ونعود الآن إلى تدوين الديوان وفرض العطاء، والديوان كلمة فارسية معربة، معناها مجتمع الصحف، يكتب فيها رجال الجيش ومن فرض لهم العطاء، وقد تطور مدلول هذه الكلمة من بعد، فصارت تطلق على الموضع الذي تحفظ فيه سجلات الدولة، ثم صارت تطلق على الأمكنة التي يجلس فيها القائمون على هذه السجلات، كما تطلق على السجلات نفسها، وبديهي أنها لم تتعد في عهد عمر معناها الأول، فكان الديوان سجلا أحصي فيه من فرض لهم العطاء من رجال الجيش ومن غيرهم، وذكر فيه أمام كل اسم عطاء صاحبه.
عزم عمر على تدوين الديوان، فدعا عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم، وقال لهم: «اكتبوا الناس على منازلهم.» فكتبوهم مبتدئين ببني هاشم، ثم بني تيم قبيلة أبي بكر، فبني عدي قبيلة عمر، فلما رأى عمر ما صنعوا قال: «وددت والله لو أنه هكذا، ولكن ابدءوا بقرابة النبي
صلى الله عليه وسلم
الأقرب فالأقرب حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله.» روي أن بني عدي عرفوا ما صنع فجاءوا إليه وقالوا له: أنت خليفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛
2
فلو جعلت نفسك حيث جعلك هؤلاء القوم! فنظر إليهم شزرا وأجابهم: «بخ بخ بني عدي! أردتم الأكل على ظهري وأن أذهب حسناتي لكم! لا والله حتى تأتيكم الدعوة، وإن أطبق عليكم الدفتر (يعني أن تكتبوا آخر الناس)، إن لي صاحبين سلكا طريقا، فإن خالفتهما خولف بي، والله ما أدركنا الفضل في الدنيا ولا نرجو ما نرجو في الآخرة من ثواب الله على ما عملنا إلا بمحمد
صلى الله عليه وسلم ؛ فهو شرفنا وقومه أشرف العرب، ثم الأقرب فالأقرب.»
هذه نزعة جديدة أريد بها تقسيم الناس طوائف بعضها فوق بعض درجات، وهي نزعة لم ينزعها أبو بكر، ولم ينزعها عمر نفسه في أول عهده، فالقرآن لم يفضل طبقة من المسلمين على طبقة، ولم يزد جماعة في الرزق لنسبهم على نحو ما فعل عمر في الديوان، ولم يجعل الناس طبقات يمتاز بعضهم على بعض بالنسب، ويكرم بعضهم عند الله على بعض بغير التقوى، وذلك قول عمر نفسه: «والله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال وجئنا بغير عمل فهم أولى بمحمد منا يوم القيامة، فلا ينظر رجل إلى القرابة وليعمل لما عند الله، فمن قصر به عمله لم يسرع به نسبه.» على أن هذا المنزع الجديد الذي نزعه عمر، لم يقف عند ترتيب الأسماء في السجل والبدء بالأقرب فالأقرب من رسول الله، بل تعدى ذلك إلى فرض العطاء؛ فأنشأ طوائف ما كان لأيها أن تبقى، وقد ترك هذا المنزع في الحياة الإسلامية أثرا لا يزال باقيا إلى اليوم.
فضل عمر بعض المسلمين على بعض في العطاء، فخالف في ذلك أبا بكر؛ إذ كان يسوي بينهم في القسمة، وقد قيل للصديق يوما: ألا تفضل السابقين إلى الإسلام؟ فكان جوابه: «إنما أسلموا لله وعليه أجرهم، يوفيهم ذلك يوم القيامة، وإنما هذه الدنيا بلاغ.» وذكر صنيع الصديق لعمر حين أراد تفضيل السابقين فقال: «لا أجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه.» ولذا فضل أهل بدر على غيرهم، ثم جعل من بعدهم درجات، على أنه فضل الأدنين من قرابة رسول الله، لم ينظر في ذلك إلى جهاد ولا إلى سابقة في الإسلام؛ ففرض للعباس بن عبد المطلب عم النبي اثني عشر ألف درهم، ولصفية ابنة عبد المطلب أخته ستة آلاف درهم، وفرض لكل واحدة من نساء النبي عشرة آلاف درهم إلا من جرى عليها الملك؛ لكنهن قلن: ما كان رسول الله
Неизвестная страница