فقال حماد: «ما فعلت بنا يا سلمان وكيف جئت بنا إلى هذا المكان.»
قال: «جئته مضطرا وعهدي به بعيدا عن مسبعة الزرقاء والظاهر أن هذا الأسد قد بعد عن عرينه كثيرا فورد الماء ولا يلبث أن يعود ولا خوف علينا بإذن الله.» فوقفا برهة ينظران إلى مجرى الغدير في أسفل الوادي فإذا بالأسد بعد أن شرب إلتفت يمينا وشمالا وزأر زأرة اصطكت لها مسامعهما وكان ذلك أول عهد حماد بالزئير أما سلمان فكان قد شاهد الأسد وسمع زئيره في بعض حدائق كسرى بالمداين ورآها تتغالب وتتصارع.
أما حماد فما زال يراعى الأسد في صعوده الجبل وهو يتمايل بمشيته تيها وقد أرسل ذنبه فوق ظهره حتى توارى عن نظرهما وكانت الشمس قد أشرقت أو كادت وأحس حماد بالجوع فضلا عن التعب فقال: «ما عهدك بالطعام هنا.» قال: «خل عنك الاهتمام به فإني كافل كل أسباب الراحة فسر بنا قليلا فإننا لا نلبث أن نصل إلى دير على مقربة منا نقيم فيه يومنا ضيوفا ونبيت ليلتنا ثم نصبح مسافرين.» قال: «حسنا» ومشيا برهة فأشرفا على بناء فوقه قبة عليها صليب فعلما أنه دير وفيه كنيسة فنزلا هناك فاستقبلهما الرهبان بالترحاب وأنزلوهما على الرحب والسعة فقضيا ذلك النهار في الراحة والطعام وكان طعامهما قاصرا على ألوان بسيطة لكنها لذيذة وفى جملتها أنواع من الجبن والقشدة واللبن واللحم المقلي مع البيض وأنواع التين المجفف والزبيب والجوز والمشمش المجفف فضلا عن الخمر المعتقة فإن خمر الديور مشهورة بجودتها ولاقيا من حسن وفادة أهل الدير ما شغلهما عن هواجسهما على أن حمادا لم يهدأ له بال ولا برحت صورة هند من مخيلته كما كانت لما فارقها المرة الأخيرة ليلا راكبة إلى قصر الغدير وهو ينتظر وصولها إليه.
فباتا تلك الليلة في الأحاديث المتنوعة وأكثرها مما جر إليه حديثهما عن ذلك الأسد فعلما أن المسبعة بعيدة عن الدير ولكنها في طريقهما إلى عمان ولا بد للسائر إلى عمان من المرور فيها إلا إذا دار في طريق طويل بعيد.
ولما أصبحا تزودا وصليا وسارا على بركة الله وسلمان يفضل المسير في الطريق البعيد خوفا من السباع وحماد يأنف من خوفه ويثنيه عن عزمه.
الفصل الثاني عشر
عبد الله في السجن
فلنتركهما سائرين إلى عمان ولنعد إلى عبد الله وما كان من أمره فقد تقدم أنه سار إلى بصرى بتهمة الجاسوسية مخفورا وهو يعجب للعنف الذي اتخذه الرجال في القبض عليه ونظرا لعلمه ببراءة ساحته تحقق أنه لا يلبث أن يقف أمام الحارث حتى يثبت براءته فيفرج عنه فيذهب إلى عمان حيث يلتقي بحماد ثم يأتيان لوفاء النذر بدير بحيراء وهذا ما حمله على ضرب الأجل شهرا وقد فاته السبب الحقيقي للقبض عليه.
أما الجند فساروا به إلى بصرى وحجروا عليه في غرفة من غرف قلعتها جنوبي السور فبات بقية ليلته قلق البال على حماد لئلا يأتي المنزل وهو لم يلتق بسلمان فيقع في الفخ فلما مضى الليل ولم يأتوا به ترجح عنده نجاته. وفى الضحى جاءه رجلان عليهما لباس الجند الروماني وهو الخوذة من النحاس الأصفر يتدلى منها خصل من شعر أذناب الخيل والأدراع من الفولاذ تحتها أثواب حمراء لا تتجاوز الركبة وكان هذان الجنديان يحمل كل منهما حربة صغيرة وترسا من الفولاذ وعلى صدر كل منهما شرائط من الحرير مزركشة بالذهب على شكل حرفين أحدهما
II
Неизвестная страница