سار زهرة بن الحوية وهاشم بن عتبة يريدون المدائن، فلما كانا على مقربة من بهرسير لقيتهما بساباط كتيبة لبوران ابنة كسرى كان رجالها يحلفون كل يوم ألا يزول ملك فارس ما عاشوا، وكان مع هذه الكتيبة أسد تألفه كسرى، ولم تثبت الكتيبة للمسلمين أكثر مما ثبت جنود فارس ببرس وبابل، وكيف تثبت وقد رأت حظ الأسد كحظ الفيلة بالقادسية! فقد اندفع هاشم بن عتبة فضربه بالسيف ضربة جدلته قتيلا، هنالك فرت الكتيبة تحتمي ببهرسير، وأدرك سعد رجاله وعرف فعالهم، فقبل رأس ابن أخيه هاشم إكبارا لقتلة الأسد، وقبل هاشم قدم عمه تقديرا لعطفه، ثم رفع سعد رأسه إلى السماء شكرا لله، واتجه بعد ذلك بنظره إلى ناحية المدائن وتلا قوله تعالى:
أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال .
وجعل سعد أول الليل يفكر في موقفه من المدائن، أيهاجمها وجنوده لا تزال تهزمهم نشوة الظفر، فهم أشد ما يكونون حرصا على اقتحامها؟ أم يريحهم أياما ثم يسير بهم إليها؟ لكنه منه على مقربة؛ فإذا هو وقف دونها يغري وقوفه أهلها بالحرص على الذود عنها، الخير إذن أن يأخذهم على غرة؛ لذلك أمر بعد أن ذهبت هدأة من الليل فارتحل الناس حتى نزلوا على بهرسير.
وبهرسير ضاحية للمدائن، تقع على ضفة دجلة اليمنى، وتقع المدائن قبالتها على ضفته اليسرى؛ فهي لذلك جزء منها وإن فصلها النهر عنها، والمدائن كلها تقع على نحو عشرين ميلا إلى الجنوب من بغداد التي كانت يومئذ قرية ليس لها على غيرها من قرى دجلة أي امتياز.
وكانت المدائن عاصمة إيران منذ عهد بعيد، خلفت بابل ثم فاقتها جلالا وبهاء وعظمة، وقد ظلت ولها جلالها مع ما أصابها من غزو الروم إياها واستيلائهم غير مرة عليها، ومع ما كان من اضطراب بلاطها وقيام الثورات فيها؛ لذلك كانت الأبصار تشرئب من جوانب العالم إليها، وكان اسمها يبهر خيال الناس جميعا ويثير فيه من معاني الروعة والسحر ما لا يثيره اسم رومية ولا اسم القسطنطينية؛ فقد جمعت من معاني الترف الشرقي أبهى صوره وأكثرها وحيا لآلهة الفن وشياطين الشعر، لا عجب وذلك شأنها أن يسير المسلمون إليهم وكلهم شوق لما سيشهدون فيها مما لم تره عين ولم تسمعه أذن، ولا عجب أن يزيدهم هذا التصور حماسة وإقداما ليصبح ما ظنوه خيالا قد تجسم أمامهم حقيقة واقعة.
سار سعد بالناس إلى بهرسير والحماسة تهز الجند هزا؛ لذلك كانوا كلما قدمت خيل عليهم وقفوا ثم كبروا غير مرة، لكنهم ألفوا أهلها تحصنوا بها وأغلقوا دونهم أسوارها، فلا سبيل إلى اقتحامها، ولا مفر لذلك من حصارها.
وحاصرها سعد وهو لا يخشى أن يبغته أحد من خلفه، فقد بث الخيول فأغارت على ما بين دجلة والفرات، فأصابوا مائة ألف فلاح جاءوا بهم أسرى، وحفروا الخنادق من حولهم، لكن هؤلاء الفلاحين لم يكونوا جندا محاربين، فلم يكن من أسرهم فائدة، ولم يكن في إطلاقهم من الأسر خطر؛ لذلك أشار شيرزاد دهقان ساباط على سعد فصرفهم إلى قراهم ليعملوا في الأرض ويكثروا من غلاتها، وكتب سعد إلى عمر بما صنع، فأقر الخليفة مشورة شيرزاد، فأمن أهل السواد من شواطئ دجلة إلى أرض العرب وأقاموا يفلحون الأرض، وأدى الدهاقين الخراج والجزية فازداد الفلاحون أمنا، وأقام سعد على حصار بهرسير وهو لا يخشى أن يبغت من خلفه، وهو مطمئن إلى أقوات جيشه.
ونصب المسلمون المجانيق وجعلوا يرمون بهرسير داخل أسوارها، ولم يهن الفرس لشدة هذا الرمي، فقد أيقنوا أنهم إن لم يردوا عدوهم عن مدينتهم انكشفت أمامه العاصمة وعظم الخطر عليها، وليس الدفاع عن بهرسير بالأمر العسير؛ فأسوارها قوية وحصونها منيعة، وجسر دجلة يصلها بالمدائن، وعلى هذا الجسر تجيء من أرجاء فارس المترامية أمداد لا تحصى وأقوات لا نهاية لها؛ لذا ثبتوا للحصار شهورا طوالا، يختلف المؤرخون أكانت تسعة أو ثمانية عشر شهرا، وفي أثناء هذا الحصار كانت قواتهم تتخطى الأسوار أحيانا تقاتل المسلمين لعلها تنزل بهم من الهزيمة ما يردهم على أعقابهم، لكن المسلمين كانوا لا يفتئون يظفرون بهذه القوات ويردونها إلى المدينة مجللة بالعار تحتمي بأسوارها، فلما طال الحصار واشتد بالفرس ما يصيبهم أخرجوا جيشا عليه من القواد من كانت للجند بهم ثقة أي ثقة، لكن هذا الجيش انهزم كذلك ورجع إلى المدينة، وفتت هزيمته في أعضاد الفرس وأدخلت في روعهم أن هؤلاء المسلمين لا غالب لهم.
وكانت أنباء الحصار والقتال تبلغ يزدجرد يوما فيوما، بل ساعة فساعة، فيتولاه الهم ويكاد يساوره اليأس، وطال ذلك به ورأى المسلمين بعد كل هذه الأشهر لا يهنون، ورأى وراءهم من ثراء العراق طعاما كرفغ التراب، ثم رأى الفرس يزداد تهافتهم وتضعف حماستهم، فأيقن أن بهرسير لا محالة صائرة إلى عدوه، عند ذلك بعث إلى سعد رسولا يعرض للصلح أن يكون دجلة حدا فاصلا بينه وبين العرب، «فلنا ما يلينا من دجلة وجبلنا، ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم.» لكن سعدا رفض مصالحة يزدجرد ورد رسوله، وكيف يصالحه وأمر عمر بفتح المدائن صريح لا لبس فيه! وكيف يصالحه بعد أن هزم جنده أهل بهرسير وأسروا منهم، وهم موشكون أن يقتحموا عليهم أسوارهم! ولم يكن الرسول قد بلغ يزدجرد ليبلغه رفض سعد بن أبي وقاص حين أمر بتشديد الحصار ومضاعفة الرمي بالمجانيق، ولم يجب أحد من بهرسير رماة المسلمين بنشابة ولا بسهم، فأيقن سعد أن حامية المدينة تخلت عنها، فنادى في الناس ونهد بهم ليقتحموها، وتسورها الرجال وفتحوا أبوابها فلم يجدوا بها من يرد عادية عليها، ولم يخرج إليهم منها إلا رجل نادى بالأمان علموا منه أن حامية بهرسير انتقلت إلى المدائن بأمر يزدجرد، وأنها أحرقت الجسر وجمعت كل السفن التي تجري فوق دجلة، ليبقى النهر بتياره المتدفع خط دفاع يرد الغزاة عن العاصمة العامرة.
دخل المسلمون بهرسير في جوف الليل، فلم يثنهم ذلك عن الاندفاع إلى ناحية دجلة يريدون عبوره إلى المدائن ليقتحموها كما اقتحموا ضاحيتها، ولم يجدوا الجسر يعبرون عليه ولم يجدوا سفنا تحملهم، فوقفوا على شاطئه، فرأوا أمامهم منظرا بهرهم، فأقاموا مبهوتين يحدقون فيه ملء عيونهم وملء قلوبهم ولا يكادون يصدقون ما يرون؛ بناء ضخم بالغ غاية الروعة والهيبة والفخامة يقوم أمامهم على الشاطئ الآخر إلى ارتفاع لم تألفه أبصارهم، ويميزه بياض لونه برغم دجى الليل المدلهم، ورق الليل وصفت السماء وسرى في الجو نسيم عذب زاده لطفا وزاد هذا المنظر الفذ روعة وجلالا؛ فأمسك الجند أنفاسهم وفتحوا عيونهم وأفواههم أن ملك الإعجاب عليهم كل حواسهم، وتلاحقت فرق الجند إلى النهر ووقفت على شاطئه تولاها البهر وكأنما سمرت في أماكنها، فلما أقبل ضرار بن الخطاب في زمرته، ورأى ما رأوا، نادى بأعلى صوته: الله أكبر! هذا أبيض كسرى! هذا ما وعد الله ورسوله! عند ذلك تعالت الأصوات بالتكبير من كل جانب وأيقن الناس جميعا أنهم بإزاء هذا الإيوان الذي طالما سمعوا به مذكورا في شعر الشعراء وأحاديث المحدثين، وجعلوا يكبرون حتى أصبحوا وكلهم الشوق ليعبروا إلى الإيوان، وليحيطوا به وليملئوا عيونهم منه وليدخلوه، وليروا تخت كسرى في بهوه العظيم، وليروا قائدهم جالسا عليه يعلن كلمة التوحيد فتجيبه الأصداء من كل جوانب القصر بأن صدق الله وعده، فكلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا، والله عزيز حكيم.
Неизвестная страница