فبان البشر في وجهي حمدون وجوهر عند هذا الاقتراح وأخذا في تنميق عبارات الثناء أما لمياء فلم يكن ذلك جديدا عليها، وكانت قد سمعته من أم الأمراء ولحظت من خلال تلك الأحاديث أن المعز عمل بما أوحته إليه امرأته فتأكدت حينئذ اهتمامها بأمرها وشدة حبها لها. والتفتت إليها لفتة ملؤها الامتنان والشكر. ففهمت أم الأمراء من تلك اللفتة ما لا تقوى الألسنة على بسطه. وكان جوابها أنها ضمتها إلى صدرها وقبلتها فأكبت على يدها لتقبلها فمنعتها وقالت: «تأكدي يا بنية أن فرحي بتمام هذا الأمر يكفيني ... ولكنهم أطالوا أجل الاقتران أليس كذلك؟» قالت ذلك على سبيل المداعبة.
فأطرقت لمياء حياء فابتدرتها أم الأمراء قائلة: «أعني أنهم أطالوه علي أو على الحسين ... ألا ترينه ساكتا مطرقا لا يكلم أحدا ... تأكدي أني أعد هذا الشاب من أولادنا وأنت ابنتنا ... ولذلك لا أرى أن يأخذوك إلى بيت أبيك إلا قبل الاقتران ببضعة أيام ... أريد أن أشبع منك ...»
وكانت لمياء في أثناء ذلك قد عادت هواجسها إليها وأصبحت شديدة الرغبة في ملاقاة والدها؛ لترى هل تغير رأيه وعول عن الفتك بعدما لاقاه من إكرام المعز أو هو يقول ما قاله مداجاة. لكن سبق إلى ذهنها أنه يظهر ما يعتقده؛ لأن الصادق الحر لا يقدر أن يتصور نفاق الكاذبين. ثم هي من الجهة الأخرى يشق عليها أن تقبل بالحسين وتعد ذلك خيانة فضلا عن داعي قلبها. وهي في ذلك رأت الخليفة يتحفز للنهوض وقد نهض الجلوس واستأذنوا في الانصراف. ونهضت أم الأمراء ومشت لمياء معها وهي تود أن لا تعود إلى محادثتها بشأن ذهابها إلى أبيها؛ لأنها تحب أن تترك الأمر للتقادير لترى ما يكون في أثناء رمضان. وتحب أن تخلو بنفسها بعدما تقرر لتفكر في أمرها وتحل هذه المشكلة حلا معقولا.
الفصل السادس والعشرون
المناجاة
ودعت لمياء أم الأمراء وذهبت إلى غرفتها وهي غارقة في بحار هواجسها، ولم تكد تخلو بنفسها حتى طرق ذهنها فكر أحست بارتياح إليه، وذلك أنها قابلت بين ما دار بينها وبين والدها أمس في فسطاطه بحضور أبي حامد وما ظهر منه بين يدي المعز في هذا المساء فوجدت فرقا كبيرا.
فتبادر إلى اعتقادها أن أبا حامد هو الذي حرضه على الفتك بالخليفة، وأنه لو ترك لنفسه لم يرض بذلك، وتذكرت ما تعرفه من ظواهر هذا الرجل في أثناء إقامته بسجلماسة وما كان يسر إليها سالم أحيانا من الأغراض السياسية التي يرمي إليها فترجح لديها أن أبا حامد هو علة المفاسد وأنها لو انفردت بأبيها وباحثته في أمر المعز لأقنعته أن يرجع عن عزمه. فارتاحت لهذا الفكر، لكنها لم تكد تشعر بالراحة حتى تصورت أنها تصير عند ذلك زوجة للحسين تقيم في المنصورية ... وما تفعل بسالم؟ فوقف ذهنها عند هذه النقطة فرأت عدول أبيها عن الفتك بالمعز يحرمها من سالم وهي تحبه ولا ترضى عنه بدلا.
فأخذت تخاطب نفسها قائلة: ما العمل إذن؟ أرضى بقتل المعز وهو سلالة فاطمة الزهراء وصاحب الفضل الأكبر علي وأسلم بقتل جوهر القائد العظيم؟ وهب أني رضيت فهل تفلح هذه المكيدة؟ ألا يعقل أن تعود عاقبتها وبالا علينا؟ بأي شيء نحارب جند الخليفة؟ كيف نحارب الحسين ذلك الشهم صاحب المروءة ونقتله أيضا؟ ما هو ذنبه؟ بل ما هو ذنب الخليفة وقائده؟ إنها مكيدة ملؤها الخداع والغش.
كيف ترضين يا لمياء بهذه الرذيلة؟ يكفي ما أراه من كرم أخلاق هذه المرأة التي تحبني محبة الوالدة، أأرضى أن أكون وسيلة لسقوطها؟ أنا أفعل ذلك؟ كلا ... كلا ... إني إذن قاتلة خائنة. وأحرم من حبيبي ... ماذا أفعل؟ أطلع أم الأمراء على سر الأمر ليتحذروا منه؟ عند ذلك أكون قد عرضت سالما للقتل وعرضت والدي أيضا للموت ... هل أسمح بقتل والدي وحبيبي؟ كلا ... ويلاه ما هذه المشكلة التي لا حل لها؟»
وكانت جالسة على الفراش تفكر في ذلك وعيناها شاخصتان إلى نور المصباح فلما وصلت إلى هذا الارتباك نهضت كالواثبة وقد هاجت أشجانها وأخذ القلق منها. وجعلت تتمشى في الغرفة وتعيد النظر في المسألة طردا وعكسا فلا تجد لها حلا إلا بارتكاب الخيانة أو القتل، فضلا عن محاربة العواطف، وهي أشد وطأة من كليهما.
Неизвестная страница