وتذهب رواية إلى أن عمر أول من جمع القرآن في المصحف، وهذا قول يخالف التواتر، على أن التواتر يقر بفضله في المشورة على أبي بكر بالجمع وإقناعه به، فلو أن عمر لم يتنبه إلى ما قد يتعرض له القراء في غير اليمامة من المواطن، وما قد يترتب على ذلك من ذهاب قرآن كثير، لما فكر الصديق في جمع القرآن ولما أقدم عليه، بل لو أن عمر لم يراجع أبا بكر حين قال: «كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله.» ولم يقنعه بضرورة الجمع لما حرص أبو بكر عليه، ولا دعا زيد بن ثابت ليقوم به، فإذا كان لأبي بكر من الفضل في هذا العمل العظيم ما جعل علي بن أبي طالب يقول: «رحمة الله على أبي بكر! كان أعظم الناس أجرا في جمع المصاحف.» فلا ريب في أن عمر يشاركه في الأجر والفضل جميعا، وفي أن المسلمين مدينون له دينهم لأبي بكر في جمع كتاب الله، وهذه واحدة من نفحات روحه العظيمة، ومن أجل هذه النفحات وأعظمها خيرا وبركة.
لعلك رأيت فيما سبق ما بلغه عمر من مكانة في عهد الصديق، ورأيت أنه كان في هذا العهد كما كان في صحبة رسول الله رجل مشورة وحسن سياسة أكثر مما كان رجل مواقع وغزوات، بل لقد رأيته كيف خالف أبا بكر في قتال من منعوا الزكاة، كما ود قبل ذلك ألا يتم بعث أسامة، فلما رأى سياسة الجهاد والحزم تؤدي إلى الرفعة والنصر، آمن بها، وأيد أبا بكر فيها بكل قوته، أليست سياسة الجهاد هي التي قضت على الردة وأعادت المرتدين إلى حظيرة الإسلام، وجمعت شبه الجزيرة إلى لواء واحد؟ أولم تفتح هذه السياسة أبواب العراق وتمهد للإدالة من دولة كسرى؟ لا عجب إذن أن يؤمن عمر بها، وأن يندفع في تأييدها اندفاعه في تأييد كل ما يؤمن به.
لما تقدم خالد بن الوليد في العراق، ودوت أنباء نصره في شبه الجزيرة وما حولها، عزم أبو بكر على فتح الشام، وأصبح يوما فدعا إليه أهل الرأي وعمر في مقدمتهم، وذكر لهم أن رسول الله كان عول على أن يصرف همته إلى الشام، فقبضه الله إليه، واختار له ما لديه، «والعرب بنو أم وأب، وقد أردت أن أستنفرهم إلى الروم بالشام، فمن هلك منهم هلك شهيدا، وما عند الله خير للأبرار، ومن عاش منهم عاش مدافعا عن الدين، مستوجبا عند الله عز وجل ثواب للمجاهدين.» وطلب إليهم رأيهم في ذلك، فكان عمر بن الخطاب أسبقهم إلى إجابته، قال: «والله ما استبقنا إلى شيء من الخير قط إلا سبقتنا إليه، قد والله أردت لقاءك بهذا الرأي الذي ذكرت، فما قضى الله أن يكون ذلك حتى ذكرته الآن، فقد أصاب الله بك سبل الرشاد، سرب إليهم الخيل في أثر الخيل، وابعث الرجال تتبعها الرجال، والجنود تتبعها الجنود، فإن الله عز وجل ناصر دينه، ومقر الإسلام وأهله، ومنجز ما وعد رسوله.»
لم يتحمس الحاضرون لهذه الدعوة مع ما كان من كلام أبي بكر وعمر، بل تداولوا الحديث وقد أخذتهم هيبة الروم، فلما فرغوا منه عاد أبو بكر يدعوهم للتجهز فسكتوا، عند ذلك صاح فيهم عمر: «ما لكم يا معشر المسلمين لا تجيبون خليفة رسول الله إذ دعاكم لما يحييكم!» وهزت هذه الصيحة الحاضرين، فرضوا الجهاد وإن آثروا أن يستعين الخليفة على عدوه بأهل اليمن وأهل شبه الجزيرة جميعا.
قف هنا وقفة أخرى، فهذا التغير الذي طرأ في اتجاه عمر، وأدى إلى تأييد سياسة الغزو بكل هذه القوة، يعزز تصويرنا السابق لطريقة تفكيره، ويزيدنا اقتناعا بأنه كان رجلا عمليا لا يقيم وزنا للفكرة من حيث هي، ولذاتها، بل من حيث ما تترك من أثر في واقع الحياة، ذلك ما ذكرناه حين صورنا طريقة تفكيره لمناسبة إسلامه، وانقلابه من سياسة الحذر إلى سياسة الغزو في عهد الصديق يزيد هذه الصورة جلاء ووضوحا، فهو قد كان للإسلام مباعدا، وكان على المسلمين حربا حين لم يكن للمسلمين من البأس ما يحمل غيرهم على الاعتداد بهم، فكان يرى وجودهم خطرا على نظام مكة وعلى مكانتها الدينية، فلما رأى المسلمون يثبتون على دينهم ويحتملون الأذى والتضحية في سبيله، ويبلغ بهم ذلك حتى يهاجروا عن وطنهم، تبين له ما لهذا الدين الجديد من سلطان على نفوس من يدينون به، وأيقن أنهم لن يغلبوا، عند ذلك راجع نفسه وجعل يفكر فيما يسمع من القرآن، حتى آمن بالله ورسوله وما جاء من عند الله، فلما آمن أيد المسلمين بمثل القوة التي كان يحاربهم بها من قبل، وهو قد كان لسياسة أبي بكر في القتال مباعدا، لم يطب نفسا ببعث أسامة ولم يرض قتال الذين منعوا الزكاة، فلما جهز أبو بكر المدينة لحروب الردة وقف بعيدا عن هذا التجهيز، فلا يكاد المؤرخون يذكرون له يومئذ رأيا، لكن سياسة أبي بكر في الغزو نجحت فقضت على المرتدين وفتحت العراق، عند ذلك انقلب عمر يؤيدها بكل قوته، كما آمن فانقلب يؤيد الإسلام بكل قوته.
وقد كان لهذا الاتجاه الجديد في تفكير عمر أثره من بعد في استخلاف أبي بكر إياه، وفي نجاح سياسة الفتح التي بدأها أول الخلفاء، وسنرى من بعد كيف أدت حماسة عمر لهذه السياسة إلى إقامة الإمبراطورية الإسلامية على أنقاض الإمبراطوريتين الفارسية والرومية.
على أن ما حدث يومئذ من تغير في اتجاه عمر السياسي لم يصحبه تغير في تفكيره الاجتماعي، وكان تفكير عمر في الناحية الاجتماعية يخالف تفكير الصديق في طائفة من الأمور الجوهرية مخالفة تبلغ بعض الأحيان حد المناقضة، كان أبو بكر شديد الحرص على المساواة بين المسلمين لا يفرق فيهم بين عربي وعجمي، ولا بين السابقين إلى الإسلام ومن دانوا بعدهم به، فتح في عهده منجم للذهب على مقربة من المدينة فكان يسوي في قسمة الذهب الذي يجيء منه بين المسلمين، وقيل له في تفضيل السابقين إلى الإسلام على قدر منازلهم، فكان جوابه: «إنما أسلموا لله ووجب أجرهم عليه، يوفيهم ذلك في الآخرة، وإنما هذه الدنيا بلاغ.» ولقد دعا أهل مكة يشاورهم في غزو الشام ويستمدهم إليه، كما فعل مع أهل المدينة، أما عمر فكان يميل بتفكيره إلى نظام الطبقات، كان يؤثر السابقين إلى الإسلام، ويؤثر أهل البيت على هؤلاء السابقين، وقد ترك هذا التفكير العمري أثرا في حياة المسلمين وفي سياسة الدولة الإسلامية وجه التاريخ الإسلامي في كثير من الحقب، ولا يزال باقيا إلى اليوم، وسنرى من ذلك، حين الكلام عن الديوان وعن نظام الحكم، ما لا يدع مجالا للريب فيه.
وهو لم يكن يخفي هذا الميل إلى تفضيل بعض الطبقات على بعض في عهد أبي بكر، لما شاور الصديق أهل مكة في غزو الشام واستمدهم إليه، على نحو ما فعل مع أهل المدينة، عارضه عمر في ذلك معارضة أساسها الحرص على أن يكون للمهاجرين والأنصار من السابقين إلى الإسلام أولوية في الرأي والسلطان على سائر المسلمين، وقد اعترض سهيل بن عمرو رأي عمر في ذلك وقال له: «ألسنا إخوانكم في الإسلام وبني أبيكم في النسب! أفإنكم أن كان الله قدم لكم في هذا الأمر قدما صالحا لم نؤت مثله قاطعون أرحامنا ومستهينون بحقنا؟» وأجابه عمر في صراحة: «إني والله ما قلت ما بلغكم إلا نصيحة لمن سبقكم للإسلام وتحريا للعدل فيما بينكم وبين من هو أفضل منكم من المسلمين.»
على أن ما رآه عمر من تفضيل السابقين للإسلام وتفضيل أهل بدر وتفضيل آل البيت، لم يكن مصدره الهوى، وإنما كان مصدره الاقتناع، فلم يكن له أي أثر في معاملته لهؤلاء جميعا وفي عدله بينهم في خلافة أبي بكر وفي خلافته، ذلك أنه كان مفطورا على العدل، كمل في نفسه معناه وتجسمت في بصيرته صورته، ولي القضاء في عهد أبي بكر عامين فلم يختلف إليه متقاضيان، ولا ريب أن قد كان لاشتغال المسلمين بالغزو والفتح في حروب الردة وفي فتح العراق والشام أثر في ذلك كبير، ولا ريب كذلك في أن ما اشتهر عن عمر من العدل قد كان له فيه أثر أي أثر، فمن العوامل التي تشجع الناس على التقاضي طمع من لا حق له في أن يخطئ القاضي فيضل طريق الحق، أو يحابي فيحيد عن هذا الطريق، ولم يعرف الناس أن عمر كان يحابي في الحق أحدا، أو أنه كان ينظر في الأمور بغير روية أو تمحيص يهديانه الحق ويكشفان له عنه، لا عجب وذلك شأنه ألا يذهب إليه متقاض يلتمس عنده غير الحق، ثم لا عجب أن يخشى الباغي سطوته، فيرجع عن بغيه ويرد إلى صاحب الحق حقه.
وكان العدل في فطرة عمر منذ نشأته، ثم نمت فكرة العدل في نفسه حتى بلغت الكمال؛ لأنه سما بعقله وقلبه فوق شهوات هذه الحياة الدنيا، فلم يجعل لها عليه سلطانا، اشتغل بالتجارة صدر شبابه فكفاه منها أن ترزقه وترزق عياله رزق كفاف لا رزق نعمة وترف، وكان يذهب في تجارته إلى العراق وإلى الشام واليمن، فكان أشد حرصا على مقابلة الأمراء والحكماء من أهل هذه البلاد ليزداد بالتحدث إليهم علما، منه على أن تزداد تجارته ربحا فيصبح من الأغنياء، فلما أسلم اتجه به إسلامه شيئا فشيئا إلى ناحية التطهر، فاتخذ من التقشف وسيلته إلى هذه الغاية، لذلك استغنى عما في أيدي الناس، فلم يكن له عند أحد منهم حاجة، ولم يكن له في أحد منهم مطمع أو مأرب، ولعل ما عرف عنه من غلظة قد دفعه إلى هذا التطهر وأعانه عليه، فهو لم يكن يبالي أن يقول لكل إنسان كل ما يعتقده من غير مداراة أو التماس للرضا، ألم يذهب إلى رسول الله إثر عهد الحديبية يقول له: «ألست برسول الله؟ أولسنا بالمسلمين؟ أوليسوا بالمشركين؟ فعلام نعطي الدنية في ديننا!» ولم يكن عمر يصطنع هذه الجرأة معتزا بها ما استغنى عن الناس، فإذا احتاج إليهم دارى وتزلف، فإنما يداري ويتزلف من تذله الدنيا وتستهويه، فأما من أذل الدنيا مستغنيا عنها فهو أشد استغناء عن الزلفى وعن المداراة، وذلك شأن المتطهرين أولي النفوس الكبيرة والقلوب المصفاة، وكان عمر في الطليعة من هؤلاء.
Неизвестная страница