قال: «أنت أعلم.»
قال: «أنا أقول لك إن عظام أبي عبد الله - رحمة الله عليه - تنادينا من ظلمة القبر أن نأخذ بثأره ونخرج الملك من أيدي هؤلاء الخائنين، وأنت تعلم أننا كنا ندبر ذلك قبل أن يؤخذ صاحب سجلماسة أسيرا. وكنت أحسبه رجلا يعول عليه في العظائم فإذا هو ثرثار مغرور بنفسه يقول ما لا يفعل، وليس هو أهلا لغير الادعاء الفارغ ولا يغرك ما سمعته من إطرائي أجداده ومبالغتي في مدحه ... لو كان رجلا لما صار إلى الأسر واضطر إلى طاعة هذا الرجل. وإنما أنا أداجيه لنستخدم ابنته في تمهيد السبيل لقتل المعز وقائده فنجعله صاحب القيروان، وإذا تزوجت أنت بابنته وهو ليس له ذكر يرثه صارت الإمارة إليك أو نجعلها إليك قبل موته بما أعددناه من الأحزاب والأموال وسائر المعدات ... وعند ذلك نكون قد انتقمنا لذلك المقتول.»
ورغم ما غرس في ذهن سالم من مقدرة أبي حامد العجيبة لم يفته ما يحول دون الوصول إلى تلك الغاية من العقبات، فقال: «اسمح لي يا سيدي أن أستفهم عن أمر ...»
فقطع كلامه وقال: «لا تخف يا سالم؛ إني لا أخطو خطوة قبل أن أقدر ما وراءها، إنك تقول في نفسك كيف تنتهي مهمتنا بقتل ذينك الرجلين وهذه قبائل البربر من كتامة وصنهاجة وهوارة كلها من أنصارهما - وهم يعدون بمئات الألوف - ونحن ليس عندنا غير رجال صاحب سجلماسة ... إن تلك القبائل يا ولدي لم تذعن للمعز إلا لتخاذل أمرائها وتفرق كلمتهم مع اعتقادهم صحة انتسابه إلى الإمام علي، وهذا على تدبيره. ألا يكفيك أني عالم بهذا الاعتراض؟ أم أنك تخاف أن أسيء التدبير ولا أحسن الحيلة؟ ألا يكفي هؤلاء الأمراء من هذه الغنيمة أن يعود كل منهم أميرا مستقلا بحكومته، وأن من يفوز بقتل صاحب القيروان يكون له الحق بامتلاكها؟ وهي ستكون حصة صاحب سجلماسة. وهل تظن أهل القيروان يرمون نبلا علينا بعد قتل خليفتهم؟ إن رجال سجلماسة معنا، وهم أشداء قادرون على أخذ القيروان وإن لم يساعدهم أحد من سائر القبائل، فكيف إذا ساعدوهم؟»
فازداد إعجاب سالم بدهاء عمه، وقال : «لله درك من ملك قادر ... إنك - والله - أولى بهذا الأمر مني ومن سواي.»
فأسرع أبو حامد فوضع كفه على فم سالم يريد إسكاته عنوة وقال: «لا تقل ذلك إن هذا الملك مقدر لك هذه وصية إمامنا المرحوم وكفى.»
قال ذلك ونهض وهو ممسك بيد سالم لينهض معه، فنهض وقد تهيب وود لو يستزيده بيانا؛ لأنه مع طول صحبته لم يسمع منه التصريح بالوصاية، وأما أبو حامد فقال وهو يصلح عمامته: «لا حاجة بي إن أوصيك بالكتمان، حتى الحديث الذي ذكرته عن لمياء والحسين أخفه واجعل أنك لم تر شيئا» ثم سكت وبان الاهتمام في وجهه وقال: «أما أنت فلا ينبغي أن تبقى هنا بعد هذه المقابلة لا بد من سفرك إلى مصر في صباح الغد باكرا لمهمة مثل التي أتيت منها بالأمس ... فتقابل ذلك العبد الأسود أميرها (كافور) وتعقد معه عهدا على هؤلاء الفاطميين؛ فإنه يخافهم - كما تعلم - وسيكون عونا لنا في تأييد دولتنا مع صاحب بغداد ... إذ لا بد من خلافة ثابتة تتأيد بها دعوتنا. أظنك فهمت مرادي. ولا ينبغي أن يعلم حمدون بهذه المساعي ولا غيرها ... فهمت؟»
فأشار بعينيه أنه فهم، وهم بالخروج فاستوقفه وقال: «لابد من سفرك في الصباح خلسة فإني أخاف من دسيسة عليك ...»
قال: «سأسافر.»
ثم وقف أبو حامد فجأة وقد تذكر أمرا هاما ونظر في عيني سالم.
Неизвестная страница