والخلفاء والمؤمنين، لا يعرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية.» ويضيف البلاذري بعد أن يثبت هذا الكتاب أن الأسقف أفضى إلى خالد ذات ليلة بأن المدينة في عيد وأن أهلها في شغل، وأشار عليه أن يلتمس سلما، فجيء بسلمين فارتقى عليهما جماعة من المسلمين إلى أعلى السور، ونزلوا إلى الباب وليس عليه إلا رجل أو رجلان، فتعاونوا عليه وفتحوه عند طلوع الشمس، وكان أبو عبيدة من جانبه قد دخل باب الجابية عنوة، فنشر له الأسقف كتاب خالد، فقال بعض المسلمين: «والله ما خالد بأمير، فكيف يجوز صلحه؟» فقال أبو عبيدة: «إنه يجير على المسلمين أدناهم.» وأجاز الصلح.
وتذهب رواية أخرى إلى أنه لما طال الحصار واشتد الأمر على أهل دمشق دسوا إلى المسلمين من تحدث معهم في الصلح، فأصر المسلمون على المشاطرة؛ أي أن يكون لهم النصف في كل ما في دمشق، فتردد أهل المدينة في قبول ما عرض عليهم، فلما رأوا حاميتهم عاجزة عن الدفاع عنهم، وأن لا مفر لهم من التسليم، بعثوا إلى أبي عبيدة وحصلوا منه على أمان المدينة، ثم فتحوا أبوابها له، فدخلها هو وقواده وجيشه من غير قتال.
ويذهب بعض المستشرقين إلى أن حامية دمشق يئست من الدفاع عنها فغادرتها، فقرر سكانها التسليم ففتحوا مدينتهم للجيش العربي، ثم صالحهم أبو عبيدة بعد أن دخل المدينة واستقر بها.
هذه هي الروايات المختلفة في فتح دمشق، والمؤرخون متفقون مع اختلافها على أن المدينة فتحت صلحا ولم تفتح حربا، وهذا يرجح ما قدمنا من أن طول الحصار واليأس من مدد هرقل أديا بالدمشقيين إلى طلب الصلح فاختلف على شروطه، فأراد المسلمون أن يقتحموا أسوار المدينة ففتح أهلها أبوابها لهم، ولعل بعض هذه الأبواب قد تأخر ففتح عنوة، ثم كانت المفاوضات وكان الصلح.
ونود قبل أن نذكر شروط هذا الصلح أن نجتاز مع أبي عبيدة وخالد بن الوليد وزملائهما أسوار دمشق، وأن نسير هنيهة معهم خلال هذه المدينة العامرة ذات التاريخ الحافل والجمال الرائع وأن نلقي في أثناء مسيرتنا هذه النظرة على ما تحويه، فلهذه النظرة بشروط الصلح أوثق الصلة، تحدثت عن جمال الطريق المؤدي من اليرموك إلى دمشق، وعن جمال الغوطة، أما المدينة فتبذ هذا الجمال جلالا وبهاء؛ فهي ملتقى تجارة الشرق والغرب من أقدم العصور، وهي لذلك من أكثر المدن سكانا وأضخمها ثروة، يشقها طريق مستقيم يصل غربها بشرقها، ويجري من باب الجابية إلى الباب الشرقي، وتقوم على جانبيه متاجر لم ير العرب لها نظيرا في بلادهم، ولم يروا لها نظيرا في العراق، ويجري خلال المدينة نهر بردى بمياهه المتدفقة الصافية، وقد قامت حوله القصور الفخمة ذات الحدائق الغناء ترتفع خلالها نوافير المياه صاعدة في السماء، وما أكثر كنائس دمشق وأجملها! فهي من العمائر الرومانية المتفاوتة البهاء؛ يبلغ عددها خمس عشرة، وأعظمها كنيسة القديس يوحنا المعمدان، بنى الرومان هذه الكنيسة معبدا وثنيا قبل أن يدينوا بالمسيحية، فلما تنصروا جعلوها مكان عبادتهم وصلواتهم للسيد المسيح ولأمه العذراء البتول، ويقوم من حول هذه الكنائس والقصور والمتاجر ما اعتاد الرومان تشييده من مسارح وحمامات وملاعب، ما أشد ما يقف هذا كله نظر هؤلاء العرب الذين يمرون به! إنهم لم يشهدوا مثله فخامة وجلالا وعظمة، أين منه ما رأت عيونهم بصنعاء وبالحيرة! وأين منه الخورنق والسدير قصرا النعمان بن المنذر بن ماء السماء! ترى أية شروط للصلح يمليها عليهم هذا الثراء العظيم، وهذا الجمال الباهر؟ وهل تراهم يعفون عنه فلا يشاركون أصحابهم فيه؟ أو تراهم يحرصون على أن يكون لهم منه نصيب أقله نصفه؟!
تختلف الروايات في ذلك كاختلافها في فتح دمشق، ففي رواية للبلاذري أن الصلح جرى على ما في كتاب خالد بن الوليد لأسقف دمشق، وهو الكتاب الذي أثبتنا نصه من قبل، والذي يجعل للمسلمين الجزية دون غيرها، يأخذونها لقاء تأمينهم أهل المدينة على أنفسهم وأموالهم ودورهم وكنائسهم وسور مدينتهم، ويثبت البلاذري تأييدا لهذا الرأي قول أبي عبد الله الواقدي: «قرأت كتاب خالد بن الوليد فلم أجد فيه أنصاف المنازل والكنائس.» ويضيف الواقدي أن المسلمين إنما نزلوا منازل دمشق واستقروا بها؛ لأن أصحاب هذه المنازل تركوا المدينة لما فتحت، ولحقوا بهرقل إذ كان يقيم بأنطاكية، فأصبحت منازلهم لا مالك لها فنزل المسلمون بها.
أما الطبري فقد روى أن صلح دمشق كان على المقاسمة على الدينار والعقار، وعلى جزية دينار عن كل رأس، ويفسر ابن كثير المقاسمة في المال والعقار بأن جانبا من المدينة فتح عنوة فكان كله حقا للمسلمين، على حين فتح جانب منها صلحا فوجبت عليه الجزية دون سواها، ولذلك أخذ المسلمون نصف ما في المدينة من كنائس ومنازل وأموال بحكم الفتح عنوة، وفرضوا عليها الجزية بحكم الفتح صلحا.
ويقرر الذين يذكرون المقاسمة في الكنائس والمنازل والأموال أن المسلمين أخذوا سبع كنائس من الكنائس الأربع عشرة القائمة بدمشق، وأنهم قسموا الكنيسة الكبرى، كنيسة القديس يوحنا المعمدان، فتركوا نصفها للنصارى يقيمون فيه صلواتهم ويتلون فيه الإنجيل، وجعلوا النصف الآخر مسجدا للمسلمين يتلى فيه القرآن ويذكرون فيه اسم الله وينادى من فوقه للصلاة.
وظلت هذه القسمة نحوا من ثلاثين سنة طلب في أثنائها معاوية بن أبي سفيان، ثم طلب عبد الملك بن مروان أن يزيدا في المسجد بأن يضاف جانب من الكنيسة إليه، ومع ما عرضا في ذلك من مال طائل، لقد أبى النصارى عليهما ورفضوا إجابة طلبهما تمسكا منهم بحكم الصلح الذي تم عند فتح دمشق، ولما استخلف الوليد بن عبد الملك طلب إلى النصارى ما طلب سلفاه وعرض عليهم مالا طائلا، فأبوا عليه كما أبوا عليهما، فهددهم ليهدمنها إن لم يقبلوا عرضه، وخوفوه غضب الله فلم يخف وهدمها وأدخلها في المسجد، فلما استخلف عمر بن عبد العزيز شكا النصارى إليه ما صنع الوليد بكنيستهم، فكتب إلى عامله يأمره بأن يرد عليهم ما كان لهم، وكره فقهاء دمشق وأهلوها من المسلمين أمر عمر وقالوا: «نهدم مسجدنا بعد أن أذنا فيه وصلينا ويرد بيعة!» وعرضوا على النصارى أن يعطوهم كنائس الغوطة التي أخذت عنوة وصارت في أيدي المسلمين، على أن يمسكوا عن المطالبة بما كان لهم من كنيسة يوحنا، فرضي النصارى، وأقر عمر بن عبد العزيز هذا الاتفاق.
فلولا أن صلح دمشق كان على المقاسمة لما جعل جانب من كنيسة يوحنا مسجدا، ولما طلب معاوية وعبد الملك أن يدخلا ما بقي بأيدي النصارى في المسجد، ولما هدم الوليد الكنيسة، ولما شكا النصارى الأمر إلى عمر بن عبد العزيز، كذلك يقول الذين يذكرون أن صلح دمشق كان على المقاسمة، وأنه لم يقتصر على الجزية، وقد يجيبهم مخالفوهم بأن كنيسة يوحنا لم تقسم في صلح خالد ولم يقسم غيرها من الكنائس والمنازل والأموال، فهذا الصلح لم يفرض إلا الجزية، وإنما طلب معاوية بن أبي سفيان وطلب عبد الملك بن مروان أن تكون الكنيسة مسجدا بعد أن أصبحت دمشق عاصمة الدولة الإسلامية، وبعد أن زاد عدد المسلمين فيها على عدد النصارى، وبعد أن أصبح الأمر فيها لأمير المؤمنين، فإن يكن النصارى قد أبوا عليهما ما طلبا فتركا الكنيسة لم يمساها، فذلك الدليل على التسامح الإسلامي وعلى احترام عهد الصلح مع ما كان من تبدل الأحوال؛ إذ صارت دمشق عربية إسلامية بعد أن كانت مسيحية رومية، ومجاراة هذا التبدل هي التي طوعت للوليد بن عبد الملك أن يفعل ما فعل، ولهذا التطور رضي النصارى في عهد عمر بن عبد العزيز أن يدعوا الكنيسة مسجدا للمسلمين، وأن يأخذوا كنائس الغوطة خارج أسوار العاصمة الإسلامية.
Неизвестная страница