استقر سعد بالكوفة، فزاد في قصره بابا جعل له ظلة؛ لأن غوغواء الناس بالسوق كانت تمنعه من الحديث، وادعى بعضهم أن سعدا قال لمعماره: سكن عني الصوت، وبلغ ذلك عمر وأن الناس يسمون الدار قصر سعد، فسرح محمد بن مسلمة إلى الكوفة وقال له: «اعمد إلى القصر حتى تحرق بابه، ثم ارجع عودك على بدئك.» وقدم ابن مسلمة الكوفة، وبلغ نبؤه سعدا فاستدعاه ، فأبى أن يدخل القصر، فخرج هو إليه وعرض عليه نفقة، فأبى أن يأخذها ورفع إليه كتاب عمر فإذا فيه: «بلغني أنك بنيت قصرا اتخذته حصنا ويسمى قصر سعد، وجعلت بينك وبين الناس بابا، إنه ليس بقصرك ولكنه قصر الخبال، انزل منه منزلا مما يلي بيوت الأموال وأغلقه، ولا تجعل على القصر بابا يمنع الناس من دخوله وتنفيهم به عن حقوقهم، ليوافقوا مجلسك ومخرجك من دارك إذا خرجت.» فلما تلا سعد ما في الكتاب حلف إنه ما قال الذي قالوا، واقتنع ابن مسلمة بصحة يمينه، فعاد أدراجه، فقص على عمر الخبر كله، وقال له عمر: «فهلا قبلت من سعد؟!» قال ابن مسلمة: لو أردت ذلك كتبت لي به أو أذنت لي فيه، وأجابه عمر: «إن أكمل الرجال رأيا من إذا لم يكن عند عهد من صاحبه عمل بالحزم أو قال به ولم ينكل.» وعذر أمير المؤمنين سعدا وأقره.
بنيت البصرة في الوقت الذي بنيت فيه الكوفة وبنيت على مقربة من الأبلة في دلتا النهرين متصلة بالخليج الفارسي، وكان ذلك في السنة الثامنة عشرة من الهجرة، الرابعة من خلافة عمر، وفي رواية أن البصرة أقيمت قبل الكوفة، وإن لم تبن دورها باللبن حتى بنيت به دور الكوفة، ذكر البلاذري أن عتبة بن غزوان غزا الأبلة في السنة الرابعة عشرة للهجرة، فلما فتحها كتب إلى عمر: إنه لا بد للمسلمين من منزل يشتون فيه إذا شتوا، ويسكنون فيه إذا انصرفوا من غزوهم، وأجابه الخليفة: أن اجمع أصحابك في موضع واحد، ولكن قريبا من الماء والمرعى، واكتب إلي بصفته، واطمأن عمر إلى موقع البصرة حين وصفه له عتبة، فنزلها الناس فبنوا مساكن بالقصب، وبنى عتبة مسجدا من قصب كذلك، وكان الناس إذا غزوا نزعوا القصب وحزموه، فإذا رجعوا من الغزو أعادوا بناءه، ثم إن الحريق التهم الكوفة، فأذن عمر فبنى أهل البصرة كما بنى أهل الكوفة باللبن، وصارت البصرة من بعد ثغر العراق على الخليج الفارسي، فبنيت مساكنها بالحجارة، وأقيم بها مسجد من أفخم المساجد ثم كان لها في تاريخ الإسلام مثل ما كان للكوفة من أثر.
ليس من شأننا ونحن نؤرخ لعهد عمر أن نعدوه لنذكر ما قامت به كل من المدينتين من بعده، وحسبنا أن نشير إلى أنهما تركتا، في تاريخ اللغة والأدب والفقه والثقافة الإسلامية، مذاهب ما زال أثرها يذكر إلى اليوم، وقد كان بين المدينتين من التنافس في ذلك كله مثل ما كان بينهما من التنافس في توجيه سياسة الدولة العامة وسياستها بالعراق خاصة، وقد بدأت كل مدينة منهما تتبوأ مكانتها في عهد عمر، وكان ذلك طبيعيا؛ إذ كانت الكوفة عاصمة العراق، وكانت البصرة ثغره الأول، وإذ استأثر أهل شبه الجزيرة بالمدينتين كما قدمنا، فهاجر أهل الجنوب من اليمن وما جاورها إلى الكوفة، وهاجر أنصار المدينة وأهل الشمال إلى البصرة، وقد كان لهذه الهجرة في غزوة فارس من بعد أحسن الأثر.
على أي الموارد كان يعتمد أهل المدينتين لحياتهم بعد إنشائهما؟ لقد اطمأن الأمر بالعراق كله زمنا قبل أن تعود قوات المسلمين لقتال يزدجرد وجنوده بفارس فتغنم منهم الغنائم، ولم يكن العرب أهل زراعة ليعتمدوا على عملهم في أرض العراق، أفكانوا يغصبون الفلاحين فيه ثمرات كدهم كما كان يصنع دهاقين الفرس من قبل؟!
يتعدى الجواب على هذا السؤال أمر الكوفة والبصرة وما كان يعتمد عليه أهلهما في حياتهم إلى ما كانت قوات المسلمين بالمدائن وجلولاء وتكريت والموصل وشتى أرجاء العراق تعتمد عليه لحياتها، لقد ذكرنا من قبل أن عمر اتجه بسياسته إلى ما اتجه إليه أبو بكر قبله، فأمر قواده وجنوده ألا ينالوا الفلاحين في العراق بأذى، وأن يقيموا بين أهله جميعا عدلا يطمئنون معه إلى سلطان المسلمين فيه، وحسب الأمير المسلم أن يقتضيهم خراجا أو جزية لا ينوءون بأيهما، فلما فتحت جلولاء كتب سعد إلى عمر في أمر الفلاحين، من فر منهم ومن أقام، وكان قد فر منهم بضعة وثلاثون ومائة ألف يتألف منهم بضعة وثلاثون ألف بيت، فكتب إليه عمر:
أن أقر الفلاحين على حالهم إلا من حارب أو هرب منك إلى عدوك، وأجر لهم ما أجريته للفلاحين قبلهم، وإذا كتبت إليك في قوم فأجروا أمثالهم مجراهم، أما من سوى الفلاحين فذاك إليكم ما لم تغنموه - أي تفتحوه - ومن ترك أرضه من أهل الحرب فخلاها فهي لكم، فإن دعوتموهم وقبلتم منهم الجزاء ورددتموهم قبل قسمتها فذلك، ومن لم تدعوهم ففيء لكم لمن أفاء الله ذلك عليه.
5
ونفذ سعد أوامر عمر هذه، فأقر الفلاحين، ودعا من لج، ووضع الخراج على من رجع، وقبل الذمة، واستصفى ما كان لآل كسرى ومن لج معهم من الأمراء والدهاقين وغيرهم وكان ما استصفاه من هذه الأموال كثيرا موزعا بين جبل فارس وتخوم العرب، وكانت هذه الأموال التي استصفاها سعد حبسا لا يجوز بيعه، كما لا يجوز بيع المنافع العامة من الآحام ومفيض المياه وسكك البريد وما كان لبيوت النار: معابد المجوس.
ترتب على تنفيذ هذه السياسة أن بقيت للفلاحين أرضهم واعتبروا من أهل الذمة، سواء منهم من أقام بأرضه في أثناء الحرب ومن فر منها جزعا ثم عاد بعد الحرب إليها، وكذلك ردت الأرض المملوكة للذين اشتركوا في الحرب من الفلاحين وغير الفلاحين، ثم دعاهم سعد إليه واعتبرهم من أهل الذمة ولما يكن قد قسم أرضهم بين رجال المسلمين، أما الأراضي التي كانت لآل كسرى ولمن اشترك في الحرب من الأمراء والأشراف والدهاقين، فاعتبر ملكا خاصا للدولة، حرم التعامل فيه، وأبيح للفلاحين من أهل العراق استغلاله لقاء أجر يدفعونه لخزانة الدولة، وقد أجري هذا الحكم على الأراضي المملوكة لبيوت النار، فأما المنافع العامة من مجاري المياه وسكك البريد فكانت ملكا عاما، حرمة التعامل فيها قائمة بحكم المنفعة التي خصص لها.
أدى هذا التنظيم إلى تدفق الأموال في خزانة الدولة من مصادر شتى؛ من الخراج والجزية وأجر الأرض المملوكة للدولة، وأجري العطاء من هذه الأموال على الجند وأهليهم بالكوفة والبصرة وسائر مسالح المسلمين، وكان هؤلاء الجنود يودون لو قسمت أرض السواد بينهم وصارت ملكا لأفرادهم ولذويهم من بعدهم، ولم يكن سخاء العطاء الذي يصيبهم ليمنعهم من أن يفاتحوا الولاة بهذه الرغبة، لكن عمر كان يأبى عليهم ما يطلبون من ذلك، قائلا: «لولا أن يضرب بعضكم وجوه بعض لفعلنا.» وإنما أبى عمر منذ اليوم الأول أن يجعل الأرض قسمة بين الجند حتى لا يسكنوا إلى الزراعة ويألفوا حياة الاستقرار، فإذا دعوا إلى قتال اثاقلوا عنه، على حين لا تزال الدولة في حاجة إلى قوتهم وحماستهم، وإلى جيش تام العدة دائم الأهبة، وكيف لأمير المؤمنين أن يطمئن إلى استقرار جنده وقد يرجع الفرس غدا لثأرهم، وقد يثيرون العراق كما أثاروه من قبل؟! فلتبق أرض كسرى ملكا للدولة يستغلها عمالها بأيدي الفلاحين من أهل العراق، ولتقم جنود المسلمين بمسالحها متأهبة لإجابة كل دعوة للقتال.
Неизвестная страница