والتفت إلى القاتل وقال له: «فتشه واستخرج الرسالة منه وأدركنا فإننا سائقون إلى موضع القافلة.» قال ذلك وساق جواده وتبعه رجاله إلا القاتل؛ فإنه ترجل عن جواده ووضع سيفه المسلول على الأرض بجانبه حتى يمسحه من الدم بعد الفراغ من تفتيش القتيل.
فتحققت لمياء أن تلك الرسالة هامة ولولا ذلك لم يفضل حاملها القتل على تسليمها، وأعجبتها أمانته وثباته. وكانت كثيرة الإعجاب بالأخلاق العالية. فأسفت لموته وأحست بميل إلى الانتقام له. وكانت قد تجددت قواها أو لعل حماستها نشطتها فتلملمت ونهضت وخرجت من الحفرة خلسة وهي تتسرق والرجل مشتغل بالتفتيش حتى دنت من السيف المطروح بجانبه فتناولته بأسرع من البرق وأطلقته على عنقه فسقط فوق الهجان وثنت عليه بضربة أخرى حتى تحققت موته ثم أزاحته وأتمت التفتيش، فوجدت الرسالة، وهي عبارة عن أسطوانة من القصب الفارسي فيها الكتاب وكان قد خبأها بين أثوابه، وهمت بالجواد فامتطت صهوته وكانت قد عرفت جهة المنصورية منذ رأت الهجان قادما، وحولت شكيمة الجواد نحو معسكر أبيها، وقد عادت إليها قواها تحمسا في مصلحة المعز وأسرعت في إيصال تلك الرسالة لاعتقادها أنها لو لم تكن عظيمة الأهمية لم يؤمر حاملها بإيقاظ الخليفة من نومه لتسليمها إليه، وكانت قد تنسمت من كلام أبي حامد أنهم أعدوا مكيدة لقتل المعز. فعلمت أنها إذا أسرعت أنقذت ذلك الخليفة الذي تحبه وتحترمه، فأحست بنشاط وفرح فهمزت جوادها نحو معسكر أبيها وهي لا تراه لكنها علمت مما حولها أنها متجهة نحوه وقد نسيت حالها ولم تعد تفكر بالدم الذي يسيل على عنقها وكان قد جمد وانسد الجرح ولم يضرها؛ لأنه سطحي.
أما أهل ذلك المعسكر فكانوا لما رأوا لمياء أشارت إليهم إشارة الوداع وركض بها الفرس توهموا أنها عزمت على شوط تركض به فرسها ثم تعود إلى فسطاطها الذي كانت فيه كما تقدم.
وكان أبو حامد هو الذي دبر تلك المكيدة للمياء فدس أحد غلمانه بين الموكلين بمساعدة الفرسان وأوصاه أن يدس في أنف جواد لمياء مادة حريفة تهيجه وتحمله على الركض بغير هدى، فهو عند ذلك لا يهدأ حتى يتحطم هو وراكبه.
فلما تحقق عمل العقار ورأى لمياء غابت عن أعينهم وسمعهم يتساءلون عن مصيرها أكد لهم أنها ودعتهم ولا تلبث أن تعود إلى فسطاطها، وأخذ يشاغلهم بالحديث وطلب إلى حمدون أن يأتيهم ببعض الألعاب الغريبة ليتسلى الخليفة برؤيتها مما لا مثيل له في القيروان واحتال في الخروج من السرادق، وكان قد أمر رجاله أن يهيئوا أحمالهم ويخرجوا بها من ذلك المعسكر إلى مكان يعرفونه بجانب الطريق المؤدي إلى مصر كما تقدم.
فلما بعد عن المعسكر ركب هو ورجاله وأخذوا يبحثون عن لمياء ليتحققوا قتلها وشاهدوا جوادا في الطريق قد وقع قتيلا بعد أن اصطدم بذلك الصخر وتراجع ودمه يسيل من صدره حتى وقع. فلما رأوه ولم يعثروا بلمياء تأكدوا قتلها في مكان رماها به.
الفصل السابع والثلاثون
المائدة
أما حمدون فلما دنا الغروب دعا الخليفة إلى العشاء الذي أعده له في السرادق الخاص بمائدته ... وذهب الأمراء إلى موائدهم في السرادقات الأخرى ومشى الخليفة إلى المائدة وقد أضيئت السرادقات بالشموع وأحرق البخور في أطرافها ومدت الموائد في أواسطها وعليها أنواع الأطعمة، وذهب حمدون إلى الطاهي القرطبي - الذي تقدم ذكره - وبالغ في وصايته حتى يحسن الوقوف في خدمة الخليفة.
وقبل التقدم إلى المائدة أزفت الصلاة فصلى الخليفة وصلى القوم وراءه، ثم جلس كل منهم في مكانه، ومائدة الخليفة لم يجلس عليها إلا هو وقائده وابن قائده ووقف حمدون يخدمهم بنفسه بمساعدة الطاهي المشار إليه وبعض غلمان آخرين يحملون الأطباق من المطابخ، ووقف سائر الغلمان بأباريق الفضة والقوارير فيها الجوارشنات أو الأشربة الهاضمة وقد شغل حمدون بأضيافه عن التفكير بلمياء؛ لاعتقاده أنها عادت إلى فسطاطها.
Неизвестная страница