قال: «سننظر في ذلك غدا.» فلا نحرم وسيلة نستريح بها وقضيا بقية تلك الليلة بالأحاديث المتنوعة ثم ذهب كل منهما إلى منامه في غرفة خاصة بالقصر.
الفصل الرابع
هند في غرفتها
أما هند فدخلت القصر فلاقتها والدتها وكانت شديدة الولع بها لأنها رزقت أولادا كثيرين لم تهنأ منهم بسواها فقبلتها وصعدت بها إلى طابق علوي ودخلت بها الغرفة وأمرت الخدم فأعدوا لها الفراش ثم جاءتها الماشطة بثياب النوم فنزعت حليها وألبستها جلبابا واسعا من الحرير الناعم الشفاف ثم حلت خصلة شعرها ونزعت ما في ضفائرها وعلى صدرها وفى أذنيها ومعصميها من الحلي واستخرجت خلاخلها واعدت لها السرير وهو من خشب الأرز في أجمل ما صنع الصانعون عليه الوسائد الحريرية الملونة غطاؤها من أبدع أنواع النسيج صنع القسطنطينية وكان في الغرفة مشمعة فيها بضع عشرة شمعة تفوح منها رائحة العنبر فقد كان من ضروب البذخ عندهم أن يمزجوا الشمع بشيء من الأطياب فإذا أنير تصاعدت عند إحراقه رائحة الطيب وكان في جدران الغرفة صور جميلة أكثرها من رسوم القديسين صنع بيت المقدس كصورة ولادة المسيح وصلبه وصعوده وكلها متقنة التصوير ملونة بألوان طبيعية وفى بعض جدران الغرفة مرآة هي عبارة عن صفيحة مستديرة من الفضة مصقولة صقلا خصوصيا حتى صارت كالزجاج تعكس النور وترى الأشباح كمرآة هذه الأيام لأن الناس لم يكونوا يعرفون المرآة الزجاجية بعد.
فبعد أن لبست هند جلبابها وقفت أمام المرآة فأصلحت شعرها وثوبها وذهبت إلى السرير فجلست عليه وهي إلى تلك الساعة لم تنبس ببنت شفة وكانت والدتها منذ دخلتا الغرفة جالسة على وسادة تتأمل بجمال ابنتها وقوامها وبما وهبتها العناية من الصحة والعقل وفي نفسها شيء تنتظر فرصة لتبوح به وكانت هند أثناء تبديلها ثيابها غارقة في بحار الأفكار تراجع ما مر بها في ذلك النهار من الغرائب وكلما تذكرت حمادا وسبقه لثعلبة وما أظهره هذا من الحسد وما أدعاه من الفروسية وكيف أنه عاد فشلا ازدادت احتقارا له ونفورا منه وحبا لحماد ولكنها كانت مع ذلك شديدة الحرص على منزلة والدها وشرف قبيلتها وخافت أن يتعلق قلبها بحماد ثم تجد أنه من أصل دنيء فيحول ذلك دون إرضاء والدها وسائر أهلها فتقع في الشقاء وكانت كلما تصورت ذلك اقشعر جسمها فتعلل نفسها بأن من كان في مثل هذه الشهامة وهذه الأخلاق مع ما يتجلى في وجهه من الهيبة والوقار لا يمكن أن يكون دنيء الأصل ثم تعد نفسها بكشف حقيقة حاله عندما يلتقيان في دير بحيراء.
وكانت والدتها واسمها سعدى في الخامسة والأربعين من عمرها لا يزال الجمال ظاهرا في وجهها فقد كانت من أجمل بنات غسان وكثيرا ما تغزل بها شعراؤهم ولما تزوجها جبلة حسده كل أهل عشيرته عليها.
ثم جلست هند إلى السرير بجلبابها وقد أرخت شعرها وحسرت عن زنديها وكانا مستديرين ممتلئتين مشرقين يزينهما الوشم على اليمين منهما صورة الصليب وعليه السيد المسيح مصلوبا وعلى اليسار صورة مريم العذراء تحمل طفلها. ولو رآها حماد في تلك الحال لنطق بقول الشاعر:
نالت على يدها ما لم تنله يدي
نقشا على معصم أوهت به جلدي
كأنه طرق نمل في أناملها
Неизвестная страница