ثم تراجعت وكأنها انتبهت أنها في يقظة وليس هناك حسين فخجلت فتقدم الشريف نحوها بلطف وقال لها: «ما بالك يا بنية. إنك تهذين أو تحلمين لا تخافي إنك في منزلي وأنت أعز من ولدي ...»
فأخذت تفرك عينيها بكلتا يديها وهي تنظر إلى ما حولها وقالت: «لست خائفة يا سيدي ... لست خائفة ... ولكن الحسين بن جوهر. رأيتهم أخرجوه مغلولا في فج الأخيار ... وأولئك اللصوص حوله كالزبانية ... رأيتهم رأي العين ...»
فقال: «أنت يا لمياء في الفسطاط. وبيننا وبين فج الأخيار عدة أيام ... خففي عنك. وعودي إلى رشدك ... لا بأس عليك. وبعد هنيهة يأتي الطبيب ويشير بما يجب أن تفعلي.»
قالت: «الطبيب! وأي طبيب؟ إني لا أشكو مرضا ولكنني أشكو ظلما وخيانة ...» قالت ذلك وغصت بريقها وأغرقت في البكاء حتى ملأ نحيبها الدار. فبعث الشريف يتعجل الطبيب فأتى والفتاة مستغرقة في البكاء فجس نبضها ثم أشار عليهم أن لا يخاطبوها ولا يقصوا عليها خبرا بل يكتفوا بالغذاء الخفيف. ووصف لهم ما ينبغي عمله ولكنه ألح عليهم أن يتركوها هادئة ساكنة - بقدر الإمكان.
ظلت لمياء في الفراش عدة أسابيع لا يخاطبها أحد إلا بالضروري وهي تصحو تارة وتغيب أخرى، والطبيب يتردد عليها ويصف الأدوية والأغذية حسب الحاجة. ويعقوب يأتي كل يوم للسؤال عنها ويأسف أشد الأسف لما أصابها على يده، رغم اشتغاله في تلك الأثناء بأمور ذات شأن أهمها موت كافور وانتقال الإمارة إلى أحمد بن علي بن الإخشيد، وهو غلام لم يتجاوز الحادية عشرة، وتحول النفوذ إلى جعفر بن الفرات وزير كافور المتقدم ذكره. ولم يكن ابن الفرات يستطيع عملا في حياة كافور، فلما صارت الإمارة إلى ذلك الغلام استبد هو في الأمر وأخذ في مطاردة رجال الدولة ومصادرة الأغنياء. وكان يعقوب من جملة المهددين وخاف أن يصل الدور إليه فاستتر، وكان يقضي أكثر أوقاته عند الشريف مسلم بن عبيد الله المشار إليه بحجة السؤال عن لمياء ويتحادثان في شئون الدولة ويرون قرب سقوطها لكنهما لا يتحدثان في شيء من ذلك أمام لمياء عملا بإشارة الطبيب.
وبعد مدة تقدمت لمياء نحو الصحة وأصبحت في شوق إلى استطلاع الأحوال، والحكيم يأمرها أن تلازم الصمت، وبعد مدة أخرى أذن لهم أن يخاطبوها في الشئون التي تريدها. وكانت لا تزال تتردد إلى الفراش وتنزل إلى الحديقة أو تمشي في المنزل. ورأت وجهها بالمرآة فانزعجت مما صارت إليه من الضعف، فبكت، وعاد إليها رشدها فتذكرت ما انتابها في تلك المدينة وكيف خلفت أهل القيروان على مثل الجمر في انتظار أخبارها من مصر. وتذكرت أنها رأت الحسين خطيبها مغلولا أو رأتهم يوثقونه ويضربونه كأنها رأت ذلك في يقظة.
كانت هذه الخواطر تمر بذهنها في أواخر أيام النقه ولا تجسر على مفاتحة أحد بها. فلما أذن لها الطبيب بذلك طلبت يعقوب وسألته عما جرى في أثناء مرضها، فقص عليها ما كان من موت كافور وتنصيب أحمد بن علي.
فقالت: «ألم تبعثوا بذلك إلى القيروان؟»
فابتسم ونظر إلى مسلم فابتسم أيضا وفي وجهيهما علامات البشر فقالت: «ما الخبر؟»
قال يعقوب: «الخبر خير يا لمياء ... إن أهل القيروان علموا بكل ما جرى هنا، وقد جاءوا إلينا بخيلهم ورجلهم.»
Неизвестная страница