صلى الله عليه وسلم
من يكتبون له الكتب والرسائل، وكانت هذه الكتب تحفظ صورها وتحفظ الردود عليها في داره بالمدينة، ولم يكن له بيت مال؛ لأنه كان يوزع الفيء، ويوزع الصدقات أول ما يقبضها، وصنع الصديق صنيعه؛ فكان يحفظ في داره كتبه ورسائله إلى أمراء جنده، وإلى المرتدين الذين بعث هؤلاء الأمراء لقتالهم، وإلى من ندبهم من القواد والجند للسير إلى العراق والشام، وصنع أمراء الجند صنيعه، فكانوا يحفظون في مضاربهم رسائلهم إلى الخليفة، وأوامرهم إلى الجند، وكتبهم إلى العدو، وعقود الصلح التي تبرم بينهم وبين البلاد التي يظفرون بها ويصالحون أهلها، وكان الصديق يوزع ما يجيئه من الفيء لا يبقي منه شيئا، فلما اتسعت في أيام عمر رقعة المملكة، وتضاعفت بذلك أعمال الدولة، وعينت لجندها مسالح فيما وراء حدودها، وزاد المال الذي يرد إليها، لم يكن بد من مواجهة هذا الطور الجديد بوسائل تكفل دقة ضبط ذلك كله ضبطا تتسنى معه الهيمنة على مصالح الدولة، وإقامة العدل بين الناس، وتساس به الأقطار المفتوحة سياسة حكيمة ترضي أهلها عن الحكم الذي قام فيهم مقام حكم الأكاسرة وحكم القياصرة، وقد رأيت في هذا الفصل وفيما سبقه كيف تم ذلك كله في أناة وحزم وحكمة وروية، وكيف كان عمر يعالجه مسايرا أطوار الفتح، لا يسبقها ولا يستأخر عنها.
والحق أن المجهود الضخم الذي نظم الحكم الإسلامي، في الفترة التي انقضت بين هجرة رسول الله وقيام الإمبراطورية العمرية، جدير بكل إجلال وإكبار، فأين من هاته الإمبراطورية العظيمة ونظامها الجديد ما كان من تولي رسول الله أمور المدينة بعد هجرته إليها ومؤاخاته بين المسلمين فيها! نعم أين من هذه الحكومة المدينة التي تشرف على بلاد فارس والعراق والشام ومصر وشبه الجزيرة العربية كلها، تلك الحكومة البدوية التي لم تتعد حدود المدينة قبل السنة السادسة للهجرة، حين عقد رسول الله عهد الحديبية مع أهل مكة! وهذا العهد هو الذي نزل فيه قوله تعالى:
إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما .
وقد بدأ المسلمون بعد هذا العهد حياة جديدة تطور معها نظام الحكم شيئا فشيئا، ففي السنة السابعة بعث رسول الله إلى الأمراء والملوك يدعوهم إلى الإسلام، فكان رد كسرى ثم وفاته مؤذنين بإسلام عامله الفارسي على اليمن، وانضوائه إلى لواء النبي العربي، وتوليه الأمر في اليمن باسمه، وفي السنة الثامنة فتحت مكة ثم فتحت الطائف وأسلم أهلها، فبعث رسول الله عاملا من لدنه إلى كل منهما، وفي السنة التاسعة أقبلت وفود شبه الجزيرة إلى المدينة تعلن إسلامها وإسلام القبائل التي تنتمي إليها، فبعث إليها رسول الله في السنة العاشرة عماله يفقهون الناس في الدين ويجبون منهم الصدقات، وفي السنة الحادية عشرة قبض رسول الله، وبويع أبو بكر، فكان قضاؤه على الردة إيذانا بقيام نظام جديد في شبه الجزيرة، وفي السنة الثانية عشرة بدأ الصديق التمهيد للفتح وللإمبراطورية بغزو العراق وغزو الشام، وفي السنة الثالثة عشرة قبض الصديق، وبويع عمر، فتم في عهده فتح العراق وفارس والشام ومصر وبرقة، وأصبحت الإمبراطورية الإسلامية بذلك حقيقة واقعة، هذه أحداث ضخمة تمت في أقل من خمس عشرة سنة ، فغيرت وجه التاريخ ووجهت الحضارة الإنسانية وجهة جديدة؛ وكان المجهود الذي أتمها جديرا بكل إجلال وإكبار.
وفي هذه السنوات المعدودة كان نظام الحكم يتطور شيئا فشيئا من البداوة العربية إلى الصورة المدنية التي رسمناها. على أن هذه الصورة ظلت في جوهرها عربية إسلامية، أقامت النظام الجديد على أساس من الشورى، ثم دفعته خطوات تقدم بها أحدث المبادئ التي كانت معروفة في ذلك العصر، فقد كان عاهل الفرس وعاهل الروم يزعمان أنهما يستمدان سلطانهما من الله، أما أمير المؤمنين فكان يستمد سلطانه ممن بايعوه، ولم يكن لسلطان العاهلين حد يحول بينهما وبين التصرفات المطلقة في حرية العباد وفي رقابهم بما يريان، أما أمير المؤمنين فكان مقيدا بما جاء في كتاب الله، ومما جرت به سنة رسوله، ثم إن مشورة أولي الرأي كان لها وزن أي وزن، وكان أصحاب هذه المشورة يبدونها أحرارا في حدود إيمانهم الصادق بالله ورسوله، وبالرسالة التي ألقي على العرب تبليغها للناس في أقطار الأرض كافة، وكانت حريتهم، وحرية غيرهم من المسلمين، تقوم على أساس من المساواة الصحيحة بينهم جميعا أمام الله وما أمر به ونهى عنه؛ فلا فضل لأمير على رجل من سواد الناس، ولا لعربي على أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح، وإيمانهم بهذه المساواة وبهذه الحرية هو الذي سما بإخائهم إلى حيث يحب كل واحد منهم لأخيه ما يحب لنفسه.
هذه هي المبادئ السامية التي تطور الحكم الإسلامي في ظلالها فأعزت المسلمين، واحترام عمر لهذه المبادئ، وحرصه البالغ على دقة تطبيقها، هما موضع مجده وفخره، وحيثما كانت المبادئ التي يتعامل الناس على أساسها ويتطور نظام الحكم في ظلالها سليمة محترمة بين الجميع، وكان الحكم عادلا نزيها، كانا من أقوى العوامل لعظمة الأمة وجلال مجدها، ولذا بلغ المسلمون ما بلغوا في عهد عمر، فقامت الإمبراطورية الإسلامية في عهده ثم قامت من بعده، متينة الأساس شامخة البناء.
هوامش
الفصل الثالث والعشرون
الحياة الاجتماعية في عهد عمر
Неизвестная страница