ثم أخذوا في الاستعداد للمسير فودعوا حسانا فأرفقهم بدليل يعرفه وساروا يقطعون البراري والقفار حتى أتوا بصرى فتشاورا في مكان يقيمون فيه فاتفق رأيهم على الإقامة في دير بحيراء فاتخذوا فيه غرفة أقاموا فيها.
أما حماد فان عودته إلى ذلك الدير أذكرته أمورا هاجت أشجانه فتذكر اجتماعه بهند هناك لأول مرة وما كان من مجيء ثعلبة بغتة إلى آخر ما حدث في حينه ثم عزم على المسير إلى جبلة للسلام عليه ثم إلى صرح الغدير لملاقاة هند وبثها ما في ضميره وما بلغت إليه مهمته وما يرجوه من العثور على القرطين في العراق ولكنه كان كلما تصور وقوفه أمامها موقف المعتذر أو المستمهل اشمأزت نفسه وعسر عليه ذلك الموقف.
الفصل الرابع والخمسون
هند في صرح الغدير
فلنترك حمادا ووالده وسلمان ولنعد إلى صرح الغدير لنرى ماذا تم لهند بعد سفر حماد لئلا يظن القارئ أننا نسينا عواطفها وأشجانها ولم نبال بما قاسته أثناء غيابه من الوحشة والخوف عليه ولا سيما بعد أن سمعت بفتح مكة ودخول المسلمين إليها عنوة وهي تعلم أن حمادا إنما سار إلى هناك التماسا للقرطين.
ودعت هند حمادا يوم سفره وقلبها واجف عليه لعلمها أنه سار في تلك المهمة والخطر ظاهر فيها ولكن ثقتها بشجاعته وتعقله هونت عليها الأمر لأول وهلة ثم اشتغلت عنه بالاضطرابات والمخاوف أثناء حرب مؤتة وحمدت الله لغيابه خوفا عليه أن يصاب بسوء إذا تعرض لسهام الحجازيين.
فلما انقضت الحرب وعادت البلقاء إلى السكينة عادت هي إلى الاضطراب واستبطأت حمادا لأنها كانت تتوقع رسالة منه أو خبرا عنه فلما طال الأمد ولم تسمع عنه شيئا انقبضت نفسها واستولت عليها المخاوف.
وكانت والدتها تراقب حركاتها وسكناتها وقد أدركت ما بها فأخذت تشاغلها بالآمال وتواسيها بالوعود وهي لا يهدأ لها بال ولا ترتاح إلى حديث على أنها كانت تعلل نفسها بالذهاب إلى دير بحيراء أيام مرور قوافل الحجاز به لعلها تسمع من أحد حديثا يطمئنها وصارت تستأنس بالحجازيين وترتاح إلى كل قادم من الحجاز وخصوصا الذين يقدمون من مكة ولكنها كانت كلما سمعت اسم الكعبة اختلج قلبها واضطربت جوارحها وهي مع ذلك لا يهدأ لها بال إلا بالسؤال عنها والبحث عن أخبارها حتى التقت يوما بقافلة قادمة من مكة فسمعت الناس يتحدثون عن فتحها وما كان من دخول المسلمين إليها عنوة وقتل بعض أهلها فارتعدت فرائصها وتصورت حمادا في تلك المدينة عرضة لسيوف المسلمين فازداد بلبالها وودت لو أنها تطير إلى الحجاز فترى ما تم لحبيبها.
ثم رأت ترددها إلى الدير واستماع تلك الأحاديث لا يزيدها إلا قلقا فانقطعت عنه وانزوت في صرح الغدير لا ترى أحدا ولا تسمع خبرا مخافة أن يكون في ما تسمعه نبأ يسوءها. ثم سمعت بموت الحارث بن أبي شمر والد ثعلبة فأحست بارتياح لعلمها أن مؤتة يقلل من نفوذ ابنه لدى والدها. على أن ذلك لم يزد شيئا من أسباب سعادتها فالهموم ما زالت تتراكم عليها وليس لديها من تشكو همها إليه غير والدتها لكنها كانت تخاف مخاطبتها بهذا الشأن لئلا تسمع منها ما يزيدها يأسا ففضلت الكتمان وهي مع ذلك لا تزداد إلا تحولا وانقباضا وميلا إلى الخلوة.
وكانت كلما خلت بنفسها نظرت إلى الأساور في يدها وجعلت تقبلها وتتنسم منها رائحة حماد فإذا اشتد بها الهيام بكت وتحرقت ونقمت على والديها لأنهما أبعدا حمادا عنها وخيل لها أنهما إنما أرسلاه إلى تلك الأصقاع للتخلص منه وما زال هذا الفكر يتمكن منها حتى أصبح بمنزلة الاعتقاد وصارت تنفر من مجالسة والدتها وتسئ الظن بها فلم يزدها ذلك إلا رغبة في الخلوة والانقطاع عن الناس.
Неизвестная страница