإِمَام النَّوَوِيّ فِي الْأَذْكَار: بَاب مَا يَقُول إِذا رأى قَرْيَة يُرِيد دُخُولهَا أَو لَا يُريدهُ، وَذكر فِي ذَلِك حديثين مقيدين بِالدُّخُولِ، وَلم يذكر لعدم إِرَادَة الدُّخُول حَدِيثا، وَقد ذكره فِي تَرْجَمَة الْبَاب فَهَل الذّكر يفهم يَا سَيِّدي من سِيَاق الْحَدِيثين الْمَذْكُورين أَو من أَحدهمَا، عدم التَّقْيِيد بِإِرَادَة الدُّخُول أم لَا؟ وَيكون عدم تَقْيِيد الذّكر بِالدُّخُولِ فهمه النَّوَوِيّ من غير هذَيْن الْحَدِيثين اللَّذين أوردهما، وَرُبمَا يرى الْإِنْسَان فِي تراجم أَبْوَاب الرياض والأذكار شَيْئا زَائِدا على الْأَحَادِيث الَّتِي يَسُوقهَا فِي ذَلِك الْبَاب فَهَل ذَلِك لدقة فهمه من الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة على من لَيْسَ لَهُ خبْرَة بِالْحَدِيثِ أَو إِنَّمَا زَاده الإِمَام النَّوَوِيّ لما قَامَ عِنْده من غير الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة؟ أفتونا مَأْجُورِينَ أثابكم الله النَّعيم الأبدي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة بمنه وَكَرمه آمين؟ فَأجَاب ﵁: إِنَّمَا ذكر النَّوَوِيّ رَحمَه الله تَعَالَى فِي التَّرْجَمَة عدم إِرَادَة الدُّخُول مَعَ التَّقْيِيد بإرادته فِي الحَدِيث للْإِشَارَة إِلَى أَن التَّقْيِيد بِإِرَادَة الدُّخُول فِي الحَدِيث
1 / 18
لَيْسَ لَهُ مَفْهُوم نظرا للمعنى الَّذِي ندب لأَجله أَن يُقَال ذَلِك، وَذَلِكَ الْمَعْنى هُوَ خيفة الْإِيذَاء من سَاكِني ذَلِك الْمحل وَغَيرهم مِمَّا فِيهِ من الأفاعي وَالْجِنّ والجمادات، وَإِذا تقرر أَن هَذَا هُوَ السَّبَب الْحَامِل على الْإِتْيَان بِهَذَا الذّكر اتَّضَح أَن ذكر إِرَادَة الدُّخُول فِي الحَدِيث لَا مَفْهُوم لَهُ لِأَنَّهُ خرج مخرج الْغَالِب على أَنه فِي (شرح الْمُهَذّب) جرى على ظَاهر الحَدِيث فَقَالَ: يسْتَحبّ إِذا أشرف على قَرْيَة يُرِيد دُخُولهَا أَو منزل أَن يَقُول: اللَّهم إِنِّي أَسأَلك خَيرهَا إِلَخ لكنه فِي هَذَا التَّعْبِير أَشَارَ إِلَى استنباط آخر، وَهُوَ أَن التَّعْبِير بالقرية فِي الحَدِيث لَيْسَ للاشتراط بل للْغَالِب فَلِذَا ألحق سَائِر الْمنَازل بهَا فِي ندب الدُّعَاء الْمَذْكُور عِنْد الإشراف عَلَيْهِ، وَإِن لم تكن قَرْيَة. فاستفيد من مَجْمُوع كَلَامه فِي الْكِتَابَيْنِ أَن التَّقْيِيد بِإِرَادَة الدُّخُول وبالقرية فِي الحَدِيث لَا مَفْهُوم لَهُ وَأَن الْمنزل كالقرية وَعدم إِرَادَة الدُّخُول كإرادته، وَالْحَامِل لَهُ على ذَلِك وَالله أعلم مَا ذكرته من أَن الْمَعْنى الَّذِي طلب لأَجله هَذَا الدُّعَاء مَوْجُود عِنْد رُؤْيَة الْقرْيَة والمنزل وَعند إِرَادَة الدُّخُول وَعدمهَا إِذْ النَّفس تخشى من مَحل اجْتِمَاع النَّاس ومنازلهم وَمَا يتبعهُم أَن يلْحقهَا من ذَلِك نوع ضَرَر فشرع لَهَا هَذَا الدُّعَاء تطمينًا لَهَا وإرشادًا إِلَى مزِيد شُهُود الافتقار والضعف والذلة ليَكُون ذَلِك متكفلًا لَهَا بالسلامة من كل مؤذ. وَبِمَا تقرر علم حسن صَنِيع النَّوَوِيّ ودقة فهمه فِي الحَدِيث وَبَالغ إشاراته إِلَى حقائقه، وَهَكَذَا يُقَاس بِمَا قُلْنَاهُ مَا يَقع لَهُ من نَظِير ذَلِك أَفَاضَ الله علينا من بَرَكَات أنفاسه الطاهرة وحشرنا فِي زمرته وعَلى قدمه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ومنّ علينا بِرِضَاهُ فِي هَذِه الدَّار إِلَى أَن نَلْقَاهُ إِنَّه هُوَ الْجواد الرَّحِيم، وَالله سُبْحَانَهُ أعلم بِالصَّوَابِ.
١٤ - وَسُئِلَ ﵁: هَل خلقت الأَرْض قبل السَّمَاء؟ فَأجَاب نفع الله بِعُلُومِهِ وبركته: نعم كَمَا صَحَّ فِي البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس ﵄ وَالْقُرْآن نَاطِق بِهِ. وَأجَاب عَن قَوْله تَعَالَى: ﴿أَءَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا﴾ [النازعات: ٢٧] الْآيَة؛ بِأَن الأَرْض خلقت أَولا كالخبزة وخلقت السَّمَاء بعْدهَا ثمَّ هيأ الأَرْض ودحاها، وَالله أعلم.
١٥ - وَسُئِلَ ﵁: هَل اللَّيْل أفضل من النَّهَار؟ فَأجَاب فسح الله فِي مدَّته: قَالَ جمَاعَة: النَّهَار أفضل من اللَّيْل لما فِيهِ من فضل الِاجْتِمَاع على الْقُرْآن وَالذكر. وَقَالَ آخَرُونَ: بل اللَّيْل أفضل إِذْ لَيْلَة الْقدر خير من ألف شهر، وَلَيْسَ لنا يَوْم خيرا من ألف شهر، وَيدل لَهُ قَوْلهم: لَو قَالَ أَنْت طَالِق فِي أفضل الْأَوْقَات طلقت لَيْلَة الْقدر، واختصاصه بالتجلي الْأَكْبَر وبالمعراج، وَالله سُبْحَانَهُ أعلم.
١٦ - وَسُئِلَ ﵁: هَل الْعَرْش أفضل من الْكُرْسِيّ؟ فَأجَاب ﵀ بقوله: نعم كَمَا صرح بِهِ ابْن قُتَيْبَة، وَصرح أَيْضا بِأَن الْكُرْسِيّ أفضل من السَّمَاء، وَأَن الشَّام أفضل من الْعرَاق، وَبِأَن الْحجر أفضل من الرُّكْن الْيَمَانِيّ، وَهُوَ أفضل الْقَوَاعِد، وَالله أعلم.
١٧ - وَسُئِلَ نفع الله تَعَالَى بِعُلُومِهِ: هَل اللَّيْل فِي السَّمَاء كالأرض؟ فَأجَاب ﵁ بقوله: الَّذِي دلّت عَلَيْهِ الْآيَات القرآنية أَنه من خَواص أهل الأَرْض، لِأَن الله تَعَالَى امتن بِهِ علينا رَاحَة لنا لأَنا نتعب ونمل بِخِلَاف أهل السَّمَاء؛ وَمعنى ﴿يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ﴾ [الْأَنْبِيَاء: ٢٠] أَنهم دائمون على ذَلِك فكنى بذلك عَن الدَّوَام وَوُقُوع الْمِعْرَاج لَيْلًا إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لأهل الأَرْض وَالله سُبْحَانَهُ أعلم.
١٨ - وَسُئِلَ ﵁: فِي رجل لَيست لَهُ معرفَة تَامَّة بالطب وَيَجِيء إِلَيْهِ أَصْحَاب الْعِلَل فَينْظر فِي كتب الطِّبّ فَمَا وجده مُوَافقا طِبًّا لطبعه داوى بِهِ وَلم يدر تشخيص الْعلَّة لصَاحب الْعلَّة بل قَالَ لَهُ: افْعَل فَمنهمْ من يبرأ وَمِنْهُم من لَا، فَمَا الحكم فِي ذَلِك وَمَا حكم الْمَأْخُوذ مِنْهُم بِالرِّضَا؟ فَأجَاب نفع الله بِعُلُومِهِ وبركته: من يطالع كتب الطِّبّ وَيذكر للنَّاس مَا فِيهَا من غير أَن يتشخص الْعلَّة فقد جازف وتجرأ على إِفْسَاد أبدان النَّاس وإلحاق الضَّرَر بهم، لِأَن من لَا يتشخص الْعلَّة وَلَا يتَيَقَّن كليات علم الطّلب لَا يجوز لَهُ أَن يُفْتِي بِشَيْء من جزئياته لِأَن الجزئيات لَا يضبطها إِلَّا الكليات، ومِنْ ثمَّ قَالَ بعض حذاق الْأَطِبَّاء: كتبنَا قاتلة للفقهاء أَي إِنَّهُم يرَوْنَ فِيهَا أَن الشَّيْء الْفُلَانِيّ دَوَاء لِلْعِلَّةِ الْفُلَانِيَّة فيستعملونه لتِلْك الْعلَّة غافلين عَن أَن فِي الْبدن عِلّة خُفْيَة تضَاد ذَلِك الدَّوَاء فَيكون الْقَتْل حينئذٍ من حَيْثُ ظنوه نَافِعًا، وحينئذٍ فَلَا يصلح ذَلِك الدَّوَاء إِلَّا لمن علم أَنه لَيْسَ فِي الْبدن مضاد لَهُ، وَلَا يُحِيط بذلك إِلَّا الطَّبِيب الماهر الَّذِي أَخذ الْعلم عَن الصُّدُور لَا عَن السطور، وَلَا خُصُوصِيَّة لعلم الطِّبّ بذلك بل كل من أَخذ الْعلم عَن السطور كَانَ ضَالًّا مضلًا وَلذَا قَالَ النَّوَوِيّ ﵀: من رأى الْمَسْأَلَة فِي عشرَة كتب مثلا لَا يجوز لَهُ الْإِفْتَاء بهَا لاحْتِمَال أَن تِلْكَ الْكتب كلهَا مَاشِيَة على قَول أَو طَرِيق ضَعِيف، ثمَّ هَذَا الطَّبِيب إِذا
1 / 19
داوى ظنا مِنْهُ أَنه ينفع فَكَانَ مضرًا فَلَا شَيْء عَلَيْهِ غير الْإِثْم الشَّديد وَالْعَذَاب الْعَظِيم فِي دَار الْوَعيد فليتق الله وَيرجع عَن ذَلِك وَإِلَّا فَهُوَ من أهل المهالك، وَأما مَا يَأْخُذهُ مِنْهُم فَهُوَ محرم عَلَيْهِ أكله لأَنهم لم يسمحوا لَهُ بِهِ إِلَّا ظنا مِنْهُم أَنه يعرف مَا يصفه من الْأَدْوِيَة وَغَيرهَا، وَلَو علمُوا أَنه معاقب آثم بِمَا يَفْعَله لم يُعْطه أحد شَيْئا فَهُوَ آخذ لَهُ بالغش والبهتان والجور والعدوان، وَالله أعلم.
١٩ - وَسُئِلَ ﵁، مَا حكم كتب العزائم وتعليقها على الصّبيان وَالدَّوَاب؟ فَأجَاب ﵁: وفسح فِي مدَّته: يجوز كتب العزائم الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَيْء من الْأَسْمَاء الَّتِي لَا يعرف مَعْنَاهَا، وَكَذَلِكَ يجوز تَعْلِيقهَا على الْآدَمِيّين وَالدَّوَاب، وَالله سُبْحَانَهُ أعلم بِالصَّوَابِ.
٢٠ - وَسُئِلَ نفع الله بِعُلُومِهِ: السُّؤَال عَن النحس والسعد وَعَن الْأَيَّام والليالي الَّتِي تصلح لنَحْو السّفر والانتقال مَا يكون جَوَابه؟ فَأجَاب ﵁: من يسْأَل عَن النحس وَمَا بعده لَا يُجَاب إِلَّا بِالْإِعْرَاضِ عَنهُ وتسفيه مَا فعله وَيبين لَهُ قبحه، وَأَن ذَلِك من سنة الْيَهُود لَا من هدي الْمُسلمين المتوكلين على خالقهم وبارئهم الَّذين لَا يحسبون وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ، وَمَا ينْقل من الْأَيَّام المنقوطة وَنَحْوهَا عَن عَليّ كرم الله وَجهه بَاطِل كذب لَا أصل لَهُ فليحذر من ذَلِك وَالله أعلم.
٢١ - وسئلت: هَل كل محتضر يرى ملك الْمَوْت ﵇ صَغِير وكبير وأعمى وبصير آدَمِيّ وَغَيره؟ فَأُجِيب بِقَوْلِي: ورد مَا يدل على مُعَاينَة المحتضر الَّذِي لم يمت فَجْأَة لملك الْمَوْت أَو بعض أعوانه؛ فَمن ذَلِك حَدِيث أبي نعيم أَنه ﷺ قَالَ: (احضروا مَوْتَاكُم ولقنوهم لَا إِلَه إِلَّا الله وبشروهم بِالْجنَّةِ فَإِن الْحَلِيم من الرِّجَال وَالنِّسَاء يتحير عِنْد ذَلِك المصرع، وَإِن الشَّيْطَان أقرب مَا يكون من ابْن آدم عِنْد ذَلِك المصرع، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لمعاينة ملك الْمَوْت أشدّ من ألف ضَرْبَة بِالسَّيْفِ) . فَقَوله: (وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لمعاينة ملك الْمَوْت إِلَخ) الَّذِي وَقع كالتعليل لما قبله من طلب التَّلْقِين وَمَا مَعَه لكل من حَضَره الْمَوْت يومىء إِلَى أَن كل محتضر يطْلب تلقينه يعاين ملك الْمَوْت وَإِلَّا لم يكن للحلف على ذَلِك بل وَلَا لذكره مُنَاسبَة لهَذَا الْمقَام أَلْبَتَّة، وَفِي حَدِيث (إِن ملك الْمَوْت إِذا سمع الصُّرَاخ يَقُول: يَا وَيْلكُمْ مِم الْجزع وفيم الْجزع؟ مَا أذهبت لوَاحِد مِنْكُم رزقا وَلَا قربت لَهُ أََجَلًا وَلَا أَتَيْته حَتَّى أُمرت، وَلَا قبضت روحه حَتَّى استأمرت، وَإِن لي فِيكُم عودة ثمَّ عودة ثمَّ عودة حَتَّى لَا أبقى مِنْكُم أحدا. قَالَ ﷺ: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو يرَوْنَ مَكَانَهُ أَو يسمعُونَ كَلَامه لذهلوا عَن ميتهم ولبكوا على أنفسهم) الحَدِيث. وَفِي حَدِيث آخر: (أَنه ﷺ نظر لملك الْمَوْت عِنْد رجل من الْأَنْصَار فَقَالَ: ارْفُقْ بصاحبنا فَإِنَّهُ مُؤمن، فَقَالَ ملك الْمَوْت ﵇: يَا مُحَمَّد طب نفسا وقر عينا فَإِنِّي بِكُل مُؤمن رَفِيق. وَاعْلَم أَن مَا من أهل بَيت مدر وَلَا شعر فِي بر وَلَا بَحر إِلَّا وَأَنا أتصفحهم فِي كل يَوْم خمس مَرَّات حَتَّى لأَنا أعرف بصغيرهم وَكَبِيرهمْ مِنْهُم بِأَنْفسِهِم، وَالله يَا مُحَمَّد لَو أَنِّي أردْت أَن أَقبض روح بعوضة مَا قدرت على ذَلِك حَتَّى يكون الله هُوَ الْآمِر بقبضها) . قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَفِي هَذَا الْخَبَر مَا يدل على أَن ملك الْمَوْت هُوَ الْمُوكل بِقَبض كل ذِي روح وَأَن تصرفه كُله بِأَمْر الله ﷿ وبخلقه وإرادته وَلَا يُنَافِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الأٌّنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا﴾ [الزمر: ٤٢] وَقَوله: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ [الْأَنْعَام: ٦١] وَقَوله تَعَالَى: ﴿إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَائِكَةُ﴾ [الْأَنْفَال: ٥٠] . وَمَا فِي حَدِيث: (إِن الْبَهَائِم كلهَا يتَوَلَّى الله أرواحها دون ملك الْمَوْت) وَذَلِكَ لِأَن ملك الْمَوْت يقبض الْأَرْوَاح والأعوان يعالجون وَالله ﷾ هُوَ الَّذِي يزهق الرّوح وَبِهَذَا يجمع بَين الْآيَات وَالْأَخْبَار لَكِن لما كَانَ ملك الْمَوْت يتَوَلَّى ذَلِك بالوساطة والمباشرة أضيف التوفي إِلَيْهِ كَمَا أضيفت الْخلق للْملك فِي خبر مُسلم: (إِذا مر بالنطفة ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَة بعث الله إِلَيْهَا ملكا فصوّرها وَخلق سَمعهَا وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها) . وَفِي حَدِيث آخر: (إِن ملك الْمَوْت قَالَ للنَّبي ﷺ لَيْلَة الْإِسْرَاء بعد كَلَام طَوِيل: فَإِذا نفذ أجل عبد نظرت إِلَيْهِ زِيَادَة فَإِذا نظرت إِلَيْهِ عرفُوا أعواني من الْمَلَائِكَة أَنه من مَقْبُوض غدٍ، وانبطشوا بِهِ يعالجون نزع روحه فَإِذا بلغُوا بِالروحِ الْحُلْقُوم عرفت ذَلِك فَلم يخف عليّ شَيْء من أمره مددت يَدي فأنزعه من جسده وألي قَبضه) . وَفِي خبر آخر: (إِنَّه ينزل عَلَيْهِ أَرْبَعَة من الْمَلَائِكَة ملك يجذب النَّفس من قدمه الْيُمْنَى، وَملك يجذبها من قدمه الْيُسْرَى، وَملك يجذبها من يَده الْيُمْنَى، وَملك يجذبها من يَده الْيُسْرَى) ذكره الْغَزالِيّ قَالَ: وَرُبمَا كشف للْمَيت عَن الْأَمر الملكوتي قبل أَن يُغَرْغر فعاين الْمَلَائِكَة على حسب حَقِيقَة عمله فَإِن كَانَ لِسَانه
1 / 20
مُنْطَلقًا حدث بوجودهم، وَالله أعلم.
٢٢ - وسئلت عَمَّن رأى فِي نَومه أَنه ألبس لقميص النَّبِي إِبْرَاهِيم صلى الله على نَبينَا وَعَلِيهِ وعَلى سَائِر الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ وَهُوَ مسرور بذلك مَا تَعْبِير هَذِه الرُّؤْيَا؟ فَأُجِيب بِقَوْلِي: من رأى إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وعَلى نَبينَا وَسلم فَإِنَّهُ يرْزق الْحَج وينصر على أعدائه ويناله هول وَشدَّة من ملك جَائِر ثمَّ ينصر، وينال نعْمَة وَزَوْجَة مُؤمنَة وَيكون خَائفًا، وينال أَيْضا سُلْطَانا ورياسة، وَإِن قَصده رَئِيس لسوء صرفه الله عَنهُ، ويستغنى إِن كَانَ فَقِيرا وَإِن كَانَ غَنِيا ازْدَادَ غنى، ويولد لَهُ غُلَام مبارك بعد الشيخوخة واليأس من الْوَلَد مَعَ خصب يَنَالهُ فِي ذَلِك الْبَلَد وسعة وَيذْهب عَنهُ هم، فرؤيته ﷺ تؤذن بذلك كُله أَو بِبَعْضِه، وَرُبمَا أَذِنت أَيْضا بِأَن الرَّائِي يعق أَبَاهُ وَنَحْوه من أَقَاربه: أَي يُخَالِفهُ مُخَالفَة خير وَرُجُوع إِلَى الله تَعَالَى وانتصار لدينِهِ، وَأما الْقَمِيص فَإِنَّهُ يؤول بِالدّينِ وَالتَّقوى وَالْعَمَل والبشارة، وَهُوَ إِذا ألبسهُ الرجل امْرَأَة يَتَزَوَّجهَا، وَإِذا ألبسته الْمَرْأَة رجلا تتزوجه، ويؤول أَيْضا بشأن الرجل فِي دينه ودنياه فَإِن كَانَ تَاما بأكمامه سابغًا دلّ على كَمَال الرَّائِي فِي الدّين وَالدُّنْيَا، وَإِن كَانَ نَاقِصا أَو قَصِيرا أَو ضيقا دلّ على ضد ذَلِك كَمَا دلّ عَلَيْهِ حَدِيث البُخَارِيّ بَيْنَمَا أَنا نَائِم رَأَيْت النَّاس يعرضون عليّ وَعَلَيْهِم قمص مِنْهَا مَا يبلغ الثدي وَمِنْهَا مَا يبلغ دون ذَلِك وَمر على عمر بن الْخطاب وَعَلِيهِ قَمِيص يجره، قَالُوا: مَا أولته يَا رَسُول الله؟ قَالَ: الدّين) . وَقد قيل فِي وَجه تَعْبِير الْقَمِيص بِالدّينِ أَن الْقَمِيص يستر الْعَوْرَة فِي الدُّنْيَا وَالدّين يَسْتُرهَا فِي الْآخِرَة ويحجبها من كل مَكْرُوه، وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىاكُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الْأَعْرَاف: ٢٦] وَمن ثمَّ اتّفق أهل التَّعْبِير على أَن الْقَمِيص يعبر بِالدّينِ، وَأَن طوله يدل على بَقَاء آثَار صَاحبه من بعده. إِذا تقرر ذَلِك علم أَن رُؤْيَة لبس قَمِيص إِبْرَاهِيم صلى الله على نَبينَا وَعَلِيهِ وَسلم تدل على حسن دين الرَّائِي وكماله بِحَسب ذَلِك الْقَمِيص الَّذِي رأى أَنه لابسه هَذَا بِالنِّسْبَةِ للقميص، فَإِذا رأى مَعَ ذَلِك إِبْرَاهِيم أَيْضا دلّ على مَا قَدمته فِي رُؤْيَته صلى الله على نَبينَا وَعَلِيهِ وعَلى سَائِر الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ، وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا دَائِما أبدا. ٢٣ وسئلت: عَن حَقِيقَة السقمونيا مَا هِيَ؟ فأجبت بِقَوْلِي: السقمونيا صمغ شجر يُؤْتى بِهِ من أنطاكية الْبَلَد الْمَشْهُورَة، وَهَذَا هُوَ الدَّوَاء الْمَشْهُور بالمحمودة بَين النَّاس، وَهُوَ من مسهلات الصَّفْرَاء خَاصَّة والشربة مِنْهُ مِقْدَار قيراطين، وَلَا يَنْبَغِي لأحد أَن يَسْتَعْمِلهُ إِلَّا بعد مُشَاورَة طَبِيب حاذق وَكَذَا سَائِر مَا يرى فِي كتب الطِّبّ يَنْبَغِي لمن يرَاهُ أَن لَا يقدم على اسْتِعْمَاله إِلَّا بعد مُشَاورَة الطَّبِيب وَإِلَّا فَتَركه مُتَعَيّن، وَمن ثمَّ قَالَ بعض حذاق الْأَطِبَّاء: كتبنَا قاتلة للفقهاء أَي فَإِنَّهُم يرَوْنَ مُفردا أَو مركبا فِي بَاب وَأَنه يسْتَعْمل لكذا فيأخذونه ويستعملونه لما وصف لَهُ فِي ذَلِك الْبَاب مَعَ غفلتهم عَن كَون اسْتِعْمَاله مَشْرُوطًا بِشُرُوط أخر لم يذكروها فِي ذَلِك الْبَاب بل فِي غَيره من الكليات أَو بَاب آخر، والدواء إِذا اسْتعْمل مَعَ عدم اسْتِيفَاء شُرُوط اسْتِعْمَاله يكون مضرًا ضَرَرا عَظِيما حَتَّى رُبمَا جرّ إِلَى الْقَتْل، وَلَا يغرنّ الْإِنْسَان أَنه رُبمَا هجم على اسْتِعْمَال شَيْء وَلم يضرّهُ، لِأَن ذَلِك كمن رأى مسبعَة فخاطر وَمر فِيهَا مرّة فَلم يتعرّض لَهُ شَيْء من سباعها لأمر عرض لَهُم فاغترّ ومرّ فِيهَا مرّة ثَانِيَة فرأوه فافترسوه لعدم عرُوض تِلْكَ الْعَوَارِض الَّتِي عرضت لَهَا أَولا. وَالْحَاصِل أَن المغترّ لَيْسَ بمحمود وَإِن سلم. ٢٤ وسئلت: مَا الْفرق بَين الْعَهْد والميثاق وَالْيَمِين؟ فَأُجِيب بِقَوْلِي: الْعَهْد الموثق يُقَال عهد إِلَيْهِ فِي كَذَا أوصاه بِهِ وَوَثَّقَهُ عَلَيْهِ والعهد فِي (لِسَان الْعَرَب) لَهُ معَان مِنْهَا: الْوَصِيَّة، وَالضَّمان، وَالْأَمر، والرؤية، والمنزل؛ وَأما الْمِيثَاق فَهُوَ الْعَهْد الْمُؤَكّد بِالْيَمِينِ، وَأما الْيَمين فَهُوَ الْحلف بِاللَّه تَعَالَى أَو بِصفة من صِفَاته على مَا قرر فِي مَحَله. وَقد اخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي المُرَاد بالعهد فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ [الْبَقَرَة: ٢٧] على أَقْوَال، أَحدهَا: أَنه وَصِيَّة الله إِلَى خلقه وَأمره لَهُم بِطَاعَتِهِ وَنَهْيه لَهُم عَن مَعْصِيَته فِي كتبه الْمنزلَة على أَلْسِنَة أنبيائه الْمُرْسلَة. الثَّانِي: أَنه الْعَهْد الَّذِي أَخذه الله على بني آدم حِين استخرجهم من ظَهره فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِىءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الْأَعْرَاف: ١٧٢] الْآيَة. قَالَ المتكلمون: وَهَذَا سَاقِط لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يحْتَج على الْعباد بِعَهْد وميثاق لَا يَشْعُرُونَ بِهِ كَمَا لَا يؤاخذهم السَّهْو وَالنِّسْيَان. الثَّالِث: مَا أَخذه عَلَيْهِم فِي الْكتب الْمنزلَة من الْإِقْرَار بتوحيده وَالِاعْتِرَاف بنعمه والتصديق بأنبيائه وَرُسُله فِيمَا جَاءُوا بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمرَان: ١٨٧] الْآيَة. الرَّابِع: مَا أَخذه الله تَعَالَى
1 / 21